المغرب: “الشباب الملكي” قوة السلطة الضاربة

[“ملصق دعائي بلهجة التهديد تابع ل”خدام العرش الأوفياء] [“ملصق دعائي بلهجة التهديد تابع ل”خدام العرش الأوفياء]

المغرب: “الشباب الملكي” قوة السلطة الضاربة

By : Hicham Mansouri هشام المنصوري

تعيش حركة “الشباب الملكي” المغربية، منذ تأسيسها في عزّ الربيع الديمقراطي، نشاطاً متزايداً على فضاء الأنترنت وميدانياً من خلال فروعها المنتشرة بعدد من الدول الأجنبية. بالإضافة إلى العنف الذي يطبع أنشطتها، تُطرح الكثير من التساؤلات بخصوص مدى قانونية أنشطة التنظيم ومصادر تمويله وكذلك سرّ الحماية التي يبدو أنه يحظى بها من قبل النظام.

برزت “حركة الشباب الملكي” المغربية في سياق الربيع الديمقراطي (“الربيع العربي”)، إذ يمكن تصنيفها ضمن ما يصطلح عليه “البلطجية”، وهم أشخاص؛ غالبا من المنحرفين والجانحين من ذوي السوابق الإجرامية؛ تدفع لهم الأنظمة الاستبدادية مقابل محاربة كل أشكال المعارضة السياسية عن طريق العنف. تقتضي البلطجة ممارسة الترهيب ضد المتظاهرين عبر نسف مسيراتهم الاحتجاجية وتنظيم مظاهرات موازية أو مُضادة تروم إظهار نوع من الانقسام المجتمعي حول قضايا سياسية واجتماعية معينة.

تستمد كلمة “البلطجي” أصلها من مصطلح “البلطة” (Baltacı)، أي الفأس الحادة التي تستخدم في تقطيع الأشجار، وتُطلق على فرق المشاة العثمانية التي كانت تتجلى مهمّتها في تمهيد الطرق، عبر نزع الأشجار على سبيل المثال، قبل الغزو. ولا يخلو هذا التعريف اليوم من رمزية، إذ غالباُ ما تُمهّد أنشطة “البلطجية” لحملات القمع بين صفوف المُعارضين، وهو ما يجعل دورها يُختزل في نزع المصداقية عن الحركات الاحتجاجية القوية.

رغم الانتشار الواسع لمصطلح “البلطجية” على المستوى العربي، فإننا نجد له مقابلاً بحسب البلدان، إذ نتحدث عن “الشبيحة” في سوريا و“البلاطجة” في اليمن و“الميليشيا” في تونس و“المرتزقة” في ليبيا و“الرباطة” في السودان و“الزعران” في الأردن. أمّا في المغرب فيُطلق عليها “العياشة”، نسبة إلى عبارة “عاش الملك” التي يعكف البلطجية على ترديدها أينما حلّوا.

ربيع البلطجة وخريف الديمقراطية ؟

تُعتبر “موقعة الجمل” التي عرفتها القاهرة، أيام الثورة المصرية، إحدى أهم المحطات التي سلّطت الضوء على هذا هذه الظاهرة. ففي يوم 2 فبراير/شباط 2011، أقدم عدد من المسلحين على مهاجمة المتظاهرين بالسكاكين والعصي والحجارة في محاولة لإخلاء ميدان التحرير من المتظاهرين المعتصمين منذ 25 يناير/كانون الثاني، وهو ما تسبب في سقوط عشرات القتلى والآلاف من الجرحى.

في شريط فيديو، يعترف محمد دالي ، الرئيس المؤسس للحركة، بأن “الشباب الملكي” تنظيم مُضاد لحركة 20 فبراير، إذ تأسس يوماً واحداً بعد خروجها إلى الشارع. يحكي محمد دالي، الذي يقدم نفسه كـ “مستثمر” على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك، أن التنظيم أُطلق من إيطاليا حيث كان يقيم، وحمل في البداية اسم “حركة الشباب الملكي للمغاربة المقيمين بإيطاليا” ، قبل أن يتوسّع تحت تسمية “حركة الشباب الملكي للمغاربة بالخارج والداخل” بعد تلقيه عدة طلبات عضوية وانخراط من خارج إيطاليا وخاصة في إطار “تطبيق التعليمات السّامية لصاحب الجلالة”(بحسب الأشرطة الدعائية للحركة فالتنظيم يضم اليوم أكثر من 260 فرعاً بالمغرب ومختلف الدول وانفتحت على أعضاء من جنسيات من غير المغاربة1

