هل يستطيع الثوري الجزائري أن يتكلم؟ تحديات تحليل أزمة سياسية أثناء حدوثها

هل يستطيع الثوري الجزائري أن يتكلم؟ تحديات تحليل أزمة سياسية أثناء حدوثها

هل يستطيع الثوري الجزائري أن يتكلم؟ تحديات تحليل أزمة سياسية أثناء حدوثها

By : Thomas Serres

يرى الباحثون المحلّلون و في الشأن الجزائري أن ما يمر به البلد حالياً يثير الدهشة ويبعث على القلق. تربط الكثيرون منهم علاقة حميمة بالجزائر وبالأصدقاء والزملاء المشاركين في الحراك. نحن قلقون من أن يؤدي عنف الدولة إلى تقويض المطالب واسعة النطاق بالتغيير السلمي. نتابع نشرات الأخبار، بينما تتكشف تفاصيل الأزمة السياسية أمام أعيننا ويقترب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية.

تقدم لحظات النضال و/أو التغيير السريع منظوراً فريداً يمكن من خلاله فهم تشكل (وتفكك) النظم الاجتماعية. الآثار المتدرجة، والتطورات الزمنية المرافقة، ومنطق التغير والاستقرار، إلى جانب عوامل السيطرة والمقاومة، كلها توفر رؤى لا حصر لها لفهم حيثيات الأزمة. من المسلم به أن الأزمات السياسية تفتح منبراً جديداً لآرائنا وتكسب أهمية كبير لأعمالنا. تقصدنا وسائل الإعلام (التقليدية والبديلة)، وكذلك بعض الهيئات الحكومية، لتحديد الفرص الممكنة والتهديدات المتوقعة. خلال الأزمات، لا يكتسب الباحثون أهمية سياسية فحسب، بل يستفيدون من موارد توفرها المنظومة الأمنية. لهذه الأسباب كلها، تمثل الأزمات السياسية فرصة سانحة للباحثين، خاصة على المستويين الفكري والمادي.

مع ذلك، يظل تحليل أزمة سياسية وقت حدوثها أمراً في غاية الصعوبة، إذ غالباً ما يتسم الوضع بالغموض. مع أنها بمثابة مقدمة لمستقبل سياسي واعد وتتحدى الوضع الراهن (أيديولوجياً ومادياً)، إلا أن الأزمة غالباً ما تدفع الفاعلين والمراقبين على حد سواء إلى تبني السلوكيات المحافظة والأفكار الراسخة نفسها. لذلك فإن أي تشخيص فوري للأزمة يكون بالضرورة ملتبساً وناقصاً، يستند إلى رؤى جزئية، ويخالطه التحيز. في حالة الجزائر، فإن انحيازي واضح: لطالما انتقدت ازدراء النظام للشعب وأيدت دعوة الحراك إلى جمعية تأسيسية ومنع تدخل الجيش في السياسة. مع ذلك، يمكن أن تقود رغبة الخبراء في أن تكون آراؤهم ذات أهمية إلى تكرار العنف المعرفي الذي تميز به الإنتاج المعرفي الغربي عن بلدان الجنوب العالمي. يوضح مقال هيو روبرتس، "The Hirak and the Ides of December"، الذي نُشر في نوفمبر 2019 على "جدلية"، بعض أوجه القصور المرتبطة بتحليل الأزمات السياسية وقت حدوثها. في المقال، يركز روبرتس على ما يجري في الجزائر لتحديد وتفسير الفشل المزعوم للحراك في اقتراح بديل ثوري متماسك للنظام القائم.

قراءة التوصيف النقدي 

لا أشك في مقدار فهم روبرتس للوضع في الجزائر، إذ يعرض مقاله الأخير العديد من الأفكار المفتاحية حول طبيعة النظام المتغيرة، وموقع الجيش داخل هذا النظام، والطريقة التي أجج بها الحراك الشعور الشعبي. لكن ادعاءه الرئيسي هو أن الحراك الجزائري يفتقر إلى رؤية سياسية وأهداف ملموسة، وهو ما يفسر في نظره فشله في موضعة نفسه كقوة ثورية فاعلة. يدعي روبرتس أيضاً أن الحراك أضاع فرصة سانحة للتفاوض مع الجيش على "تسوية تاريخية"، حيث يشير إلى أن الحراك قدم على نحو متزايد مطالب معارضة وغير محددة لا ترتقي لأن تكون برنامجاً سياسياً.

