يثير تقسيم أعمال عبد الرحمن منيف الروائيّة إشكاليّةً كبيرة. يفضّل القّراء العاديّون تقسيمها تبعًا لرواجها: سنجد الملحمتين «مدن الملح» و«أرض السّواد»، تليهما «شرق المتوسّط»، ومن ثمّ باقي الأعمال من دون تفضيلات محدّدة. أمّا النقّاد فيميلون إلى الأعمال «الأهم»، أي – بحسب رأيهم – الأعمال التي قدّمت «أفكارًا كبرى»، فسلّطوا الضوء الأكبر على «مدن الملح» بطبيعة الحال (ملحمة الصحراء والنّفط)، تليها «شرق المتوسط» و«الآن .. هنا» (روايتا التعذيب السياسيّ)، تليهما بدرجة أقل «الأشجار واغتيال مرزوق» بما أنّها باكورة أعماله «الكبرى»، و«أرض السواد» (ملحمته الثانية)، متجاهلين رواياته الأخرى لاعتبارات كثيرة، تناولتُ قسمًا منها في مقالتي «ما لم يكتبه عبد الرحمن منيف». ماذا عن منيف نفسه؟ يشير منيف في حوار مع النّاقدة يمنى العيد عام 1985، إلى أنّه كتب روايتين فعليًا: «الأشجار واغتيال مرزوق»، و«مدن الملح»؛ ويعني أنّ الرواية الأولى كانت بمثابة أرضيّة أو خلفيّة لبذور أعماله اللاحقة، فيما كانت الرواية الثانية انطلاقةً جديدةً في مسارٍ روائيّ مختلف نوعًا ما. ولكنّ كلام منيف ليس دقيقًا كليًا، لأنّه تجاهل روايتين لا ينطبق عليهما تقسيمه تمامًا: «سباق المسافات الطويلة» (1979)، و«عالم بلا خرائط» (1982)، إذ تشكّل كلٌّ منهما تصنيفًا مستقلًا عن أعماله الباقية، من دون أن يعني هذا انفصالهما عن عالمه بالمطلق. تشكّل «عالم بلا خرائط» حالةً استثنائيّة لأسباب عديدة، أهمّها أنّه اشترك في كتابتها مع جبرا إبراهيم جبرا، وضاعت البصمة المنيفيّة فيها بدرجةٍ كبيرة (قد يخالفني قرّاء آخرون في هذه الرؤية، ولكن أظنّ أنّنا سنتّفق في كونها «استثناء»).
ماذا عن «سباق المسافات الطويلة»؟ إنّها «أغرب» روايات منيف العشر (أستثني هنا أعماله الثلاثة التي نُشرت بعد وفاته: رواية «أم النذور»، والمجموعتين القصصيّتين «أسماء مستعارة» و«الباب المفتوح»). «الأغرب» لكونها لا تشبه أيًا من رواياته، مع أنّها تضمّ عناصر من مسارَيْه الروائيّين الذين أشار إليهما في حواره: إنّها قريبة من الروايات الأولى من ناحية الإغراق في تفاصيل منمنمة، ولكنّها تخالفها من ناحية التجريب إذ كانت الروايات الأسبق أكثر تجريبيّة فيما نَحَتْ «سباق المسافات الطويلة» منحى التّقليديّة؛ وإنّها قريبة من مساره الروائيّ الثاني من ناحية تمحورها حول «قضيّة كبرى»، ولكنّها تخالفها من ناحية الشّمول، إذ كانت الروايات اللاحقة أشمل وأضخم. وستتضّح الفكرة أكثر لو تأمّلنا تاريخ كتابتها الذي يمتدّ على طول خمس سنوات: 1974-1978، وبذا ستكون الروايةَ التي احتلّت أطول فترةٍ زمنيّة في مسيرة منيف الروائيّة بالمقارنة مع حجمها: استغرقت كتابة «مدن الملح» سبع سنوات ولكن كانت الحصيلة ما يقارب 2500 صفحة، وكذا الأمر بالنّسبة إلى روايته الأخيرة «أرض السواد» التي استغرقت كتابتها خمس سنوات أو ست، وكانت الحصيلة أكثر من 1400 صفحة. خمس سنوات لينتج 400 صفحة أو أقل. الرقم غريب بالنّسبة إلى غزارة منيف المعهودة. صحيحٌ أنّ هذه السنوات الخمس شهدت كتابة ثلاث روايات أخرى (استثنيتُ رواية رابعة: «شرق المتوسط»، التي كُتبت قبل عام 1972)، ولكنّ تلك الروايات موحّدة الجو والمزاج في الغالب. ما سرّ «سباق المسافات الطويلة»؟