غير أن مصادر أخرى تشير إلى أن الحركة تأسست يوم 10 يناير 2011، أي حوالي 5 أسابيع من خروج حركة 20 فبراير إلى الشارع، وهو ما يعني ـ إن صحّت المعلومة، التي أوردها أيضاً موقع Le360 المُقرب من السّلطة ـ أن مؤسّسي الحركة استبقوا الشارع بفضل إرهاصات “الربيع العربي” في كل من تونس ومصر.

ذراع شبه عسكرية

لفتت حركة الشباب الملكي الأنظار إليها من خلال هجماتها على المتظاهرين أثناء مظاهرات حركة 20 فبراير، النسخة المغربية للربيع الديمقراطي. يُعتبر أمين البارودي، الملقب بـ “مول الفردي” (صاحب المسدس) بعد بثه شريط فيديو تهديدي يحمل فيه مسدساً، أحد الأسماء الأولى التي جلبت إليها الأضواء.

رشق البارودي أعضاء حركة 20 فبراير بالبيض (عملية أطلق عليها “ثورة البيض”)، وأشرف على تنظيم حملات في الشارع للدعوة إلى التصويت بـ“نعم للدستور الجديد” وقام بمهاجمة المناهضين للاستفتاء، وفي أكتوبر من عام 2013 تهجم بالسب والتهديد بكرسي على مجموعة من الشباب وهم يتبادلون القُبل بشكل رمزي على مقربة من البرلمان المغربي، تضامناً مع مراهقَيْن اعتقلا بمدينة الناظور بسبب صورة لهما وهما يقبلان بعضهما البعض. كما ظهر الملقب بـ “مول الساطور” ، في شريط فيديو تم بثه على اليوتوب، وهو يحمل ساطوراً ويهدد أعضاء حركة 20 فبراير بالقتل، موجها اتهامات للحركة ولكل من جماعة العدل والإحسان واليسار الموحد بالسعي وراء إسقاط النظام للاستيلاء على الحُكم وتخريب البلاد.

تكرّر الأمر ذاته مع حراك الريف (2016)، إذ ظهر أعضاء محسوبون على الحركة في عدة فيديوهات (1 ، 2) وهم يحاولون نسف عدة وقفات ومسيرات احتجاجية كما هو الحال خلال وقفة تضامنية مع “حراك الريف” في الدار البيضاء، يوم 28 ماي 2017، رغم أنها شهدت حضور بعض الشخصيات السياسية أمثال نبيلة منيب، الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد. وفي يونيو من عام 2017، أقدم عشرات من أفراد الحركة، مدججين بالحجارة والأسلحة البيضاء، [بمهاجمة المواطنين المتضامنين مع حراك الريف بساحة التغيير بطنجة، مرددين شعارات “عاش الملك” و“محمد السادس، ملكنا واحد”، و”عاش الملك”، فضلا عن عبارات نابية تتهم النشطاء بالخيانة وخدمة أجندات انفصالية.

تتعدى حدودك ينتهي وجودك

وصل عنف الشباب الملكي حد اتهامها بقتل متظاهرين، فقد اتهمت رابطة العمل الشيوعي الحركة بتصفية كمال الحساني، المناضل في الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بالمغرب وحركة 20 فبراير بالحُسيمة، بطعنات غادرة بواسطة سكين يوم 27 أكتوبر 2011. هذا المعطى جعل بعض المحللين السياسيين يشبهون الحركة بجماعات اليمين المتطرف في أوروبا.

