كشفتْ التطورات التي شهدتْها مصر في أيلول\سبتمبر مزيجاً غريباً من القمع الشديد وعنف الدولة من ناحية وهشاشة واضحة للنظام من ناحية أخرى. وظهر الممثل والمقاول محمد علي، الذي انقلب إلى ثوري، في سلسلة من الفيديوهات على اليوتيوب فضح فيها ما زعم أنها صفقات فاسدة تورّط فيها مسؤولون عسكريون كبار في نظام عبد الفتاح السيسي. وقد حظيتْ الفيديوهات بمشاهدات واسعة وغذَّتْ الجدل السياسي بين المصريين، والذي تمحورَ حول الدور الاقتصادي للجيش والفساد، وسوء إدارة الأموال العامة. ولم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى علّق السيسي على هذه المزاعم، بشكلٍ لا يخلو من مفارقة، مؤكِّداً كثيراً منها ومعترفاً ببناء القصور الرئاسية، والتي اعتبرها نوعاً ما لصالح مصر ومن أجلها. وبعد أسبوع، خرجت تظاهرات نادرة معادية للنظام في عدد من المدن بينها القاهرة. وكان رد فعل النظام قاسياً واعتقلَ المئات من المحتجين، هذا إذا لم يكن الآلاف (وعلى ما يبدو اعتقل عابري السبيل أيضاً). واشتدّتْ الحملة وتوسَّعت كي تشمل عشرات الناشطين وأعضاء الأحزاب المعارضة وأساتذة الجامعات. وبعد أسبوع، وبالرغم من دعوات محمد علي لمزيد من المظاهرات، لم يخرج أحد تقريباً. انجلت العاصفة وخرج النظام على ما يبدو سالماً، لكن هل فعلاً خرج سالماً؟
أقول إن أحداث أيلول\سبتمبر 2019 كشفتْ تماماً عجز النظام عن مأسسة سلطته بالرغم من مرور ست سنوات على وجوده في السلطة، وبالرغم من جميع المحاولات السابقة لجعل حكمه طبيعياً من خلال إصدار دستور ثم تعديله، وتشكيل برلمان والقيام بحملتين انتخابيتين للرئاسة (ولو أنهما كانتا تحت السيطرة إلى حد كبير). ولم يخدم القمع الشديد وعنف الدولة في أعقاب انقلاب 2013 كوضعين ضرورين لتأسيس نظام استبدادي جديد بعد فترة من الجيشان والفوضى الثورية. وبعد مرور ست سنوات لم يتمأسس النظام ولم تصبح الحياة طبيعية في ظل حكمه. ذلك أن القمع الشديد وواسع الانتشار وضْعٌ ضروري للاشتغال الروتيني للنظام. إلا أن القمع وعنف الدولة لم يكونا أوضاعاً تأسيسية، بل تحوّلا إلى أوضاع يومية للحكم كما أشار جوشوا ستاتشر Joshua Stacher في مقال نشره في 2015. وفي الحقيقة، ما حصل هو أن القمع لم يشتدّ فحسب، بل اتسع نطاقه أيضاً مع مرور الوقت. وما بدأ في البداية كإجراءات ضد منظمات وشبكات المعارضة السياسية (على نحو رئيسي الإخوان المسلمون وحلفاؤهم) توسع في الحال كي يشمل جماعات المجتمع المدني والإعلام الخاص والمستقل والمجال العام، وليس المجال السياسي فحسب.
