صوفيا ستاماتوبولو روبنز، حصار النفايات: حياة البنية التحتية في فلسطين (دار نشر جامعة ستانفورد، 2019).
جدلية: ما الذي دفعك لتأليف هذا الكتاب؟
صوفيا ستاماتوبولو روبنز: يركز الكتاب على ما يتعلّق النفايات وكيفية التعامل معها والممارسات المتعلقة بذلك، وهو موضوع لم يحظ بالاهتمام نفسه الذي حازته مواضيع أخرى على الساحة الفلسطينية. تبلورت فكرة الكتاب عندما تركز الاهتمام على النفايات والبنى التحتية في فلسطين، فبعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، جادل العديد من المعلقين الغربيين بأن الفلسطينيين صوتوا لصالح حماس بسبب التزام الحركة بتوفير البنى التحتية و الخدمات، مثل جمع القمامة؛ الأمر الذي فشلت فيه حركة فتح. لقد زعموا أن البنى التحتية كانت أداة للتعبئة الشعبية لأن تطلعات الفلسطينيين تمحورت حولها. تفترض الحجة القائلة بأن سوء البنى التحتية أو غيابها يؤثر على أصوات الناخبين أن للنفايات وكيفية إدارتها معان ثابتة .
رأيت أن هذا الافتراض إشكالي لأنه يقتصر فقط على البلدان التي تعتبر بحاجة إلى التنمية، حيث تتوقع الدول والهيئات الأجنبية التي ترعى مشاريع البنى التحتية والخدمات هناك الحصول على الدعم لتحقيق نتائج سياسية معينة. هكذا تصبح الطرق والجسور ومدافن القمامة وسائل للقضاء على "الراديكالية" و"التمرد". كنت أعلم أيضال أن وكالات الإغاثة الدولية وإسرائيل وحتى السلطة الفلسطينية قد روجت لمشاريع صرف صحي بملايين الدولارات على أمل استمالة قلوب الفلسطينيين وعقولهم من خلال إشعارهم بأنهم يتلقون الرعاية.
لكنني تساءلت، كيف يمكن افتراض أن علاقة الفلسطينيين بالبنى التحتية ثابتة وأنهم سيلومون جهات بعينها عندما تسوء حالة مرافق الصرف الصحي؟ هذا مع العلم أن الفلسطينيين عاشوا بلا دولة وتحت حكم ستة أنظمة سياسية مختلفة - النظام العثماني والبريطاني والأردني والمصري والإسرائيلي والفلسطيني - قرابة قرن من الزمن ويعيشون حاليا في ظل أنظمة قانونية بذلك العدد. هذا ما دفعني لمحاولة استكشاف العلاقة بين النفايات والسياسة والأخلاق في فلسطين.
جدلية: ما الموضوعات والقضايا والدراسات التي يتناولها الكتاب؟
روبنز: يعرض كتابي صوراً من حياة فلسطينيي الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل. تحيط بالفلسطينيين هناك أكوام مهولة من النفايات التي لا يستطيعون منها فكاكاً، وهذا ما أسميته "حصار النفايات". فرضيتي هي أن هذا الحصار المتزايد الذي تم تجاهله يؤثر على علاقة الفلسطينيين بالسياسة والأخلاق بطرق غير متوقعة. يعني هذا أننا في حاجة إلى صياغة لغة جديدة تمكننا من موضعة أنفسنا أخلاقياً وسياسياً إزاء الانتهاكات المستمرة للعدالة في فلسطين.
استندت إلى مفاهيم الأنثروبولوجيا وأبحاث النفايات - مجال بحثي جديد يجمع بين تخصصات عديدة - في محاولتي تحديد كيفية تكوّن النفايات. أردت أن أفهم كيف يعيش الناس في بيئات غير صالحة للعيش وعلاقة هذه الظروف المعيشية بسيادة الدولة وتصور الناس عن الأخلاق والنشاط الاجتماعي والزمن.
