يرى الباحثون المحلّلون و في الشأن الجزائري أن ما يمر به البلد حالياً يثير الدهشة ويبعث على القلق. تربط الكثيرون منهم علاقة حميمة بالجزائر وبالأصدقاء والزملاء المشاركين في الحراك. نحن قلقون من أن يؤدي عنف الدولة إلى تقويض المطالب واسعة النطاق بالتغيير السلمي. نتابع نشرات الأخبار، بينما تتكشف تفاصيل الأزمة السياسية أمام أعيننا ويقترب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية.
تقدم لحظات النضال و/أو التغيير السريع منظوراً فريداً يمكن من خلاله فهم تشكل (وتفكك) النظم الاجتماعية. الآثار المتدرجة، والتطورات الزمنية المرافقة، ومنطق التغير والاستقرار، إلى جانب عوامل السيطرة والمقاومة، كلها توفر رؤى لا حصر لها لفهم حيثيات الأزمة. من المسلم به أن الأزمات السياسية تفتح منبراً جديداً لآرائنا وتكسب أهمية كبير لأعمالنا. تقصدنا وسائل الإعلام (التقليدية والبديلة)، وكذلك بعض الهيئات الحكومية، لتحديد الفرص الممكنة والتهديدات المتوقعة. خلال الأزمات، لا يكتسب الباحثون أهمية سياسية فحسب، بل يستفيدون من موارد توفرها المنظومة الأمنية. لهذه الأسباب كلها، تمثل الأزمات السياسية فرصة سانحة للباحثين، خاصة على المستويين الفكري والمادي.
مع ذلك، يظل تحليل أزمة سياسية وقت حدوثها أمراً في غاية الصعوبة، إذ غالباً ما يتسم الوضع بالغموض. مع أنها بمثابة مقدمة لمستقبل سياسي واعد وتتحدى الوضع الراهن (أيديولوجياً ومادياً)، إلا أن الأزمة غالباً ما تدفع الفاعلين والمراقبين على حد سواء إلى تبني السلوكيات المحافظة والأفكار الراسخة نفسها. لذلك فإن أي تشخيص فوري للأزمة يكون بالضرورة ملتبساً وناقصاً، يستند إلى رؤى جزئية، ويخالطه التحيز. في حالة الجزائر، فإن انحيازي واضح: لطالما انتقدت ازدراء النظام للشعب وأيدت دعوة الحراك إلى جمعية تأسيسية ومنع تدخل الجيش في السياسة. مع ذلك، يمكن أن تقود رغبة الخبراء في أن تكون آراؤهم ذات أهمية إلى تكرار العنف المعرفي الذي تميز به الإنتاج المعرفي الغربي عن بلدان الجنوب العالمي. يوضح مقال هيو روبرتس، "The Hirak and the Ides of December"، الذي نُشر في نوفمبر 2019 على "جدلية"، بعض أوجه القصور المرتبطة بتحليل الأزمات السياسية وقت حدوثها. في المقال، يركز روبرتس على ما يجري في الجزائر لتحديد وتفسير الفشل المزعوم للحراك في اقتراح بديل ثوري متماسك للنظام القائم.
قراءة التوصيف النقدي
لا أشك في مقدار فهم روبرتس للوضع في الجزائر، إذ يعرض مقاله الأخير العديد من الأفكار المفتاحية حول طبيعة النظام المتغيرة، وموقع الجيش داخل هذا النظام، والطريقة التي أجج بها الحراك الشعور الشعبي. لكن ادعاءه الرئيسي هو أن الحراك الجزائري يفتقر إلى رؤية سياسية وأهداف ملموسة، وهو ما يفسر في نظره فشله في موضعة نفسه كقوة ثورية فاعلة. يدعي روبرتس أيضاً أن الحراك أضاع فرصة سانحة للتفاوض مع الجيش على "تسوية تاريخية"، حيث يشير إلى أن الحراك قدم على نحو متزايد مطالب معارضة وغير محددة لا ترتقي لأن تكون برنامجاً سياسياً.