«سباق المسافات الطويلة» أولى روايات منيف التي تعتمد على الوثيقة اعتمادًا مباشرًا؛ وأولى رواياته التي تحاور التّاريخ حوارًا مباشرًا؛ وأولى رواياته التي تستند إلى الشخصيّات بوصفها حاملًا للعمل، بدلًا من الحبكة أو السّرد؛ وأولى رواياته التي تقلب المرايا بحيث يصبح الآخر بطلًا للمرة الأولى في تاريخ الرواية العربيّة ربّما. بالتّوازي مع مشروع منيف الروائيّ ولد مشروع صنع الله إبراهيم الروائيّ المعتمد على وثيقة أيضًا، ولكنّ إبراهيم اختار إبقاء الوثيقة على حالها، وإدخالها ضمن جسد الرواية بوصفها تفصيلًا في الكولاج الروائيّ الذي اشتُهر به في رواياته وبات بصمته المميَّزة. لم يرضَ منيف بإدخال الوثيقة كما هي بل حوَّلها إلى خلفيّة للرواية التي تتناول حدثًا لا يمكن تقديمه إلا ضمن مرآة «صادقة»، بحيث يكون التّخييل جسدًا للرّوح الوثائقيّة، لو جاز التعبير. كيف يمكن مقاربة انقلاب المخابرات الأميركيّة والبريطانيّة والشاه على حكومة محمد مصدّق من دون وثيقة تاريخيّة؟ والسؤال الأهم، كيف يمكن استثمار الوثيقة من دون التخلّي عن العنصر الفنيّ في العمل الروائيّ؟ ذلك هو الرّهان الذي كان أمام منيف، ولذا أخذت منه الرواية جهدًا ووقتًا أكبر من أعماله الأولى. صحيحٌ أنّ منيف حاورَ التّاريخ مباشرةً في رواية سابقة هي «حين تركنا الجسر» (1976)، التي تناولت أصداء وآثار هزيمة عام 1967، ولكنّ محور الرواية السابقة كان الآثار لا الهزيمة نفسها، مرور الأيام لا التّاريخ في ذاته؛ بينما كان التّاريخ بحدّ ذاته محور «سباق المسافات الطويلة»، من دون أن تكون الرواية تاريخيّة بالضّرورة، على الأخص لأنّ الأحداث المُشار إليها لم تنته عند صدور الرواية برغم مرور أكثر من عقدين على الانقلاب. كانت الرواية قراءةً واستشرافًا لما سيحدث بعدها، إذ نرى فيها تشريحًا للمجتمع الإيرانيّ إبّان حُكم مصدّق، وبداية ظهور التيّارات اليساريّة والإسلاميّة التي ستُشعل ثورتها عام 1979، بصرف النّظر عن مآلاتها اللاحقة.
بالتضادّ مع تيّار روائيّ مديد في تاريخ الرواية العربيّة يحاول فيه الروائيّون «قراءة» الغرب، قَلَبَ منيف المرايا ليجعل المقروء قارئًا، وليجعل «الآخر» بطلًا. تقوم رواية «سباق المسافات الطويلة» على «قراءة غربيّة للشرق». ربّما كان للأمر تبريراته العديدة؛ فموضوع الرواية انقلاب غربيّ لمساعدة حاكم مُرتهَن للغرب ضدّ حكومة وطنيّة، وبذا فإنّ الشخصيّات الأساسيّة كلّها غربيّة أو تدور في فلك الغرب. يمكن لنا تصوُّر الرواية دائرةً بريطانيّةً في إيران، مركزها بيتر ماكدونالد، ومحيطها خليطٌ من البريطانيّين والأميركيّين والإيرانيّين. نقرأ الجميع بعيني ماكدونالد فعليًا، فهو البطل والراوي العليم ومحور الأحداث. تبدأ الرواية ببيتر وتنتهي به، ولكنّها تبدأ ببيتر «بريء»، ساذج، وتنتهي ببيتر مخدوع برغم «الخبرة» التي يظنّ أنّه اكتسبها، وبينهما نجد تحوّلات متلاحقة لبيتر في قراءاته المتخبّطة للشرق وأهله. لو استندنا إلى التاريخ وحده، سنرى بوضوح انهيار القبضة