يتتبع الكتاب أنواع مختلفة من النفايات - قمامة البلديات والبضائع المستعملة والنفايات السامة والخبز المتروك ومياه المجاري - ليحكي لنا كيف يسهم كل من الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي والاعتماد على المعونات الخارجية وتطلعات الحداثة الرأسمالية وواقع النفايات المعاش في تشكيل نشاط الفلسطينيين الاجتماعي وتوقعاتهم وتصوراتهم لآفاق الممكن. هذا أول كتاب إثنوغرافي يعنى بالنفايات وكيفية إدارتها في الشرق الأوسط. يقتضي تتبع مسار النفايات وأماكن تراكمها الالتفات للبنى التحتية الفلسطينية (على سبيل المثال، مدافن النفايات) وما أسميته "تشكيلات البنية التحتية" (أشياء مثل النفايات تلعب دور بنى تحتية تيسّر حركة الأفكار والأشخاص والأشياء) وكذا فهم البنى التحتية للاحتلال الإسرائيلي (على سبيل المثال، نقاط التفتيش والجدار العازل) التي تتمحور حولها أغلب الدراسات والتعليقات.
إحدى نتائج "غوص" الكتاب في اليومي، عن طريق تتبع كيفية إدارة البلديات والسلطة الفلسطينية للبنى التحتية، هو أنه يفتح نافذة جديدة على ذوات البيروقراطيين الفلسطينيين الذين يتم تجاهلهم كثيراً واعتبارهم فاسدين ونيوليبراليين في خدمة الاحتلال من قبل اليسار، وقوميين متشددين من قبل مؤيدي إسرائيل. التزام الكتاب "بالتفكير" انطلاقاً من مواد غير مرغوب فيها ومُغفلة، مثل مياه الصرف الصحي والخبز، يسلط الضوء على الممارسات العادية، المتجاوزة للإنسان والسياسة، التي تكتنف حياة من يعيشون تحت الاحتلال، ويبرز أيضاً كيف أن تسييس قضايا البيئة يسهم في تشكيل تصورات الفلسطينيين. بينت دراسات عدة كيف تُغِرق الجماعات المستوطنة السكان الأصليين بالنفايات السامة، لكنني أتناول في هذا الكتاب تصورات سكان المناطق المحتلة والمعسكرة والمحاصرة عن النفايات التي يُلقونها وطرق إدارتهم لها - أتطرق أيضاً إلى واقع أن وجودهم كجماعات في مثل هذه المناطق قد يعني تحول أماكن عيشهم إلى مكبّات نفايات في أي وقت.
جدلية: ما علاقة هذا الكتاب بأعمالك السابقة وكيف يختلف عنها؟
روبنز: هذا أول كتاب لي، ويعتمد على معطيات من أطروحتي للدكتوراه، لكنه يوسع مجالها ويعيد تصور الموضوع بوصفه حواراً مع المهتمين بالنفايات والبيئة والبنى التحتية وفلسطين. يختلف الكتاب عن أعمالي السابقة التي تناولت استخدام الفلسطينيين للتكنولوجيا في تصميم الأماكن العامة والسفر إلى فلسطين كوسيلة لإبداء التضامن، حيث يركز على الكيفية التي تؤثر بها الأشياء، بما هي أشياء تحتل حيزاً مكانياً، على تجارب الأفراد وتطلعاتهم السياسية. لكن الكتاب يوسع مجال عملي السابق من خلال دراسة تصورات الفلسطينيين عن الأخلاق والسياسة ورصد تجاربهم مع الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي في القرن الحادي والعشرين. مثل أعمالي السابقة، يحاول الكتاب تبيّن حركة الأجساد والأفكار والأشياء في فلسطين وخارجها - وحدود حركتها - ويسعى لتحديد الكيفية التي يعاد بها رسم خطوط الانتماء (على سبيل المثال، للأمة) والتضامن (المتمحور، على سبيل المثال، حول حماية البيئة) باستمرار، نتيجة لتلك الحركة ولتلك التبادلات والقيود.