يعتمد روبرتس لدعم حججه، على سلسلة من الادعاءات المشكوك في صحتها. على سبيل المثال، يجادل بأن الحراك في بداياته كان له هدف محدد يستند إلى الدستور: رفض ولاية رئاسية خامسة لبوتفليقة. يرى روبرتس أن هذه المرجعية السياسية والقانونية الواضحة هي ما افتقده الحراك بعد استقالة بوتفليقة أوائل أبريل 2019. هذا التوصيف يجانب الصواب، فبينما كانت الولاية الخامسة المحفز الرئيسي للتعبئة الشعبية إلا أن مطالب الحراك كانت أيضاً مطالب اجتماعية وسياسية. رفع المتظاهرون شعارات ضد "العصابة" - جميع الأشخاص الذين لهم يد في الولاية الخامسة وفي سوء إدارة ثروات البلاد واختلاسها - منذ انطلاق الحراك. لم يرفض المتظاهرون ترشح بوتفليقة فقط، بل أدانوا كذلك ناهبي البلاد، واعتمدوا على الدستور بشكل استراتيجي للتدليل على التجاوزات السياسية للمسؤولين الذين زعموا أنهم استولوا على السلطة. ومع ذلك، كان يُنظر إلى الدستور على أنه وثيقة انتهكها النظام مراراً من أجل تسويغ مصادرته للثورة الأولى - الكفاح من أجل الاستقلال. على عكس الخطاب السياسي الرائج في الولايات المتحدة، لا يعتبر الجزائريون الدستور وثيقة مقدسة، ذلك أن المرجعيات الوحيدة المقدسة في نظر الجميع هي الشعب والكفاح الوطني ضد الفرنسيين.

يركز روبرتس في تحليله للوضع على النخب السياسية والسياق المؤسسي، مما يسمح له بانتقاد توجهات الحراك بعد الأشهر الأولى من الاحتجاجات، ويتحسر على مطالبة الحراك بجمعية تأسيسية و"جمهورية ثانية" بالرغم من غياب أدلة تؤكد أن هذه الجمهورية ستكون "أفضل من الجمهورية الحالية". ونتيجة لتركيزه على الإطار المؤسسي، فهو يفشل في استكناه الشعور السائد بين الغالبية العظمى من الجزائريين، الذين يرون في النظام الحالي مجرد "ديمقراطية زائفة" - واجهة ديمقراطية يتلاعب بها الجهاز العسكري البيروقراطي كيفما يريد. أوضح الخبير القانوني والمنتقد العتيد للنظام مجيد بن شيخ مراراً سبب لا شرعية هذا الإطار المؤسسي، فعلى مدار العقد الماضي، كانت العمليات الانتخابية صفعة في وجه الجزائريين. من هذا المنظور، فإن أي جمهورية ستكون بالضرورة أفضل من الجمهورية الحالية، على الأقل مبدئياً. لا يجد هذا الادعاء جذوره في الآليات المؤسسية، ولكن في واقع أن أي نظام سياسي شرعي يتطلب وجود مستوى من الثقة في مؤسساته، وهو ما تفتقده الجمهورية الحالية.

لعل أكثر مزاعم روبرتس الإشكالية تتعلق بتأكيده أن الحراك "لم يكن ثورياً أبداً" وأن "لا وجود لوضع ثوري في الجزائر". يستند تشخيصه هذا إلى غياب ازدواجية للسلطة في الجزائر، نظراً لأن الجيش هو القوة السياسية "الفاعلة" الوحيدة. هذا الرأي محل نقاش لأسباب كثيرة، لأنه، أولاً، تبسيط لحجة تشارلز تيلي بشأن "ازدواجية السلطة" - أحد معايير الوضع الثوري. يقول تيلي إن "الوضع الثوري ينبثق عندما تصبح حكومة كانت خاضعة سابقاً لسيطرة نظام سيادي واحد موضوعاً لمطالبات متنافسة وحصرية من قبل نظامين سياسيين متمايزين، أو أكثر". [1] يمكن استخدام هذا الإطار النظري إما على نحو مرن أو جامد، ويبدو أن روبرتس يفضل الخيار الثاني لأنه يخدم استنتاجاته. ولكن يمكن أيضاً القول إن الحراك هو بالفعل "نظام سياسي" له مطالب معارِضة وله سيادة تتجلى في شوارع البلاد وتدعمه بعض أجهزة الدولة (مثل أنظمة التعليم والصحة، وأجزاء من الجهاز القضائي، والمسؤولين المحليين). علاوة على ذلك، يؤدي التركيز الحصري والجامد على مفهوم "ازدواجية السلطة" إلى تجاهل جوانب أخرى من الوضع الثوري حددها مفكرون أمثال تروتسكي ولينين وغرامشي وأرندت وسكوكبول وحتى تيلي نفسه. تشير الانقسامات داخل النظام الحاكم وعجزه عن خلق حالة من الهيمنة الثقافية وفقدان الثقة في السلطة السياسية و"معاناة الجماهير" والتعبئة الشعبية المستمرة - الأسباب التي أدت إلى الانتفاضة السلمية عام 2019 - إلى وجود وضع ثوري في الجزائر. التركيز فقط على العوامل التي تؤكد التفسيرات الأحادية البعد للأزمات السياسية ما هو إلا امتياز يحظى به الخبراء.