صار القمع مفيداً بعد فرض إجراءات التقشف، وخاصة بعد تبني البرنامج الذي يُشرف عليه صندوق النقد الدولي في تشرين الثاني\نوفمبر 2016. وتمكّنت الحكومة من تنفيذ دورات خفض الدعم على الوقود والغذاء، ورفع أسعار الخدمات العامة وفرض ضرائب استهلاك من خلال توظيف الآلة القمعية ذات الفعالية العالية ضد دوائر اجتماعية أكبر لم يكن معظمها سياسياً، أو معارضاً للنظام. وشمل القمع كثيراً من ميادين السياسة بما فيه الاقتصاد وحتى السياسة الخارجية (مثلاً التنازل عن جزيرتيْ البحر الأحمر للمملكة العربية السعودية في 2015) وهدف أيضاً إلى إخضاع مجموعات اجتماعية أحدث وأكبر. وبعد البدء بإعادة الهيكلة الاقتصادية استهدف عنف الدولة فقراء المدن والطبقات الوسطى المُفْقَرة من أجل تحطيم مقاومتهم وللتحكم بأي عمل جماعي محتمل. وتجلّى هذا لأول مرة في رفع أسعار مترو القاهرة في أيار\مايو 2018، الذي أثار بعض الاحتجاج وجُوبِه بنشر الشرطة في محطات مترو أساسية. حمل هذا التوظيف للعنف طابعاً سياسياً كما حدث بعد تمرير قوانين التقشف غير الشعبية. ويجب التفريق بينه وبين القمع الاجتماعي الذي كانت الدولة منخرطة فيه عادة في مصر ضد الجماعات الريفية والمدينية المهمشة كجزء من إعادة تدعيم الهرمية الاجتماعية والنظام العام. على العكس، إن القمع السياسي يستهدف معارضة أفعال الدولة بشكل علني (أو غياب الفعل لديها)، وهذا عنصر غائب بشكل كبير في القمع الاجتماعي. وإذا عبّرنا عن الأمر ببساطة، صار قمع الدولة على نحو متزايد النوع الجديد من العلاقات بين الدولة والمجتمع في ظل النظام الحالي. وتعكس مركزية القمع والعنف المأْسَسَة السطحية للنظام. ويشيرُ مصطلح المأسسة، كما يُعَرَّف في أدبيات العلوم السياسية للتيار السائد، إلى سيرورة لوضع قواعد رسمية وغير رسمية لممارسة السلطة داخل أجهزة الدولة وكذلك بين الدولة والمجموعات الاجتماعية. واعتُقِد أن المأسَسة ستجعل ممارسة السلطة أمراً روتينياً وطبيعياً، وتقود تحويل القوة السياسية إلى سلطة، والتي تعمل بسلاسة أكبر ولجوء أقل إلى القوة. وكما قال نيكولو مكيافيلي منذ قرون كثيرة في كتابه الأمير إن الأفعال الأولية للعنف واغتصاب السلطة والجريمة وأفعال القوة الأخرى تضع الأسس للفعل الاستبدادي. ففي الفصل الثامن الذي يحمل عنوان "حول أولئك الذين حصلوا على الأمارة من خلال الخبث والشر"، كتب ماكيافيلي:
وهنا يجب أن نشير أنه حين يقوم المغتصب بالاستيلاء على دولة يجب عليه أن يدرس بدقة كل تلك الإصابات التي من الضروري بالنسبة له أن يُحدثها، وأن يحدثها كلها في ضربة واحدة كي لا يضطر إلى أن يكررها كل يوم، وهكذا إذا لم يزعزع الرجال لن يتمكن من أن يطمئنهم، ويربحهم من خلال الفوائد. إن من يتصرف بخلاف هذا، إما بسبب الجبن أو النصيحة الشريرة، مجبر دوماً على إبقاء السكين في يده، ولا يستطيع أن يعتمد على أتباعه ولا يستطيعون هم ربط أنفسهم به، بسبب أخطائهم المتواصلة والمتكررة.
جرتْ العادة أن يكون التحدي الرئيسي هو تحويل القوة إلى أشكال أكثر "شرعية" من السلطة من شأنها أن تجيز استخدام القوة كاستثناء وليس كقاعدة في الممارسة اللاحقة للسلطة. ويبدو أن النظام في مصر لم يصل إلى هذه النقطة. ومن غير المحتمل أيضاً أن يصل إليها في أي وقت في القريب العاجل بسبب الديناميات الاقتصادية والسياسية العاملة. فقد كشفت الأزمة الأخيرة هذا بشكل واضح تماماً. ولا يبدو أن هناك وسطاء فاعلين أو شبكات أو آليات في حالة عمل كي توجّه رسائل أو موارد مادية لدوائر اجتماعية كبيرة. وكان البرلمان غائباً من المشهد أثناء الأزمة. وكان مفتاح بقاء النظام هو التلاحم الشديد المتواصل بين أجهزة الدولة القمعية المسؤولة عن ممارسة العنف، وعادة كان يتم هذا في انتهاك صارخ لأي مظهر لحكم القانون أو لأي إجراء قانوني. ومن المثير للاهتمام أنه حين بدت الأمور مضطربة تماماً بعد أسبوع من مظاهرات يوم الجمعة، ظهر السيسي مع بضعة داعمين قائلاً أنه لا شيء يستدعي القلق، وأنه إذا استدعى الأمر سيطلب من المصريين أن يخرجوا إلى الشوارع كي يمنحوه تفويضاً آخر. كان السيسي يشير إلى التفويض الأول في تموز\يوليو 2013، مباشرة بعد الانقلاب، حين تظاهر ملايين المصريين دعماً له ضد "إرهاب محتمل" من داعمي الإخوان المسلمين. إن ذكر السيسي لأداة من خارج المؤسسة والدستور بعد ست سنوات كمصدر مطلق للسلطة في أوقات التهديد المتفاقم، يكشف تماماً الفشل في مأسسة النظام على الأقل بطريقتين:
أولاً، جاءت هذه الدعوة بالرغم من حقيقة أن السيسي انتُخِبَ مرتين وقام بتعديل الدستور من خلال استفتاء "عام" وأغلبية ساحقة في البرلمان كي يتمكن من تمديد حكمه أكثر من فترتين رئاسيتين. إن الملاحظة الأخرى ذات الصلة هي أن الدعوة إلى مظاهرات حاشدة بدت كأنها تنتمي إلى فترة أسبق ويمكن حتى أن تكون مناقضة للجهود المعتبرة والمتواصلة التي بذلها التحالف الحالي لأجهزة الدولة القمعية من أجل تفريغ مجال الفضاء العام وجوه وإبعاد السكان عن السياسة بدلاً من تعبئتهم لصالحها.