جدلية: من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب؟ وما الأثر الذي تودين أن يخلفه؟
روبنز: إلى جانب النفايات والبنى التحتية وفلسطين، ثمة قائمة طويلة من المواضيع التي قد تحث الناس على قراءة الكتاب، ومن بينها: أنثروبولوجيا البيئة وحماية بيئة السكان الأصليين والاستهلاك والقيمة والرأسمالية والحداثة والعلوم والتكنولوجيا والغذاء والتنمية والدولة والحوكمة والبيروقراطية والزمن والمخاطر، وكذلك المساعدات الإنسانية واللا إنساني والحدود والتداول والسُّمية والخبرة وإعادة الاستعمال والاستعمار.
آمل أن يحث هذا الكتاب الطلاب والأكاديميين وصناع القرار والناشطين والمهتمين بالعدالة والحرب على طرح الأفكار المعتادة التي يحملها كثير من الناس والتي لا تأخذ بالاعتبار فلسطين كمكان ومشروع دولة. يتضمن هذا مساءلة "رومانسية المقاومة" (أبو لغد 1990) التي يضفيها الباحثون ووسائل الإعلام على ممارسات الفلسطينيين، وذلك من خلال خلق مساحات للتفكير في قضايا مثل الازدواجية (هذا الكتاب في جزء منه دراسة إثنوغرافية في الازدواجية) وفي الكيفية التي تنشأ بها الأحداث المستقبلية وتُتخذ المواقف السياسية الأخلاقية انطلاقاً من احتكاك الفلسطينيين بأشياء تؤثت بيئتهم، بعضها مستحب (مثل البنى التحتية) وبعضها مكروه (مثل القمامة). علاوة على ذلك، آمل أن مقاربتي هذه، أي اعتبار حصار النفايات إيكولوجيَا - تتطلب أي محاولة للحد من آثار النفايات السلبية استخدامها، وإعادة استخدامها، وبالتالي بقاءها جزء من البيئة - ستدفع القراء لتغيير نظرتهم إلى الحدود الفاصلة بين النفايات والبنى التحتية والبيئة. حالة فلسطين كناية عن حالة كوكبنا المحاصر، هذا ما نخلص إليه إذا فكرنا في النفايات بوصفها إيكولوجيا وليس نقيضاً لها (سبب في التلوث).
جدلية: ما المشاريع الأخرى التي تعملين عليها؟
روبنز: أنا متحمسة لأنني بدأت مؤخراً دراسة إثنوغرافية حول ما يعرف بـ «إير بي إن بي». يوسع هذا المشروع نطاق اهتمامي بالبنى التحتية والنشاط الاجتماعي من خلال دراسة تأثير «إير بي إن بي» على العلاقة بين الذات والعقار والعمل في اليونان. هدفي هو تبيان الروابط بين رأسمالية المنصات وإجراءات التقشف وتأثيراتها على واقع الأفراد. التساؤل الذي أطرحه هنا هو: كيف يعاد تشكيل علاقات القرابة والجماليات والكفاءة المهنية بفعل انتشار قوائم «إير بي إن بي» وبيع العقارات وترميمها؟ سأجري العمل الميداني الرئيسي في اليونان، التي شهدت "تهافتاً محموماً" على «إير بي إن بي» في السنوات الأخيرة، لكنه سيشمل مواقع أخرى (بما فيها إسرائيل/فلسطين). سأعمل على تتبع شبكات المستثمرين الدوليين وأصحاب العقارات ومصممي الديكور الداخلي، على سبيل المثال لا الحصر، الذين تتداخل مصالحهم في المناخ الاجتماعي والاقتصادي والهيكلي لإير بي إن بي.