وقع أعضاء الحركة تعهدا مصادق عليه من طرف الإدارة الترابية المحلية بعدم “خيانة البلد والملك رمز السيادة الوطنية والوحدة الترابية تحت شعار الله، الوطن، الملك”، تحت طائلة فقدان العضوية . في إحدى الملصقات الدعائية الرسمية بخلفية حمراء (اللون الرئيسي للعلم الوطني)، تم وضع الملك في أعلى الصورة وسط شعار المملكة وهو محاط بخمسة رجال مسلحين وملثمين على شاكلة قوات الكوموندو، عبارة “هنا المغرب، تتعدى حدودك ينتهي وجودك”.

تنبني الاستراتيجية الرقمية للشباب الملكي على ردود الفعل أكثر من الفعل، إذ أن حملاتها (سواء الالكترونية أو الميدانية) غالباُ ما تأتي للتصدي لقوة معارضة جديدة أو لمساندة توجه جديد للنظام (عقب خطاب ملكي مثلا). يُشيد الشباب الملكي بأربعة أو خمسة أشخاص ويشنون “حرباً” على كل من يتجرأ على انتقادهم. يتعلق الأمر بكل من الملك ومستشاره فؤاد عالي الهمة ورجل المخابرات عبد اللطيف الحموشي (المدير العام للأمن الوطني والمدير العام لمديرية مراقبة التراب الوطني) ورجل الملفات الإرهابية عبد الحق الخيام (مدير المكتب المركزي للأبحاث القضائية) في حين ينضاف إليهم أحياناً الملياردير عزيز أخنوش، صديق الملك ووزير الفلاحة منذ 2007.

من أجل تحقيق أهداف الحركة من الإعلام، يبني أعضاؤها استدلالهم بالتنبيه من “الفتنة” ومن “الأيادي الخارجية” عبر التذكير بالمحيط الجيوسياسي للمنطقة العربية وبـ “الدمار” الذي خلّفه الربيع العربي (“الخراب العربي” حسب أحد أعضاء الحركة)، وذلك بعبارات من قبيل “هل تريدون أن يتحول المغرب إلى سوريا/ليبيا جديدة؟”. وفي كل الأحوال يعمل أعضاؤها بلا كلل على تجميل صورة الملكية ومحاولة إظهار رئيس الدولة على أنه غير مسؤول عن مشاكل البلاد أو على غير علم بها (“الملك زوين، اللي دايرين بيه اللي خايبين” أي “الملك جيد، لكن محيطه سيء/فاسد”).

من أجل تقوية حضورها الافتراضي والرفع من تأثيرها، عملت الحركة على استقطاب جيل جديد من “المؤثرين الإلكترونيين” أمثال محمد السكاكي، المعروف بـ “مول الكاسكيطة” (صاحب القبعة). في شريط بثه هذا الأخير على صفحته على الفايسبوك يبرر التحاقه بالحركة بتخلي المناضلين عنه وهو في السجن عند اعتقاله مرتين ويُضيف إن حركة الشباب الملكي هي الوحيدة التي آزرته في محنته من خلال مساعدات قدمها أعضاؤها لزوجته مع توصية لها مفادها “قولي له أن يهتم بشأنه، فلا وجود لشعب يستحق التضحية من أجله”.

تركيب الصور والكاريكاتور

لمواجهة المُعارضين على فضاء الأنترنت، يقوم أعضاء الحركة بتنظيم حملات للتعليق على بث “الأعداء”. تروم التعاليق الحية تحقيق هدفين اثنين : إخراج المتحدث عن الموضوع الذي اختاره، ليناقش مواضيع هامشية (غالباً ما يكون الدفاع عن الاتهامات المُوجهة له في التعليقات) ثم محاولة التأثير في الرأي العام عن طريق إظهار المتحدث كنقطة نشاز لا تحظى بدعم شعبي مُهم. في مقابل التعليقات المكتوبة على البث المباشر، كثيراً ما يتم اللجوء إلى الصور المركبة والكاريكاتورية لاستهداف آراء النخبة المثقفة نظراً لصعوبة مواجهتهم على المستوى “الفكري”. بالإضافة إلى ذلك، تعطي الصور الكاريكاتورية، كتلك التي تصور الشخص كلص يحمل كيساً مليء بالدولار الأمريكي، الانطباع بأن المعني سبق وكشفت وسائل الإعلام “تورطه” في فساد مالي، في حين أن تلك الرسوم لم يسبق نشرها، كما أنها غير موقعة كما هي عادة رسومات الكاريكاتير.