البريطانيّة في الشرق (إيران على الأخص)، وولادة القبضة الأميركيّة. صوَّر منيف هذه التبدّلات التّاريخية ولكنّه فضّل الاكتفاء بعيني بيتر وحده، بوصفه الأكثر براءةً أو الأقل طيشًا من بين الغربيّين في الرواية. تبدُّل بيتر جوّانيٌّ بالمطلق، ويخصّ عالمه الغربيّ وحسب. إذ لم تتغيّر نظرته إلى الشرق من بداية الأحداث إلى نهايتها. وكأنّما منيف يومئ خفيةً إلى أنّ الشرق سرابٌ لا يمكن لقليلي الخبرة أن يخبروه، ولا يمكن حتّى لـ «الخبراء» الغربيّين أن يدركوا خفاياه. بل إنّ الشرق (أو دوائر الحُكم فيه) عصيّة التوقّع حتّى على الشرقيين أنفسهم. من كان يتوقّع انهيار حكومة مصدّق؟ ومن كان سيتوقّع اندلاع ثورة ضد الشاه تطيحه هذه المرة إلى الأبد بعد ربع قرن من «انتصاره» على مصدّق؟ يدخل بيتر إلى الشرق بخلفيّة بزنس وخبرة عسكريّة ضئيلة قضى معظمها أسيرًا لدى النازيّين في الحرب العالميّة الثانية. الشرق مسرحه الجديد بكل معنى الكلمة. وبما أنّه لا يعرف عن الشرق شيئًا، ستكون المدن والدول كلّها سيّان: بيروت تشبه طهران قبل الثورة. بيتر ماكدونالد هو أولى شخصيّات منيف التي تكون من لحم ودم وليست مجرّد شخصيّة من ورق. زكي نداوي في «حين تركنا الجسر» ليس شخصيّة عميقة، بل هو أقرب إلى صدى آخر للأيّام؛ ربّما يمكن لنا الإشارة إلى عسّاف في «النّهايات»، ولكنّ عساف أقرب إلى كونه مرآةً لقرية الطّيبة، مرآة للمكان أكثر من كونه شخصيّة مستقلة. بيتر ماكدونالد أولى شخصيّات منيف المرسومة ببراعة، وبداية قافلة الشخصيّات المنيفيّة العظيمة وصولًا إلى روايته الأخيرة «أرض السواد».
منيف أحد أبرع الروائيّين العرب في الكتابة عن الطّبيعة، أكانت الطّبيعة بمعناها الحرفيّ البسيط من أشجار وسماء وأرض وحيوانات، أو الطبيعة البشريّة بتقلّباتها وتطوّراتها وانحداراتها. كان منيف شحيحًا في الكتابة عن الطبيعة هنا، وحتى عن المدينة، بالمقارنة مع «النهايات» أو مع الروايات اللاحقة، ولكنّه استفاض في الكتابة عن التحوّلات الداخليّة لبيتر ماكدونالد بوصفه مرآةً لشخصيّات الرواية كلّها. تتجلّى براعة منيف في أنّه أبقى لكلِّ شخصيّةٍ خصوصيّتها وسماتها المميّزة مع أنّ الراوي واحد. عبّاس الأرستقراطيّ لا يشبه ميرزا العسكريّ، وكلاهما لا يشبهان أشرف آية الله الدبلوماسيّ الحقوقيّ. ليس الشرق موحّدًا حتّى في عيني الغربيّ، وربّما لم يكونوا موحّدين لأنّ بيتر لم يصبح «خبيرًا» من الخبراء الغربيّين الذين يتعاملون مع الشرق بوصفه كتلةً مصمتةً واحدة لا تمايز فيها. أهميّة بيتر هي في كونه أسيرًا بين عالمين: هو غربيٌّ يحمل ويعتنق الصور النمطيّة الغربيّة عن الشرق مثله مثل أيّ غربيّ آخر، وهو في الوقت ذاته شغوف بمعرفة الشرق لا لكي يغيّر رؤيته بل لكي يوسّع خبراته بحيث يرضى عنه رؤساؤه وقرّاؤه القادمون بما أنّه يرى نفسه مشروعًا لأعظم كاتب غربيّ عن الشرق سيغيّر كلّ ما كتبه السّابقون. هذه المفارقة بالذات هي ما تجعل من بيتر شخصيّة روائيّة فريدة، هذا الانفصام هو ما يجعله بطلًا روائيًّا في روايةٍ غريبة هي الأخرى. نجده أحيانًا يكتب عن «الشرقيّين» وعن «الشرق» في تماهٍ أعمى مع الكتّاب والخبراء