لا يمتلك النظام إيديولوجيا، ولا حتى خطاباً متماسكاً حول السلطة العامة أو الأمن القومي. ذلك أنه خلق فراغاً وحرسه بغيرةٍ ممارساً القمع شديد وملاحقاً أي صوت آخر مختلف من الإعلاميين المستقلين والسياسيين (كثيرون منهم كانوا داعمين للنظام لكن لا يمكن اختزالهم إلى أبواق له) وشمل هذا أيضاً مستخدمي الفيس بوك الذين لهم أكثر من 5000 متابع.
ما من انفتاح سياسي محتمل
إن تحول مركزية العنف المتفاقم إلى وظيفة للنظام، وليس إلى مجرد أداة لبقائه في أوقات التهديد المتفاقم، يعرقل فرصاً جدية للانفتاح السياسي الجزئي. ذلك أن التحرير السياسي، مهما كان جزئياً أو تزيينياً، يتطلب مستوى من مأسسة الاستبداد يفتقر إليه الوضع الحالي في مصر. فالسلطة الحاكمة لا تملك القنوات المؤسساتية لتمثيل المصالح الاجتماعية بعامة. واتخذت بوعي قرارها بألا تحيي حزب دولة عمل منذ زمن جمال عبد الناصر كصلة بين البيروقراطية والمجموعات الاجتماعية المختلفة، مما أدى إلى ازدياد علاقات المحسوبية والزبائنية وإنشاء وسطاء بين القيادة السياسية والمجتمع. وقد أظهر العقد الأخير من حكم مبارك مشكلة متزايدة في جذب هؤلاء الوسطاء وإبقائهم قيد الفحص. وشهد الحزب الوطني الديمقراطي تفككاً كبيراً قبل سنوات من ثورة 2011. ويبقى من الصعب جداً للنظام الحالي أن يجد أشخاصاً يملأون صفوف حزب دولة آخر بينما يبقيهم في الصف وينسق مصالحهم. إن التحدي الآخر هو العثور على موارد كافية للحفاظ على شبكات المحسوبية في حال إنشاء وسطاء كهؤلاء. ذلك أن المصادر المتاحة، والتي هي أكثر ندرة بكل تأكيد مما كانت عليه في العقد الأخير من حكم مبارك، وُضعت في خدمة تمتين التحالف الحاكم، داخل وبين أجهزة الدولة القمعية. وعنى هذا غالباً حصة أكبر لأجهزة الدولة تلك، وأولئك المحسوبين عليها رسمياً وبشكل غير رسمي، من الكعكة الصغيرة (بسبب التقشف وانخفاض قيمة العملة والأزمات المالية المزمنة)، والتي صارت عنصراً إضافياً في الخلاف كما كشفت الأزمة الأخيرة التي أثارها محمد علي. إن العائق السابق مؤسساتي يتعلق بالخيارات التي اتُخذَتْ في منعطفات سابقة حاسمة وجعلت هذا النظام يبدو بشكل متزايد مشابهاً لأنظمة أميركا اللاتينية (قصيرة العمر غالباً) البيروقراطية والاستبدادية في الستينيات والسبعينيات. ثمة عائق وظيفي آخر يتواشج مع الاستخدامات المتعددة للقمع يجعل من الصعب جداً الآن التكيف سياسياً واقتصادياً مع جرعات أصغر أو ممارسة للقمع مكبوحة أكثر. المثال على ذلك هو إعادة إدماج مصر في الاقتصاد العالمي من خلال ديون خارجية كبيرة منذ 2016. بدأت مصر تسلك هذا الطريق بعد صفقة صندوق النقد الدولي في تشرين الثاني\نوفمبر 2016، التي قدمت لمصر قرضاً من 12 بليون دولار كجزء من حزمة تمويل تبلغ 21 بليون دولار في غضون ثلاث سنوات. سيقوم النظام المصري بتأمين استقرار للاقتصاد الكلي من خلال إدخال إجراءات غير شعبية تتضمن خفض الدعم، وتجميد أجور القطاع العام، وخفض قيمة الجنيه المصري، ورفع ضرائب الاستهلاك وخصخصة المرافق العامة. كانت هذه الإجراءات التي اشترطها صندوق النقد الدولي جوهرية لرفع الدَّيْن في الأسواق المالية العالمية. دعم