كثيراً ما تستهدف تهديدات الحركة معارضي النظام المقيمين بالخارج والذين يصعب أن تطالهم يد القضاء الانتقامي. في رسالة تحذيرية مليئة بالوعيد دعا منسق الحركة المناضلين المغاربة في أوروبا للحذر واصفاً حركته بكونها “جيش بالزي المدني هدفه الأسمى الدفاع عن النظام الملكي، “مُضيفاً” نموت ويحيى الملك. هذا هو شعارنا. فانتظرونا، نحن قادمون".

في صورة شيطان

محمد الراضي الليلي، صحافي لاجئ في فرنسا، واحدٌ من هؤلاء الذين استهدفهم الحركة، خاصة بسبب آرائه من قضية الصحراء على قناة “فرانس 24” التي اعتاد الحلول ضيفاً على برامجها. على سبيل المثال، نشر محمد شاهما، أحد أعضاء الحركة، صورة مركبة لهذا الأخير وهو يطأ على الراضي مع عبارات “مكانك تحت القدم أيها الخائن القزم” . كما قام عبدو الريفي، وهو أحد أعضاء الحركة البارزين، بنشر الرقم الهاتفي الشخصي للصحافي على الفايسبوك، ليتلقى بعدها رسائل سب وأخرى تهدده بالإغتصاب . في صور عديدة أخرى إطلعت عليها “أوريونت 21”، نرى الراضي الليلي في صورة شيطان وبجسد كلب ورضيع في ثوب علم “البوليساريو” وكذا في وضعيات وبلباس أنثوي شبه عار في وضعية مُخلة بالآداب.

إلى جانب الراضي الليلي أستهدف المُعارض تاشفين بلقزيز، أحد مؤسسي “حركة الجمهوريين المغاربة” وهو مُقيم بإيطاليا، بعدة حملات إلكترونية كهذا الشريط الذي يصفه فيه رئيس حركة الشباب الملكي بـ “المرتزق المبعوث والمُدعم من جهات إرهابية لزعزعة استقرار البلاد”.

تُضاف إلى حملات التشهير والتهديد خاصية التبليغات التي تُتيحها شبكة الفايسبوك والتي اعتاد “الذباب الإلكتروني” استغلالها لممارسة الرقابة على الآراء المزعجة. ففي 23 آب/أغسطس الماضي، على سبيل المثال، تعرض حساب سعيد السالمي الصحافي والأستاذ الجامعي المقيم في فرنسا، للتعطيل ساعات قليلة فقط بعد مشاركته على شبكات التواصل بمقال نشرته أسبوعية “ليكسبريس” الفرنسية يتناول قصة طلاق الملك محمد السادس من الأميرة سلمى. يصعب معرفة مصدر الهجوم، إلا أنه بات معلوما اليوم كيف تستغل “الجيوش الإلكترونية” لبعض الأنظمة “ثغرة قانونية” ضمن شروط استخدام الفايسبوك كالالتزام بعدم استعمال خطاب كراهية أو تحريض على العنف على سبيل المثال). غير أن العدد الضخم لمستعملي الفايسبوك عبر العالم يجعل الشركة عاجزة عن التأكد من مطابقة كل ما ينشر لشروطها، وهذا ما دفعها إلى ابتكار نظام التبليغات وهي خاصية تُتيح للمستخدمين إثارة انتباه فايسبوك إلى محتويات تحرض على العنف مثلا. عندما يتلقى منشور تبليغات كثيفة (وهو ما يسهل القيام به بشكل جرمي) يقوم فايسبوك بالحظر الأتوماتيكي للمحتوى المعني أو لحساب صاحبه تعرض في انتظار أن يتأكد موظفو الشركة من صحة التبليغات.