اللعبة الوحيدة الممكنة

المحاججة ضد الوضع الثوري لها عواقب جسيمة. يرى روبرتس أن النتيجة وحدها لها أهمية، مع أن تيلي يذكر بوضوح أن "الوضع الثوري لا يؤدي بالضرورة إلى نتيجة ثورية". [2] وهكذا يصبح سقوط بوتفليقة والمعارضة الشعبية الواسعة والإدانة الصريحة لقمع الدولة والاستيلاء على الفضاء العام مجرد محطات على مسار ضيق ومحدد سلفاً. إذا لم يصح اعتبار هذه ثورة، فذلك لأن المتظاهرين ارتكبوا أخطاء عديدة، فقد كان عليهم أن يتصرفوا بطريقة مختلفة وأن يكونوا أكثر واقعية. يصرح روبرتس أنه "في غياب وضع ثوري، فإن أقصى آمال الحراك كانت إحداث إصلاح هام"، وإعادة الاعتبار لدور"الرأي العام"، ومطالبة النخبة الحاكمة بـ "تغيير سلوكها للأفضل".

مثل هذا التحليل مقيد بالضرورة بتصور العديد من علماء الاجتماع عن عملية الدمقرطة. الحوكمة الرشيدة والإصلاح والتوفيق بين مطالب النخب واحترام المؤسسات والدستور، ناهيك عن تنظيم الانتخابات، كلها تصورات تتكرر في تحليلاتهم للأزمات السياسية. ويبدو أن هذا ما وقع فيه روبرتس والعديد من الخبراء الذين أصدروا أحكامهم بشأن الحركات الثورية التي هزت الشرق الأوسط على مدار العقد الماضي. ظل هذا الإطار النظري الذي يفسر الانتقالات الديمقراطية شائعاً، بالرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت له منذ بداية الألفية الجديدة. [3] شيوع هذا الإطار النظري يعني استمرار تفسير الأوضاع وفق معالم محددة سلفاً والهوس بنتيجة معينة تشكل (وتشوه) كيفية تحليل الأحداث التي تهز الأنظمة السياسية. [4]

لدعم حجة التحول الديمقراطي، على المختص تقديم مقترحات ملموسة. في حالة الجزائر، يؤكد روبرتس على الحاجة إلى حل وسط تاريخي بين الجيش وبين النخب المعارضة. في هذه المرحلة، ليس لديه خيار آخر سوى تجاهل الواقع، ذلك أن شروط مثل هذا النقاش كانت غائبة منذ البداية. يقول روبرتس إن الحراك كان عليه إقناع الجيش بقبول التسوية. بعبارة أخرى، كان على الحراك، الذي هو بالأساس حركة بلا قيادة، أن يعيّن ممثلين للتفاوض مع الأوليغارشية العسكرية التي كانت أنشطتها السياسية غير القانونية ترتكز دوماً على النفعية والأبوية. علاوة على ذلك، كان من المفترض أن يحدث هذا النقاش في اللحظة التي شن فيها رئيس أركان الجيش، أحمد قايد صالح، حملة على المتظاهرين، أجازها النظام باستخدام الخطاب الأمني المذعور نفسه الذي طالما تميز به.