مقتطفات من الكتاب:
«في 27 مارس 2007، انهار خزان للصرف الصحي في قطاع غزة، مما أدى إلى إغراق قرية أم النصر الفلسطينية بأطنان من مياه الصرف الصحي ووفاة خمسة أشخاص. عندما وصل وزير الداخلية الفلسطيني إلى الموقع بعد ساعات، طرده السكان الغاضبون باستخدام طلقات نارية. بعدها بعامين ونصف، حضرت العرض الأول لفيلم "غزة تغرق"، وهو فيلم وثائقي يعرض الحادثة. جرى العرض في الضفة الغربية في بيت «الفرندز» في رام الله، وهو مبنى حجري جميل في قلب رام الله.
قامت منظمات غير حكومية تهتم بمشاريع الصرف الصحي ووكالات الإعانة الدولية والسلطة الفلسطينية بالترويج لهذا الحدث، وقد حضره نحو ثلاثون شخصاً. بينما كنا جالسين على مقاعد بيضاء، توالت لقطات الكارثة التي شهدتها قرية أم النصر: ارتدى سكان القرية ملابس الغوص لالتماس طريقهم بين سيل مياه الصرف الصحي، أما أحد الصبية فقد جلس على باب ممسكا بلوح خشبي استخدمه للتجذيف وسط بحيرة القذارة التي أحاطت به.
لقد شممنا رائحة القذارة التي لم يتمكن الفيلم من نقلها إلينا، فقد مر معظم الحاضرين في وقت أو آخر بوادي النار، على الطريق الذي يربط وسط الضفة الغربية بجنوبها. تتدفق مياه الصرف الصحي في وادي النار عبر الضفة الغربية، وتنحدر شرقاً من القدس إلى البحر الميت. حتى الوافدون الذين يستأجرون شققاً في أحياء رام الله المشيدة حديثاً اشتموا على الأرجح رائحة المجاري التي لم تتمكن شبكات الصرف الصحي من التخلص منها كلياً.
كنت قد انتقلت للتو إلى الضفة الغربية وكان حضور الفيلم إحدى الخطوات الأولى في طريقي لتحديد كيفية إدارة الفلسطينيين للنفايات التي كانت، خلال زياراتي السابقة، مجرد خلفية عابرة ومبهمة للاحتلال. مثل أغلب المسافرين إلى فلسطين، لاحظت الفرق الشاسع بين الأرصفة النظيفة في القدس الغربية - المنطقة التي أصبحت تضم أغلبية إسرائيلية يهودية - والطريق العامر بالمخلفات، المار عبر حاجز قلنديا، الذي يفصل القدس عن الضفة الغربية، والمؤدي إلى رام الله - إحدى أهم المدن الفلسطينية. شممت رائحة البيض الفاسد - رائحة المجاري - في مخيم طولكرم للاجئين، وتناهى إلى علمي أن المستوطنين والجنود الإسرائيليين يستخدمون النفايات لمضايقة الفلسطينيين. رأيت في بلدة الخليل القديمة سياجاً فوق المحلات الفلسطينية يستخدم لجمع القمامة التي يرميها المستوطنون، وعلمت كذلك أن الشاحنات الإسرائيلية تلقي النفايات على الأراضي الفلسطينية.
في طريقي لحضور العرض، درّبت بصري على رصد ما حولي. شاهدت رجالاً بسُترات يجرّون عربات ويلتقطون القمامة من الأرصفة في سوق رام الله. رأيت أكياساً بلاستيكية مليئة بالخبز معلقة على حاويات القمامة وامرأة مسنة تكنس الرصيف خارج باب بيتها. تذكرت أنني شاهدت صناديق الكرتون الفارغة مكدسة على أسطح محلات الفواكه والخضروات في أحد أسواق مدينة جنين. تذكرت أيضاً الملاحظات التي كتبتها في الليلة السابقة، بعد تناول العشاء مع صديق يدعى زياد. نشأ زياد في مخيم بلاطة للاجئين في نابلس، وهي مدينة تقع على بعد 45 دقيقة شمال رام الله. روى لي قصة مقتل شقيقه على أيدي الجنود الإسرائيليين والتي، لدهشتي، كانت تدور أيضاً حول النفايات.