يعتمد روبرتس لدعم حججه، على سلسلة من الادعاءات المشكوك في صحتها. على سبيل المثال، يجادل بأن الحراك في بداياته كان له هدف محدد يستند إلى الدستور: رفض ولاية رئاسية خامسة لبوتفليقة. يرى روبرتس أن هذه المرجعية السياسية والقانونية الواضحة هي ما افتقده الحراك بعد استقالة بوتفليقة أوائل أبريل 2019. هذا التوصيف يجانب الصواب، فبينما كانت الولاية الخامسة المحفز الرئيسي للتعبئة الشعبية إلا أن مطالب الحراك كانت أيضاً مطالب اجتماعية وسياسية. رفع المتظاهرون شعارات ضد "العصابة" - جميع الأشخاص الذين لهم يد في الولاية الخامسة وفي سوء إدارة ثروات البلاد واختلاسها - منذ انطلاق الحراك. لم يرفض المتظاهرون ترشح بوتفليقة فقط، بل أدانوا كذلك ناهبي البلاد، واعتمدوا على الدستور بشكل استراتيجي للتدليل على التجاوزات السياسية للمسؤولين الذين زعموا أنهم استولوا على السلطة. ومع ذلك، كان يُنظر إلى الدستور على أنه وثيقة انتهكها النظام مراراً من أجل تسويغ مصادرته للثورة الأولى - الكفاح من أجل الاستقلال. على عكس الخطاب السياسي الرائج في الولايات المتحدة، لا يعتبر الجزائريون الدستور وثيقة مقدسة، ذلك أن المرجعيات الوحيدة المقدسة في نظر الجميع هي الشعب والكفاح الوطني ضد الفرنسيين.
يركز روبرتس في تحليله للوضع على النخب السياسية والسياق المؤسسي، مما يسمح له بانتقاد توجهات الحراك بعد الأشهر الأولى من الاحتجاجات، ويتحسر على مطالبة الحراك بجمعية تأسيسية و"جمهورية ثانية" بالرغم من غياب أدلة تؤكد أن هذه الجمهورية ستكون "أفضل من الجمهورية الحالية". ونتيجة لتركيزه على الإطار المؤسسي، فهو يفشل في استكناه الشعور السائد بين الغالبية العظمى من الجزائريين، الذين يرون في النظام الحالي مجرد "ديمقراطية زائفة" - واجهة ديمقراطية يتلاعب بها الجهاز العسكري البيروقراطي كيفما يريد. أوضح الخبير القانوني والمنتقد العتيد للنظام مجيد بن شيخ مراراً سبب لا شرعية هذا الإطار المؤسسي، فعلى مدار العقد الماضي، كانت العمليات الانتخابية صفعة في وجه الجزائريين. من هذا المنظور، فإن أي جمهورية ستكون بالضرورة أفضل من الجمهورية الحالية، على الأقل مبدئياً. لا يجد هذا الادعاء جذوره في الآليات المؤسسية، ولكن في واقع أن أي نظام سياسي شرعي يتطلب وجود مستوى من الثقة في مؤسساته، وهو ما تفتقده الجمهورية الحالية.
لعل أكثر مزاعم روبرتس الإشكالية تتعلق بتأكيده أن الحراك "لم يكن ثورياً أبداً" وأن "لا وجود لوضع ثوري في الجزائر". يستند تشخيصه هذا إلى غياب ازدواجية للسلطة في الجزائر، نظراً لأن الجيش هو القوة السياسية "الفاعلة" الوحيدة. هذا الرأي محل نقاش لأسباب كثيرة، لأنه، أولاً، تبسيط لحجة تشارلز تيلي بشأن "ازدواجية السلطة" - أحد معايير الوضع الثوري. يقول تيلي إن "الوضع الثوري ينبثق عندما تصبح حكومة كانت خاضعة سابقاً لسيطرة نظام سيادي واحد موضوعاً لمطالبات متنافسة وحصرية من قبل نظامين سياسيين متمايزين، أو أكثر". [1] يمكن استخدام هذا الإطار النظري إما على نحو مرن أو جامد، ويبدو أن روبرتس يفضل الخيار الثاني لأنه يخدم استنتاجاته. ولكن يمكن أيضاً القول إن الحراك هو بالفعل "نظام سياسي" له مطالب معارِضة وله سيادة تتجلى في شوارع البلاد وتدعمه بعض أجهزة الدولة (مثل أنظمة التعليم والصحة، وأجزاء من الجهاز القضائي، والمسؤولين المحليين). علاوة على ذلك، يؤدي التركيز الحصري والجامد على مفهوم "ازدواجية السلطة" إلى تجاهل جوانب أخرى من الوضع الثوري حددها مفكرون أمثال تروتسكي ولينين وغرامشي وأرندت وسكوكبول وحتى تيلي نفسه. تشير الانقسامات داخل النظام الحاكم وعجزه عن خلق حالة من الهيمنة الثقافية وفقدان الثقة في السلطة السياسية و"معاناة الجماهير" والتعبئة الشعبية المستمرة - الأسباب التي أدت إلى الانتفاضة السلمية عام 2019 - إلى وجود وضع ثوري في الجزائر. التركيز فقط على العوامل التي تؤكد التفسيرات الأحادية البعد للأزمات السياسية ما هو إلا امتياز يحظى به الخبراء.