تكشف النخب التي يرى روبرتس أنها تدعم مثل هذه التسوية الكثير عن تصوراته للوضع الجزائري. فعلى سبيل المثال، يمثل عبد الرحمن حاج ناصر مجموعة من التكنوقراطيين الذين اكتسبوا نفوذهم انطلاقاً من مركزهم السابق داخل النظام ودفاعهم عن الأفكار الليبرالية والإصلاحية، ولكنهم نخبويون وليس لديهم أي قاعدة سياسية. أما عبد الله جاب الله، فلا شك أنه أحد أكثر الشخصيات الإسلامية مصداقية في الجزائر، ولكن حزبه السياسي بالكاد يمثل قوة سياسية، أضف إلى ذلك محدودية نطاقه الجغرافي. علاوة على ذلك، فإن جاب الله يعارض الانتخابات المزمع إجراؤها في 12 ديسمبر. أما محند واعمر بن الحاج، الأمين العام بالنيابة للمنظمة الوطنية للمجاهدين، فقد اتخذ مواقف شجاعة دفاعاً عن المحتجين المسجونين، لكنه ما يزال القائد المؤقت غير المنتخب في منظمة لطالما دعمت بوتفليقة طوال فترة ولايته.

يتناقض مقترح روبرتس مع البرنامج الذي تقدمت به العديد من الشخصيات والحركات التي عارضت النظام الجزائري على مدار العقد الماضي: مصطفى بوشاشي، كريم طابو، محسن بلعباس، سفيان جيلالي، مجيد بن شيخ، منظمة راج، حزب جبهة القوى الاشتراكية، حزب العمال الجزائري، الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، حزب جيل جديد، اللجنة الوطنية للدفاع عن حقوق العاطلين عن العمل، نقابات عمالية مستقلة، وغيرها. لطالما أبدى روبرتس تحسره على فشل اليسار الجزائري والتزامه الديمقراطي السطحي. نقده هذا صائب في جانب منه، ويشاركه العديد من النشطاء الرأي نفسه. مع ذلك، وبينما يسعى روبرتس لتقديم الإرشاد للحراك، في شكل مقترح مبني على خبرته الطويلة، إلا أنه يسوّغ تدريجياً بقاء الجهاز العسكري البيروقراطي الذي استأثر بالسلطة السياسية واستولى على ثروات البلاد منذ الاستقلال. علاوة على ذلك، فالصورة التي عرضها لأحمد قايد صالح، رئيس أركان الجيش، غير مكتملة، لأن هذا الأخير مكّن بوتفليقة من البقاء في الرئاسة مدى الحياة بحكم مركزه النافذ. كان يحيط به كذلك مجموعة من المعاونين الفاسدين، وفي مقدمتهم المحتقرين من عموم الجزائريين، بهاء الدين طليبة وعمار سعداني الذي ما يزال حرا ويتمتع بامتيازات عديدة. من غير المجدي استعراض سيرة باقي أعضاء الجهاز العسكري البيروقراطي، لكن من الصعب قبول قول روبرتس بأنهم يتمتعون بـ "أفضلية أخلاقية" أو أنهم "أبرز" قادة الإصلاح. كيف يمكن لنظام طلب دعم بوتين والإمارات ضد شعبه، وفشل في تحقيق إصلاح جذري على مدار أربعين عاماً، أن يتمتع بأفضلية أخلاقية أو يقود عملية الإصلاح؟ 

يفتقد الإطار النظري الذي يستند إليه العديد من دارسي الشرق الأوسط والذي يفسر كيفية حدوث الانتقال الديمقراطي للاتساق والواقعية، لأن منطلقاته (المشاركة في المؤسسات السياسية وتحقيق إجماع بين النخب السياسية وتبني دستور ليبرالي) ثابتة وتقوم على تمركز عرقي. يكاد يستحيل أن تلبي الجهات الفاعلة على الأرض هذه التوقعات - أي أن يعبر حراكهم هذا عن نشاط ديمقراطي وثوري "حقيقي" - ومن ثم، يبدو أن النظام الاستبدادي وحده سيخرج رابحاً. ما لا شك فيه أن الأزمات السياسية تتطلب التشخيص، وتدفع دوماً المختصين لصياغة آراء ناقصة بالضرورة. لكن، مع أن المسيرة الثورية قد تستمر لعقود، إلا أن المراقبين المطلعين يعلنون عن نجاحها أو فشلها بعد سنوات، أو، كما في حالة روبرتس، بعد عشرة أشهر. يسهم هذا في انتشار خطاب "الكارثية" الذي يسم تحليلات المختصين في الشرق الأوسط، كما يسمح بصياغة خطط إصلاحية وإقرار سياسات أمنية وتبرير التدخل الأجنبي. 