الغربيّين السابقين، ونجده أحيانًا يحاول التمرّد على تلك الصورة النمطيّة، لا من أجل تحطيمها بل من أجل استبدالها بصورةٍ نمطيّة «بيتريّة». من هنا نجد أهميّة وجمال الدّفترين المختلفين اللذين يدوّن فيهما بيتر ملاحظاته: ثمّة دفتر «رسميّ» يكرّر فيه بيتر الأوامر ويحاول إطاعتها أو التمرّد عليها ولكن ضمن حدود الصورة البريطانيّة المعتادة عن الشرق؛ ودفتر «غير رسميّ» يدوّن فيه بيتر خواطره تمهيدًا لكتابه المُنتظَر عن الشرق. الخواطر هنا مشتّتة كما هي أفكاره ورؤاه المتقلّبة عن الشرق والشرقيّين. هو الدفتر الأجمل لأنّ بيتر هنا يعود بشرًا لا ترسًا في آلة، بصرف النّظر عن مدى صحّة آرائه وتنظيراته. نكاد نتماهى مع آراء بيتر أحيانًا حين يتحدث عن الليل وعن المرأة وعن الشمس وعن الجسد وعن الطقس. نستعيد هنا منيف المولع بالكتابة عن الطبيعة وعناصرها ولكن بلسان بيتر. الأفكار مختلفة، ولكنّ اللغة متماثلة. النظرة مختلفة، ولكنّ العين المدقِّقة هي ذاتها. المشاعر مختلفة، ولكنّ الولع بالتّفاصيل هو نفسه. وبذا فإنّ أجمل مقاطع الرواية هي التي يتّحد فيها منيف وبيتر على اختلافهما: ذلك الدفتر غير الرسميّ المتناقض المشوَّش هو أجمل ما في بيتر وأجمل ما في الرواية. هنا يغيب التاريخ والسياسة والشرق والغرب والسباق بين القوى ليبقى جمال الكتابة وحدها. هنا نجد الفارق المهم بين الوثيقة وبين الرواية، بين التقارير الرسميّة والأفكار الكبرى وبين الخواطر الشخصيّة والتأمّلات البشريّة.
بما أنّ «سباق المسافات الطويلة» أولى روايات منيف المعتمدة اعتمادًا شبه كليّ على الشخصيّات، لا على اللغة أو السرد، كان لا بدّ من شخصيّة موازية لشخصيّة بيتر ماكدونالد تساويه (أو تفوقه) قوةً وحضورًا، وتُناقضه (أو تُخالفه) في التوجّهات والأفكار. من هنا كان لا بدّ من حضور شخصيّة شيرين. بمعزل عن كونها الشخصيّة الموازية للبطل، تمثّل شيرين أولى شخصيّات منيف النسائيّة القويّة، إذ كانت شخصيّاته السابقة أقل حضورًا، بل إنّ حضور بعضهنّ هامشيّ في رواياته السابقة. ومن جهة أخرى (أهم ربّما)، تمثّل شيرين نموذجًا لعالمٍ سيتعمّق منيف فيه لاحقًا في «مدن الملح» على الأخص: نساء الحُكم. نعرف من الكتب التاريخية أنّ أخت الشاه كان لها دورٌ كبيرٌ في الإطاحة بمصدّق، ولذا اهتمّ منيف بإيجادٍ مُعادِلٍ أصغر لها ضمن الطبقة الأرستقراطيّة الإيرانيّة. لا يعلم بيتر، ولا نعلم نحن، مدى دور شيرين في المراحل الأخيرة للانقلاب ولكنّنا نلمس دورها المهم منذ البداية، لا بوصفها الأنثى الشرقيّة (رمز الجنس) وحسب، بل أيضًا بوصفها شريكةً أو محرّضةً على اتّخاذ القرارات في بيوت السياسيّين. صحيحٌ أنّنا نرى شيرين بعيني بيتر، وصحيح أنّها الأقرب إليه من بين جميع الشخصيّات الشرقيّة، إلا أنّها في الوقت ذاته الأكثر تملّصًا من قبضته. هنا يتّحد دهاء شيرين بوصفها ممثّلةً لنساء الحُكم، وبراعة منيف في رسم هذه الشخصيّة المدهشة. لا يمكن لنا فهم عالم شيرين الداخليّ. لا نعرف متى تحب ومتى تكره، أو ما إذا كانت تحب أو تكره أساسًا. نلمس شبقها بتجلّياته كلّها منذ البداية: للجسد، وللمال، وللسُّلطة. ولكنّنا نلمس