حركة مرتبطة بالقصر؟

في ظل التضارب حول تاريخ التأسيس الحقيقي للحركة، تُشير أقدم الوثائق المتحصل عليها إلى أن الجمعية تم تجديد مكتبها بتاريخ 21 يونيو 2012. فكيف وافقت السلطات على تأسيس جمعية تمارس أعمالاً تحريضية وعنيفة ووضعت منذ البداية ضمن أهدافها “التصدي لكل الحركات والجبهات والأجندات والهيئات والأصوات التي تستهدف هوية الشعب المغربي أو المس بمقدساته” في حين ينص قانون تأسيس الجمعيات المغربي على حلّ كل جمعيات أو هيئات “قد تُحرض على قيام مظاهرات مسلحة في الشارع”؟ وكيف منحت السلطات وصل اعتراف قانوني لحركة يشير اسمها بشكل علني للملكية؟ يزداد هذا السؤال إلحاحاً إذا استحضرنا محاكمة وسجن مواطنين لمجرد استعمالهم صورة الملك أو حتى أفرادا من العائلة الملكية كبروفايلات حساباتهم على الفايسبوك، كما هو حال المهندس الشاب فؤاد مرتضى والذي حكم عليه في عام 2008 بثلاث سنوات سجناً بتهمة “انتحال صفة” الأمير رشيد.

على غير العادة، وصل إيداع ملف التصريح ختم عامل عمالة مقاطعة الحي الحسني، امحمد كردوح، في حين أن هذا النوع من الوثائق عادة ما يوقع من طرف القائد أو الباشا، وهو ما قد يمكن تفسيره ربما بتحفظ رجال السلطة المعنيين عن اتخاذ قرار التوقيع من عدمه وإحالة الملف على رئيسهم المباشر بحسب التسلسل الوظيفي.

تفتخر الحركة بعلاقتها بالقصر، إذ يصف أعضاؤها أنفسهم في ملصقاتهم بكونهم “خدام العرش الأوفياء”، فيما يصرح رئيسها أنه يتحرك “تحت التعليمات السامية لصاحب الجلالة”. تُفتتح أنشطة الجمعية باسم “جلالة الملك نصره الله وأيده” ويُشير قانونها الأساسي بشكل صريح إلى وجود “تنسيق مع الديوان الملكي” بالإضافة إلى مهامها في “الإسهام بمختلف مكوناتها في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي يرعاها صاحب الجلالة نصره الله وأيده”. كما دأبت الحركة على وضع شعار المملكة في تروسية وثائقها والإفتخار علناً بكونها تحظى بـ “الرعاية السامية لصاحب الجلالة”، وهو دعم يتطلب موافقة الديوان الملكي وتتهافت عليه الفعاليات الثقافية والفنية والرياضية للحصول عليه (خاصة لكونه يسهل الحصول على التمويل ودعم السلطات المحلية في تنظيم التظاهرات)، خاصة إذا ما استحضرنا كيف تم رفضه لعدة جمعيات وفعاليات وطنية هامة بما فيها تلك التي تقف وراءها شخصيات سياسية بارزة كما هو الحال مع حبيب الشوباني عندما كان وزيرا للعلاقات مع البرلمان، وقبله مصطفى الخلفي، وزير الاتصال الأسبق.

إذا أضفنا إلى كل هذه المُعطيات، عدم تحرك النيابة العامة في فتح تحقيقات بعد تداول فيديوهات تهديدية ضد نشطاء، والإمكانيات اللوجيستيكية (بورتريهات الملك، أعلام، تمويل التنقل لمئات الأشخاص من مختلف المدن للمشاركة في التظاهرات وأحيانا إلى أوروبا لفائدة أعضائها) التي تحظى بها الحركة، والحضور الإعلامي لبعض أعضاء الحركة في وسائل الإعلام الرسمية (كالتلفزة الوطنية) وتلك المقربة من السلطة ، فيمكن الحسم بأن النظام، إن لم يكن وراء التنظيم، فإنه ـ على الأقل، راض عنه ويدعمه للاستمرار في أنشطته بما فيها التي تتبنى العنف. “وما العيب في أن يحمل شباب آخر رأيا يتماهى مع أعلى سلطة في البلد ومستعد للدفاع عن هذا الموقف في الشارع العام؟” كما كتبت إحدى الجرائد المقربة من النظام عن الحركة.