المختصون وآخرهم الصامت

يستند تصور روبرتس إلى خبرته الطويلة في شؤون الجزائر والشرق الأوسط. نقده للدعوة "غير العملية" إلى إنشاء جمعية تأسيسية والتوجه "السلبي" للمشروع التحرري المنطلق من القومية الجزائرية وإشارته إلى غياب ازدواجية للسلطة في الجزائر، كلها مسائل سبق له أن تطرق إليها في كتابه "ساحة المعركة" الصادر في عام 2003 [5]. في تقرير صدر عن الفريق الدولي المعني بالأزمات في عام 2005، أشار روبرتس إلى افتقار حركة كفاية المصرية لأجندة إيجابية، وقد كرر النقد نفسه لاحقاً في مقالة لمجلة «لندن ريفيو أوف بوكس» تحسر فيها على "الغياب الصارخ للفكر السياسي الجمهوري في مجتمعات المنطقة". من هذا المنطلق، تتشابه حجة روبرتس مع الحجة التي اقترحها آصف بيات في كتابه "ثورات بدون ثوار" [6]، بالرغم من أن اختلاف توقعاتهم يؤدي بهم إلى استنتاجات متباينة بخصوص طبيعة انتفاضات 2011.

في حين أن الفاعلين العلمانيين، ذوي الميول اليسارية، غالباً ما خيبوا آمال روبرتس، يبدو أن الإسلاميين مثل جاب الله يتوافقون بشكل أفضل مع الإطار الاستراتيجي والفكري الذي أرساه على مدار العقود الأربعة الماضية. بدلاً من التكيف مع الوضع المتغير على أرض الواقع، يقوده هذا الإطار إلى إبداء أحكام قيمة. ما إن يكتسب الخبراء ما يكفي من الخبرة، يتوقفون عن مراكمة معرفتهم عن الموضوع الذي تخصصوا فيه، ويلجؤون في المقابل إلى إملاء التحركات الاستراتيجية والواقعية والنفعية التي يجب اتباعها. يؤدي هذا إلى تحميل الناشطين المحليين كامل المسؤولية، مثلما فعل روبرتس مع حركة كفاية والحراك، الذين تفسر عيوبهم "فشل" حركتهم. يجادل روبرتس أن إخفاق النشطاء الجزائريين في عقد تسوية مع القوى المعادية للثورة أثبت أنهم غير قادرين على تحقيق الغاية المرجوة.

تبعاً لذلك، تنشأ العديد من المشكلات. أولها، أن ثمة عنف متأصل في هذا الخطاب الذي يلوم الضحايا بدلاً من الجلادين، إذ من الأهمية بمكان أن نتذكر أنهم مسؤولون عن آلاف عمليات القتل والاعتقالات التعسفية وحالات الانتحار وحالات التعذيب وعنف رجال الشرطة، بالإضافة إلى نهبهم خيرات البلاد بلا هوادة. ثاني هذه المشكلات يتمثل في استفادة المختص من صمود الإطار الفكري الذي ينطلق منه في وجه الأزمة. ولهذا يتساءل روبرتس في مقالته لمجلة لندن ريفيو أوف بوكس عن الأسباب التي دفعت جماعة الإخوان المسلمين إلى الوقوع في الفخ الذي نصبه الجيش المصري. لكن ما ينقص هذا النقد هو الإشارة إلى حقيقة بسيطة للغاية ومحورية، وهي أن الفاعلين الذين يتخذون هذه القرارات لا يتمتعون بالامتياز الذي يحظى به المختصون والذي يسمح لهم بتحليل الأوضاع انطلاقاً من إطار نظري ثابت. "سوء تقدير" جماعة الإخوان للأوضاع هو نتيجة مباشرة لحالة من الالتباس الشديد والخطر وتقلب الشعور العام. على عكس الخبراء، فإن الفاعلين على الأرض يمشون على رمال متحركة، وقد يؤدي "خطأ" واحد إلى وفاتهم بعد قضائهم سنوات في الحبس الانفرادي. إخبار الثوريين بما كان ينبغي عليهم فعله أقل ما يقال عنه أنه مناف للعقل. بالرغم من الخبرة التي اكتسبناها ومئات الكتب التي قرأناها والمقالات الكثيرة التي كتبناها، فإننا لا نملك رأس المال الأكثر أهمية للحكم على الوضع - أي التجربة. لا يستطيع الخبير أن يفهم الثوري ولا أن يتكلم نيابة عنه. التعاطف مع قضية ما لا يبرر الشفافية المزيفة التي سبق لغياتري سبيفاك شجبها [7].