كذلك ذكاءها المذهل الذي يجعلها تتملّص من الجميع، بحيث باتت في نهاية الرواية هي المنتصر الأكبر، أكثر حتّى من الأميركيّين والبريطانيّين، حتّى نكاد نشكّ بأنّها هي من كانت تحرّك الخيوط منذ البداية في دائرةٍ خفيّة تربط نساء الحُكم كلهنّ. لا تترك لنا براعة منيف فُسحةً للقبض على الخيوط بدقّة، إذ يترك لنا الخيارات مفتوحةً، ولكنّ طيف شيرين يحوم في فضاء الرواية من بدايتها إلى نهايتها. تترك شيرين للشخصيّات الذكوريّة المشهد بأكمله، وتُبقي نفسها في الخلفيّة، فلا تحضر إلا بوصفها زوجةً، أو كي تفضّ بعض الخلافات بين الرجال الحمقى، ولكنّها فعليًا هي «ربّة البيت» بكل معنى الكلمة. ندرك ذكاء منيف حين ترك شيرين في مكانها، ولم يجعلها بطلةً للرواية، إذ بدتْ هنا أقوى وأبهى ممّا ستكون عليه لو كانت تحت الأضواء مباشرةً. عالم منيف لا يحتمل الأحكام الساذجة من قبيل حب هذه الشخصيّة أو كراهيّتها، أو التّعاطف مع تلك الشخصيّة أو الحقد عليها، ولكنّنا – في الوقت ذاته – ندرك أنّ شيرين مختلفةٌ عمّا سواها، وكأنّ منيف أراد إيصال رسالة خفيّة بأنّ الشرق لا يُفهَم إلا من خلال نسائه، وبأنّ الرواية التي تبدو للوهلة الأولى روايةً غربيّة ذكوريّة بالمطلق ستتكشّف حقيقتها حين ننفض وجهها الظاهريّ، ونتأمّل شخصيّة شيرين وحضورها المتسلّل إلى تفاصيل الرواية كلّها، حتّى في اللحظات التي تكون غائبةً فيها.
ليست «سباق المسافات الطويلة» أفضل روايات منيف أو أجملها. ليست الأفضل لأنّ ثمّة لحظات كثيرة يبدو فيها منيف مغرقًا في تفاصيل نافلة يمكن الاستغناء عنها بحيث تصبح الرواية مشدودةً أكثر؛ وليست الأجمل لأنّ السّرد فيها متفاوت، ربّما بسبب الفترة الطويلة التي كُتبت فيها الرواية وأُعيد كتابة أقسام منها. وكذلك فهي ليست أفضل مدخلٍ إلى أعمال منيف لأنّها لا تصلح لقارئ يسعى إلى الحكاية، عدا عن كونها «هجينًا» بين مرحلتين مختلفتين ومتمايزتين في مسيرة منيف الروائيّة، بحيث يتوه القارئ الجديد بين عالمين. ولكنّ أهميّة «سباق المسافات الطويلة» هي في هذه المفارقة بالذات، بل لعلّها رواية المفارقات بمعنى من المعاني. تُقرأ الرواية بمستويات مختلفة: يمكن للقارئ العاديّ قراءتها كي يتعرّف إلى براعة منيف في رسم الشخصيّات، وسرده المذهل حين يتأمّل الطبيعة والمدن؛ ويمكن للقارئ الأكثر تخصّصًا أو للنّاقد قراءتها ليفهم تحوُّل منيف من الروايات المفردة إلى الروايات الأضخم ذات الأجزاء المتعدّدة، ومن عالم التّخييل التّام إلى عالم المزج بين التّخييل والوثيقة، ومن عالم الفرد وتحوّلاته إلى عالم المدينة وتشكّلها والعلاقات التي تربط بين أفرادها، ومعنى أن يكون التّاريخ اجتماعًا لتاريخ الأفراد. ربّما كانت الشخصيّات الغربيّة ستُرسَم ببراعة أكثر، وربّما كانت النّساء، سواء كنّ نساء الحُكم أو نساء الشّعب، سيحضرن بقوّة أكبر وأبهى في الروايات اللاحقة، ولكن لا يمكن لنا فهم تفاصيل كثيرة في ملحمتَيْ منيف العظيمتين: «مدن الملح»، و«أرض السواد» من دون أن نفهم شخصيّتَيْ بيتر وشيرين على الأخص ضمن عالم «سباق المسافات الطويلة»، رواية منيف الأغرب والأكثر انفتاحًا على الأسئلة المتناقضة.