اللعبة الوحيدة الممكنة
المحاججة ضد الوضع الثوري لها عواقب جسيمة. يرى روبرتس أن النتيجة وحدها لها أهمية، مع أن تيلي يذكر بوضوح أن "الوضع الثوري لا يؤدي بالضرورة إلى نتيجة ثورية". [2] وهكذا يصبح سقوط بوتفليقة والمعارضة الشعبية الواسعة والإدانة الصريحة لقمع الدولة والاستيلاء على الفضاء العام مجرد محطات على مسار ضيق ومحدد سلفاً. إذا لم يصح اعتبار هذه ثورة، فذلك لأن المتظاهرين ارتكبوا أخطاء عديدة، فقد كان عليهم أن يتصرفوا بطريقة مختلفة وأن يكونوا أكثر واقعية. يصرح روبرتس أنه "في غياب وضع ثوري، فإن أقصى آمال الحراك كانت إحداث إصلاح هام"، وإعادة الاعتبار لدور"الرأي العام"، ومطالبة النخبة الحاكمة بـ "تغيير سلوكها للأفضل".
مثل هذا التحليل مقيد بالضرورة بتصور العديد من علماء الاجتماع عن عملية الدمقرطة. الحوكمة الرشيدة والإصلاح والتوفيق بين مطالب النخب واحترام المؤسسات والدستور، ناهيك عن تنظيم الانتخابات، كلها تصورات تتكرر في تحليلاتهم للأزمات السياسية. ويبدو أن هذا ما وقع فيه روبرتس والعديد من الخبراء الذين أصدروا أحكامهم بشأن الحركات الثورية التي هزت الشرق الأوسط على مدار العقد الماضي. ظل هذا الإطار النظري الذي يفسر الانتقالات الديمقراطية شائعاً، بالرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت له منذ بداية الألفية الجديدة. [3] شيوع هذا الإطار النظري يعني استمرار تفسير الأوضاع وفق معالم محددة سلفاً والهوس بنتيجة معينة تشكل (وتشوه) كيفية تحليل الأحداث التي تهز الأنظمة السياسية. [4]
لدعم حجة التحول الديمقراطي، على المختص تقديم مقترحات ملموسة. في حالة الجزائر، يؤكد روبرتس على الحاجة إلى حل وسط تاريخي بين الجيش وبين النخب المعارضة. في هذه المرحلة، ليس لديه خيار آخر سوى تجاهل الواقع، ذلك أن شروط مثل هذا النقاش كانت غائبة منذ البداية. يقول روبرتس إن الحراك كان عليه إقناع الجيش بقبول التسوية. بعبارة أخرى، كان على الحراك، الذي هو بالأساس حركة بلا قيادة، أن يعيّن ممثلين للتفاوض مع الأوليغارشية العسكرية التي كانت أنشطتها السياسية غير القانونية ترتكز دوماً على النفعية والأبوية. علاوة على ذلك، كان من المفترض أن يحدث هذا النقاش في اللحظة التي شن فيها رئيس أركان الجيش، أحمد قايد صالح، حملة على المتظاهرين، أجازها النظام باستخدام الخطاب الأمني المذعور نفسه الذي طالما تميز به.
تكشف النخب التي يرى روبرتس أنها تدعم مثل هذه التسوية الكثير عن تصوراته للوضع الجزائري. فعلى سبيل المثال، يمثل عبد الرحمن حاج ناصر مجموعة من التكنوقراطيين الذين اكتسبوا نفوذهم انطلاقاً من مركزهم السابق داخل النظام ودفاعهم عن الأفكار الليبرالية والإصلاحية، ولكنهم نخبويون وليس لديهم أي قاعدة سياسية. أما عبد الله جاب الله، فلا شك أنه أحد أكثر الشخصيات الإسلامية مصداقية في الجزائر، ولكن حزبه السياسي بالكاد يمثل قوة سياسية، أضف إلى ذلك محدودية نطاقه الجغرافي. علاوة على ذلك، فإن جاب الله يعارض الانتخابات المزمع إجراؤها في 12 ديسمبر. أما محند واعمر بن الحاج، الأمين العام بالنيابة للمنظمة الوطنية للمجاهدين، فقد اتخذ مواقف شجاعة دفاعاً عن المحتجين المسجونين، لكنه ما يزال القائد المؤقت غير المنتخب في منظمة لطالما دعمت بوتفليقة طوال فترة ولايته.