كان فيصل، شقيق زياد الأصغر، ناشطاً في كتائب شهداء الأقصى خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية. لسنوات، شارك الفلسطينيون من جميع أنحاء إسرائيل/فلسطين في مظاهرات وإضرابات مكثفة، وقد حمل بعضهم السلاح احتجاجاً على نزع الملكية والعنف والإذلال الذي تعرضوا له من قبل إسرائيل. شهدت الانتفاضة، التي استمرت بين عامي 2000 و2006، عنفاً عسكرياً شديداً ضد الفلسطينيين، إذ هاجمت إسرائيل مدن وقرى عدة وأغلقتها واغتالت قيادات فلسطينية بارزة وشنت حملات اعتقال واسعة، إضافة إلى التفجيرات وهدم المنازل.
توارى فيصل عن الأنظار بعد أن علم أن الجيش الإسرائيلي يستهدفه. لتخويف أقاربه ودفعهم للإبلاغ عنه، خرب الجيش الإسرائيلي منزل عائلته ثلاث مرات، وهدموا بعض جدرانه. خلفوا وراءهم والديه المسنين وسط الحطام والطاولات المكسورة ومحتويات الدواليب التي تراكمت على الأرضية.
بعد أن علمت عائلة فيصل بأن الجنود الإسرائيليين قتلوه، صار الحطام شهادة على الفترة التي نجح خلالها في الإفلات منهم. أوضح زياد وهو يشرب البيرة أن والديه قاما بتنظيف المنزل بمساعدة الجيران، لكنهما تركا الثقوب التي خلفتها طلقات الرصاص كي يراها زوار المنزل.
[صناديق كرتونية فوق محلات لبيع الفواكه والخضروات في جنين، عام 2010. بعدسة المؤلفة.]
[...]
وصفت الملاحظات التي كتبتها انطباعي عن رام الله: "القمامة في كل مكان. أراض غير مأهولة ومنازل نصف مبنية أو آيلة للانهيار. خردة معدنية وأقمشة أشبه بستائر أو ألحفة". تساءلت: ما الذي تخبرنا به هذه المشاهد المتباينة للنفايات عن الأشخاص الذين يعيشون في ظل نظام غير سيادي؟ وكيف تسهم النفايات في تشكيل نشاطهم الاجتماعي والسياسي وفهمهم لذواتهم؟
[...]
حصار النفايات جملة تجمع كلمتين ولكنها تعمق فهمنا لكل منهما، إذ هناك فرق بين الحصار العسكري وحصار النفايات. يقوم الحصار العسكري على مبدأ التطويق من الخارج، لكن حصار النفايات يشير إلى ما ينبعث من الداخل، سواء من داخل منطقة ما أو من داخل الجسد. ينشأ هذا الحصار نتيجة حركة النفايات بقدر ما ينشأ عن التطويق - على سبيل المثال، من خلال سيل السلع التي يرميها الناس وانتشار النفايات الناتجة عن الأنشطة الاقتصادية والمنزلية. وينشأ كذلك بفعل المواد الكيميائية والجزيئات التي تتسرب عند كل محاولة للسيطرة عليها. لا يستطيع الناس الفكاك من هذه النفايات، حتى وإن غادروا أماكن وجودها، إذ تكون السموم المنبعثة منها قد استوطنت أجسادهم، كما أن الشكوك تظل تلاحقهم إذا هم قرروا المغادرة.