نساء ملثمات يطلقن على أنفسهن اسم” بنات الحسن الثاني

تعيش الحركة منذ تأسيسها اضطراباً على مستوى الرؤية الاستراتيجية. فبالإضافة إلى الصراع حول الشرعية التأسيسية والانقسامات الداخلية التي وصلت حدّ تبادل الضرب بين رئيسها وإحدى عضوات الحركة اتهمها الأخير بـ “العمالة للجزائر”، أعلنت في وقت سابق عن تغيير اسمها من “حركة الشباب الملكي” الى “حركة مغاربة الدستور” بسبب ما أسمته الحركة في بلاغ تم تعميمه على وسائل الإعلام بـ “استغلال البعض لهذا الاسم من أجل الاسترزاق والابتزاز بعيداً عن المبادئ التأسيسية”، غير أن التسمية الأصلية سرعان ما عادت من جديد لتطفو على السطح، بل وبرز التنظيم في تركيبات مختلفة كـ “حركة الشباب الملكي للمغاربة بالداخل و الخارج” على سبيل المثال، كما انبثقت عن النواة الأم للحركة عدة تنظيمات أخرى كـ“جمعية حب الوطن أولا” و“الحركة الدولية للتواصل والإعلام” و“فيلق الملثمات”، وهن مجموعة من النساء الملثمات يطلقن على أنفسهن أيضاً “بنات الحسن الثاني”.

بالرغم من الإمكانيات المادية واللوجيستية التي يبدو أن الحركة تحظى بها، تُظهر أنشطتها القليل من الاحترافية والكثير من الهواية. على سبيل المثال، أصدرت الحركة بلاغاً استنكارياً ركيكاً ردّاً على عملية حرق العلم الوطني في باريس خلال مسيرة تخليدية لمقتل محسن فكري يوم 26 أكتوبر الماضي. فقد توجه البلاغ إلى وزارة الداخلية الفرنسية بصيغة “عزيزتي فرنسا الإرهابية” قبل أن يختم بصيغة “وتقبلوا مني سيدي أحرّ التحيات”، مع توقيع رئيس الحركة بعبارة “خادم الأعتاب الشريفة”، وهو ما جرّ على الحركة تهكما واسعاً على الشبكات الاجتماعية.

إذا نجحت الحركة عبر خدماتها في خلط الأوراق خلال بعض المحطات السياسية والاجتماعية الصعبة التي مرت منها البلاد (حركة 20 فبراير، حراك الريف...) وتقديم خدمات آنية للنظام (القدرة على الحشد مثلاً)، فإن أدوات عملها (قد) تؤدي إلى نتائج عكسية على المستوى البعيد. أولا من خلال تشجيع تناسل تنظيمات مشابهة تحاول بيع خدماتها للنظام؛ أحيانا بنوع من الابتزاز؛ ثم من خلال مساهمتها في كشف بعض أوراق بروباغاندا (دعاية) النظام، وأخيراً بتوجيه النقاش نحو قضايا لم تكن مطروحة بشكل مباشر وحاد في ما مضى، كالانقسام حول الملكية من خلال شعاراتها “ملكنا واحد، محمد السادس” و“عاش الملك” التي بدأ المتظاهرون مؤخراً يردون عليها بهُتاف “عـاش الشعب!”..

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • المغرب. إستراتيجية “الاستهداف الجنسي” للصحافيين

      المغرب. إستراتيجية “الاستهداف الجنسي” للصحافيين

      اعتقلت السلطات المغربية الصّحافي سليمان الريسوني رئيس تحرير يومية “أخبار اليوم” المستقلة، يوم 22 مايو/أيار الماضي وستبدأ أولى أطوار محاكمته يوم 20 من يوليو/تموز. يواجه سليمان الريسوني على غرار زميلين له من نفس الجريدة تعرّضا للملاحقة منذ سنتين، تهما تتعلق بـ “الجنس”. 

    • المغرب: “يد الله” ويد الملك في زمن كورونا

      المغرب: “يد الله” ويد الملك في زمن كورونا

      بينما يعاني الاقتصاد من الجفاف، جاء فيروس كورونا ليزيد الوضع تعقيداً. رغم بنية صحية هشة، تحاول السلطات تدبير الأزمة، لكن الفترة الراهنة تدفع الكثيرين نحو مساءلة السياسة النيو ليبيرالية المتشددة التي يتبعها النظام منذ عقود.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