صندوق النقد الدولي "الإصلاحات السياسية" المصرية، التي ترجمتها وكالتا موديز وإس آند بي (ستنادارد أند بورز)، وآخرون إلى تصنيف أفضل نسبياً من ناحية القدرة على التسديد بطريقة خفضت كلفة الاقتراض للدولارات التي هناك حاجة ماسة إليها. أرسلت هاتان الوكالتان الإشارات الصحيحة إلى المستثمرين الخاصين في الأسهم، والراغبين بالقيام بالمجازفة المحسوبة بالاستثمار في دين مصر الخارجي المتنامي من خلال شراء عقود وفواتير حكومية، صادرة بالدولار وأحياناً بالجنيهات المصرية. وكان حجر أساس هذه الدورة الكاملة هو القدرة المتواصلة للنظام على تمرير ودعم إجراءات تقشف غير شعبية، وهذا لا يمكن أن يُنجز إلا من خلال إعادة توظيف القمع في مجالات السياسة الاقتصادية ضد دوائر اجتماعية أوسع كما شرحنا سابقاً. وهذه الصيغة لم تعمل في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأخرى الأقل استبدادية مثل الأردن والمغرب، ناهيك عن ذكر تونس.
إن الانتعاش الاقتصادي المصري المعتمد على الديون لا يعني فقط أن القمع وسيلة للاستقرار الأمني للنظام (لكن ليس المأسسة) بل يعني أيضاً أنه شرط لإعادة تعريف موقع مصر في الاقتصاد العالمي. كان الدين الخارجي يتنامى بنسب عالية جداً في الأعوام الثلاثة الماضية. وجذبت مؤشرات الاقتصاد الكلي الأفضل ديوناً أكثر من الاستثمار الخارجي المباشر، والذي لم يصل أبداً إلى مستويات ما قبل 2008. وليس من قبيل المبالغة القول أنه على عكس العقد الأخير من حكم مبارك وفريقه الاقتصادي النيوليبرالي، تم إعادة إدماج مصر من خلال الديون وليس من خلال الاستثمار الأجنبي. وهذا نقيض كامل ودقيق للفترة المبكرة الأولى (2004-2009). فقد كان الدين الأجنبي راكداً في ظل مبارك ولوحظ انحدار للناتج الإجمالي المحلي بينما حلق صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مستويات لا مثيل لها في تاريخ مصر الاقتصادي المعاصر. وكان يحدث عكس ذلك منذ 2016. إن القمع جوهري جداً لإبقاء كلفة الاقتراض منخفضة ولضمان المدخل إلى الاقتراض من أجل تلك المسألة. وهذا عائق وظيفي في وجه أي انفتاح سياسي، حتى لو كان جزئياً وتجميلياً. فضلاً عن ذلك، يزيد من العجز عن المأْسَسة الذي عانى منه النظام منذ محاولته للقيام بذلك في منتصف 2013.
أختتم بالقول إن عنف وقمع الدولة في مصر برهنا أنهما ليسا أداتين تأسيسيين لنظام استبدادي جديد. بل صارا أداتين لتشغيل النظام. وازداد نطاق ووزن ووظائف القمع فحسب في الأعوام الستة الماضية. وتطور هذا بشكل مترافق مع عجز النظام عن مأسسة قوته، داخل بيروقراطية الدولة الواسعة وأيضاً في إدارة علاقات المجتمع والدولة. إن الخيارات التي اتُخذتْ في 2013 و2014 استجابة للتحديات والفرص جعلت بالتالي القمع أكثر مركزية ليس فقط للتماسك الداخلي للنظام من خلال تحالف محكم وصغير من الأجهزة القمعية، بل أيضاً لإعادة إدماج اقتصاد مصر في الأسواق المالية العالمية من خلال الديون. تمخّض هذا بدوره عن عوائق مؤسساتية ووظيفية في وجه أي انفتاح سياسي جزئي يمكن أن يمكّن النظام من احتواء التوتر الاجتماعي السياسي المتصاعد أو إدخال المزيد من التعددية.