تكشف دراسة النفايات كمادة سياسية ودراسة السكان المعرضين لها أن فلسطينيي الضفة الغربية الذين يعيشون تحت الاحتلال لا يشيرون بوضوح إلى من يتحمل مسؤولية هذه الأوضاع. فعندما تشم إحدى ساكنات مدينة جنين رائحة المجاري أو تضطر للتوقف لأن خيط حذائها انقطع بعد أيام من شرائه، فإنها قد تلقي اللوم على جهات عديدة. قد تختار إلقاء اللوم على منظفي الشوارع أو الأونروا أو الحكومة الأمريكية التي أوقفت تمويلها للأونروا أو الحزب السياسي المسؤول عن البلدية أو السلطة الفلسطينية أو على نفسها لمشيها في ذلك الطريق وشرائها لذلك الأحذية أو الصين (المُصنع المحتمل للحذاء) أو صاحب المتجر أو "الوضع" - مصطلح يستخدمه الفلسطينيون عادة للإشارة إلى الاحتلال. قد تلوم أخلاق الأنانية التي يرى كثيرون أنها حلت محل التضامن المجتمعي العام الذي ميز الحياة خلال الانتفاضة الأولى بين عامي 1987 و 1993 - الأخلاق عينها التي حفزتهم للحفاظ على نظافة الشوارع. رفض والدي زياد إصلاح الثقوب التي خلفها الرصاص يبين الجهات التي يلقي عليها بعض الفلسطينيين اللوم وحمل بعضهم السلاح في وجه مسؤول فلسطيني يقدم نظرة مغايرة لمن يتحمل مسؤولية تردي الأوضاع.
يخلق حصار النفايات هالة من الالتباس حول من يتحمل المسؤولية، التي تعد عبئاً ثانوياً يلي أعباء النفايات الرئيسية (مثل الرائحة والأمراض والاستياء). بالنسبة للنفايات، لا يكون المسؤول محدداً مسبقاً، وقد يتغير. تعد النفايات انتهاكاً مادياً له تفسيرات تخالف التفسيرات التي تساق لأشكال العنف الأخرى مثل التفجيرات والغارات. يخلق الحصار العسكري مشهداً يؤكد فيه تفوق المحاصِر، ويمكن وصفه بأنه شكل من أشكال الحكم الاستبدادي، الذي يتم من أعلى إلى أسفل أو من الخارج إلى الداخل، أو بأنه نظام حكم شامل يخلق تنظيمات محددة، يعزى إليها واقع الأوضاع. على سبيل المثال، خلال حصار لينينغراد الذي دام تسعمائة يوم، مات أكثر من 1.5 مليون شخص، معظمهم من الجوع ولكن أيضاً نتيجة قتلهم بعضهم بعضاً من أجل الحصول على البطاقات التموينية ولحم البشر. لا شك أن الذين تناولوا ورق الجدران وجلد الأحذية، وتلك المرأة التي قالت إنها أطعمت طفلها البالغ من العمر ثمانية عشر شهراً لأطفالها الثلاثة الأكبر سناً، فعلوا ذلك نتيجة الحصار. لا يتردد مؤرخو الحرب العالمية الثانية في اعتبار ما جرى في لينينغراد "حصارا". ثمة خلاف حول أسباب هذا الحصار العسكري، لكن المسؤول عنه معروف.
في المقابل، لا ندري من المسؤول عن حصار النفايات. يشترك هذا الحصار في سمة الالتباس التي تميز حالات أخرى، فعلى سبيل المثال، من الصعب تتبع أو إثبات السبب وراء انتشار الأمراض بعد حدوث الكوارث الصناعية. جانب من الصعوبة يرجع إلى طبيعة النفايات، فهي تشير إلى أن أفراد كانوا في حيز ما وقاموا بأنشطة معينة، لكن دون أن تكون ثمة ضرورة لوجودهم في المكان حيث المخلفات. غياب الأدلة التي تُعين على لوم جهات بعينها يؤدي إلى انزياح الخطاب حول النفايات صوب فاعلين فرديين، مما يجعل إلقاء المسؤولية عملية ملتبسة وناقصة على الدوام. في فلسطين، كان من اللافت للنظر أنه بالرغم من وجود جهات عدة يمكن تحميلها مسؤولية النفايات، فقد سارع الناس إلى لوم جهة واحدة. كانوا ميالين إلى تضييق نطاق المسؤولية والإفراط في فردنتها - على سبيل المثال، إلقاء المسؤولية على أنفسهم أو على السلطة - أو توسيع نطاقها بشكل كبير، مثلاً بلوم الصين. في كلتا الحالتين، نادراً ما تم تحميل المسؤولية لجهات متعددة. ظلت العمليات المختلفة التي تؤدي إلى حصار النفايات محجوبة.