ينأى الخبراء بأنفسهم عن الميدان من أجل تبسيط الواقع والاستجابة لمطالب الجمهور، لا سيما الدولة ووسائل الإعلام، ويتيح لهم الاعتماد على أطر نظرية راسخة الاستجابة لهذه المطالب. لكنهم، خلال قيامهم بهذا، يخاطرون بإسكات الناشطين الذين يسعون لإيجاد حلول للأزمة. في نقده للحراك، يتجاهل روبرتس تباين الأصوات على الأرض. على سبيل المثال، عندما يزعم أن رفض الانتخابات الرئاسية هو "المطلب الوحيد الذي اتفق عليه الحراك"، فإنه يتجاهل سلسلة المطالب التي صاغتها قوى البديل الديمقراطي في سبتمبر. تحالف قوى المعارضة هذا دعى كذلك إلى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وطالب باستقلال النظام القضائي (مطلب يدعمه معظم ممارسي المهن القانونية) وفتح المجال الإعلامي (لا سيما في القطاع العام). بالمثل، عندما يقول روبرتس إن الجزائريين فشلوا في تحديد المبادئ التأسيسية التي ستنبني عليها الجمهورية الثانية، فإنه يتجاهل كون العديد من مؤيدي هذه الجمهورية اتفقوا منذ الأيام الأولى للحراك على أنها ستبدأ عند القطع مع النظام الرئاسي الحالي. على العموم، ليس موقف قوى البديل الديمقراطي مبهماً ومشوشاً، ذلك أنهم شرعوا في عملية تنظيم ذاتي على المستوى المحلي - بالرغم من الاعتقالات والعقبات البيروقراطية الكثيرة. أخيراً، بدلاً من الصدام مباشرة مع الجيش، فرق المتظاهرون على نحو واضح بين الأوليغارشية العسكرية والمؤسسة نفسها (جيش شعب خاوا خاوا، وقايد صالح من الخونة).

باختصار، يميل الخبراء إلى التكلم نيابة عن الناشطين المحليين، دون الاستماع إلى ما يقولونه. في نهاية المطاف، يؤدي اعتماد روبرتس على تشخيصات جامدة وتصورات مسبقة عن عملية الانتقال الديمقراطي إلى الخروج بوصف استعلائي غاية في السطحية للحراك الشعبي. بالرغم من معرفته العميقة بالمنطقة، فإنه يسوّغ سياسة إعادة التنظيم التي يطبقها النظام، مما يؤدي إلى إسكات الناشطين الذين ناضلوا من أجل إرساء النظام العلماني الذي نادى به والقائم على "الحرية والعدالة والكرامة". في الختام، وعكس الإطناب الذي يقع فيه الخبراء (أنا وروبرتس على حد سواء)، ستنقل هذه المقالة صوت صديق عزيز وثوري سجن منذ نهاية سبتمبر. سيبدأ المعتقلون السياسيون إضرابا عن الطعام في 10 ديسمبر للمطالبة بإنهاء حبسهم، وللتعبير عن رفضهم إجراء الانتخابات.

رسالة من أخينا حكيم عداد (بتاريخ 1 نوفمبر 2019)

"من سجن الحراش إلى الجزائر

القوة والتقدير والاحترام للشعب الذي سار منذ يوم الجمعة العظيم 22 فبراير من أجل جزائر جديدة وحرة وديمقراطية، حيث سيشرق فجر العدالة والمساواة.

في هذا اليوم، الجمعة 1 نوفمبر 2019، ما نزال أحراراً، حتى وإن كنا، أنا ورفاقي، قابعين خلف الجدران والقضبان. أنا مقتنع بأن الأمر نفسه ينطبق على رفيقتينا سميرة ونور الهدى، اللتين اعتقلتا بالقوة في مكان قريب. في الخارج قاومنا، ونحن نفعل الشيء نفسه هنا، حيث أجبرنا على البقاء للحظات. لدينا ثقة كاملة في حراكنا الثوري والسلمي، وفيكم أنتم الذين في الخارج، وفي الشباب وكبار السن من الرجال والنساء.