قد يؤدي حصار النفايات إلى ما يسميه روب نيكسون "العنف البطيء"، وذلك من خلال تدمير البيئة، كما هو الحال عندما تتسرب نترات المجاري إلى طبقة المياه الجوفية، وتدمير الأجساد، كما هو الحال عندما تظهر مشاكل في الأمعاء بعد سنوات من التعرض للنترات. مع ذلك، يختلف حصار النفايات عن العنف البطيء من حيث أن النفايات ملتبسة وظاهرة في الوقت نفسه. حصار النفايات أشد من العنف الهيكلي، لأن الفرد في احتكاك دائم معها. هي ملقاة هناك، يراها الجميع، ويشمون رائحتها، ويشعرون بوطأتها. لكن علاقتها بالأخلاق والسياسة تظل غامضة ومستغلقة.
[ركن حرقت فيه القمامة في البلدة القديمة في نابلس، عام 2015. بعدسة المؤلفة.]
يحجب حصار النفايات الأسباب المتعددة التي تقف وراء تراكمها، مما يدل على أن تحديد جذور الظاهرة أمر صعب. يعني هذا أيضاً أن العلاقة بين حصار النفايات والحصار العسكري - في هذه الحالة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي - علاقة يكتنفها الغموض. ليس حصار النفايات مجرد سمة أخرى تميز الاحتلال، فهو يختلف عنه. ثمة تفاعل بين هذا الحصار والاحتلال، تفاعل يصرف انتباه الفلسطينيين عن واقع حالهم، وهذا ما تعنيه إعادة توجيه السياسة. لا يمكن تجاهل حصار النفايات، إلا أن اللوم لا يلقى على جهة بعينها، إذ لا إجماع حول المسؤول عن الأوضاع. وحتى عندما تتراكم أكوام النفايات في كل مكان، فمن النادر أن يلقى اللوم على الاحتلال الإسرائيلي وعلى غياب سيادة الدولة الفلسطينية الناتج عن واقع الاحتلال نفسه.
يعني الغموض الذي يكتنف هذا الحصار أن الأشخاص الذين حادثتهم لم يفهموا دائماً أن كيفية تعاملهم مع النفايات هي في حد ذاتها ممارسات سياسية. مثل الحصار العسكري، يتطلب حصار النفايات ابتكار طرق جديدة للتغلب على التحديات اليومية، مثل ندرة السلع. لجأ الفلسطينيون إلى تنظيم حصص المؤن وتطوير أنظمة للمقايضة. يمكن اعتبار حصص المؤونة نوعاً من المقاومة، ووسيلة للبقاء على قيد الحياة. عادة ما يربط الفلسطينيون بين النشاط السياسي، والسياسة عموماً، ومواجهاتهم مع إسرائيل، لكنهم لا يعتبرون جهودهم في إدارة النفايات نوعاً من المقاومة أو الصمود - المصطلح الذي يستخدمه الفلسطينيون لوصف ثباتهم في وجه السياسات الإسرائيلية الاستعمارية. بدلاً من ذلك، ينظرون إلى محاولاتهم لتجاوز واقع النفايات الذي يحاصرهم باعتبارها ممارسات بديهية وعادية لتخفيف وطأة المواد العادية، وغير المرغوبة، التي تحتل حيزاً بينهم. في غياب إجماع على من يتحمل المسؤولية، فإن "المقاومة"، ذلك المفهوم الذي انبنى عليه تصور العديد من الدارسين للمجتمع والتاريخ الفلسطيني على مدار العقود القليلة الماضية، تفتقر إلى هدف محدد، ويمكن القول إن قيمة المفهوم التحليلية غير ذات أهمية في هذه الحالة.»
[ترجمة ادريس امجيش]
[للمقال باللغة الانجيليزية، اضغط/ي هنا]