أريد أن أحيي المحامين والصحفيين وحراس السجن والمعتقلين في سجن الحراش، الذين يطلون على العالم الخارجي، حيث الحياة الحقيقية. أود أيضاً أن أحيي من كل أعماق قلبي الرجال والنساء والطلاب الذين يحتجون في شتى أرجاء البلاد والذين سيشاركون في مسيرة يومي الجمعة والثلاثاء. أريد أن أحيي أيضاً الجزائريين في المهجر وأصدقاء الجزائر في الخارج الذين سيفعلون الشيء نفسه يوم الأحد. أحيي شغفكم الذي يبقي حلمنا بالحرية والعدالة والكرامة حياً.

أبعث بتحياتي إليكم، أيها النشطاء والقادة، سواء انتميتم إلى الأحزاب أو الجمعيات أو الاتحادات أو النقابات أو الجماعات. إليكم رفاقي في البديل الديمقراطي، يا من تسيرون بثبات جنباً إلى جنب مع حراكنا السلمي الثوري. آمل وأعلم وأثق أنكم ستستمرون في محاولة تحقيق حلم شعبنا من سبيل السياسة ودون ازدواجية. حلم الدولة المدنية القائمة على سيادة القانون والمساواة، بدءاً بالمساواة بين الجنسين، والذي سيتحقق إن غدا أو بعد غد. حلم دولة تكون فيها المؤسسات ذات معنى، بدءاً بفكرة العدالة.

إليكم، أصدقائي من كل مكان؛ إليكم، يا رفاقي في الطريق؛ إليك، أمي؛ إليك، شريكتي؛ إليك، والدي المتوفى؛ إليكم، قرة عيني، أبنائي؛ آمنوا بقوة عزيمتي وقوة تصميم رفاقي. طالما استمرت المسيرة، في الخارج وفي كل مكان، قبل 12 ديسمبر وبعد يوم الجمعة 13 ديسمبر، ستقوّون عزمنا. ستثبتون أننا كنا على حق عندما عارضنا النظام وخرجنا في مسيرات احتجاجية سلمية، دون أن يخالط قلوبنا كره أو رغبة في الانتقام، قبل 22 فبراير وبعده. كنا محقين حين طالبنا بجزائر تليق بأولئك الذين أطلقوا شرارة الثورة في 1 نوفمبر 1954 وقادونا إلى الاستقلال، والتي كانت خطوة أولى ضرورية.

أخيراً، إليكم، رفاقي السجناء، الذين اعتقلوا مثلي لأسباب سياسية، أينما كنتم في الجزائر. إليك أيها العظيم لخضر بورقعة، لك مني كامل الاحترام!

أراكم قريباً، دوماً! أتمنى لكم جمعة حرية عظيمة. قبلاتي إليكم جميعاً.

حكيم عداد، معتقل سياسي."
________________________________

[1] تشارلز تيلي، من التعبئة إلى الثورة، (ريدينج، ماس: أديسون-ويسلي، 1978)، ص 192.

[2] المرجع نفسه، ص 193.

[3] انظر على سبيل المثال توماس كاروثرز، "نهاية نموذج الانتقال"، دورية الديمقراطية، (13:1، 2002)، ص 5-21.

[4] ميشال دوبري، "Les voies incertaines de la transitologie: choix stratégiques, séquences Historique, bifurcations et processus de path dependence", Revue française de science politique, (50: 4-5, 2000), 585-614.

[5] هيو روبرتس، ساحة المعركة: الجزائر، 1988-2002، دراسات في فشل نظام سياسي، (لندن: فيرسو، 2003).

[6] آصف بيات، ثورات بدون الثوار: فهم الربيع العربي، (ستانفورد: دار نشر جامعة ستانفورد، 2017).

[7] غياتري سبيفاك، "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟"، في كاري نيلسون ولورنس جروسبرج، محرران. الماركسية وتأويل الثقافة ( ماكميلان: باسينغستوك، 1988)، ص 271-313.

[ترجمة ادريس امجيش. نشر المقال بالإنكليزية على جدلية]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