يتناقض مقترح روبرتس مع البرنامج الذي تقدمت به العديد من الشخصيات والحركات التي عارضت النظام الجزائري على مدار العقد الماضي: مصطفى بوشاشي، كريم طابو، محسن بلعباس، سفيان جيلالي، مجيد بن شيخ، منظمة راج، حزب جبهة القوى الاشتراكية، حزب العمال الجزائري، الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، حزب جيل جديد، اللجنة الوطنية للدفاع عن حقوق العاطلين عن العمل، نقابات عمالية مستقلة، وغيرها. لطالما أبدى روبرتس تحسره على فشل اليسار الجزائري والتزامه الديمقراطي السطحي. نقده هذا صائب في جانب منه، ويشاركه العديد من النشطاء الرأي نفسه. مع ذلك، وبينما يسعى روبرتس لتقديم الإرشاد للحراك، في شكل مقترح مبني على خبرته الطويلة، إلا أنه يسوّغ تدريجياً بقاء الجهاز العسكري البيروقراطي الذي استأثر بالسلطة السياسية واستولى على ثروات البلاد منذ الاستقلال. علاوة على ذلك، فالصورة التي عرضها لأحمد قايد صالح، رئيس أركان الجيش، غير مكتملة، لأن هذا الأخير مكّن بوتفليقة من البقاء في الرئاسة مدى الحياة بحكم مركزه النافذ. كان يحيط به كذلك مجموعة من المعاونين الفاسدين، وفي مقدمتهم المحتقرين من عموم الجزائريين، بهاء الدين طليبة وعمار سعداني الذي ما يزال حرا ويتمتع بامتيازات عديدة. من غير المجدي استعراض سيرة باقي أعضاء الجهاز العسكري البيروقراطي، لكن من الصعب قبول قول روبرتس بأنهم يتمتعون بـ "أفضلية أخلاقية" أو أنهم "أبرز" قادة الإصلاح. كيف يمكن لنظام طلب دعم بوتين والإمارات ضد شعبه، وفشل في تحقيق إصلاح جذري على مدار أربعين عاماً، أن يتمتع بأفضلية أخلاقية أو يقود عملية الإصلاح؟
يفتقد الإطار النظري الذي يستند إليه العديد من دارسي الشرق الأوسط والذي يفسر كيفية حدوث الانتقال الديمقراطي للاتساق والواقعية، لأن منطلقاته (المشاركة في المؤسسات السياسية وتحقيق إجماع بين النخب السياسية وتبني دستور ليبرالي) ثابتة وتقوم على تمركز عرقي. يكاد يستحيل أن تلبي الجهات الفاعلة على الأرض هذه التوقعات - أي أن يعبر حراكهم هذا عن نشاط ديمقراطي وثوري "حقيقي" - ومن ثم، يبدو أن النظام الاستبدادي وحده سيخرج رابحاً. ما لا شك فيه أن الأزمات السياسية تتطلب التشخيص، وتدفع دوماً المختصين لصياغة آراء ناقصة بالضرورة. لكن، مع أن المسيرة الثورية قد تستمر لعقود، إلا أن المراقبين المطلعين يعلنون عن نجاحها أو فشلها بعد سنوات، أو، كما في حالة روبرتس، بعد عشرة أشهر. يسهم هذا في انتشار خطاب "الكارثية" الذي يسم تحليلات المختصين في الشرق الأوسط، كما يسمح بصياغة خطط إصلاحية وإقرار سياسات أمنية وتبرير التدخل الأجنبي.
المختصون وآخرهم الصامت
يستند تصور روبرتس إلى خبرته الطويلة في شؤون الجزائر والشرق الأوسط. نقده للدعوة "غير العملية" إلى إنشاء جمعية تأسيسية والتوجه "السلبي" للمشروع التحرري المنطلق من القومية الجزائرية وإشارته إلى غياب ازدواجية للسلطة في الجزائر، كلها مسائل سبق له أن تطرق إليها في كتابه "ساحة المعركة" الصادر في عام 2003 [5]. في تقرير صدر عن الفريق الدولي المعني بالأزمات في عام 2005، أشار روبرتس إلى افتقار حركة كفاية المصرية لأجندة إيجابية، وقد كرر النقد نفسه لاحقاً في مقالة لمجلة «لندن ريفيو أوف بوكس» تحسر فيها على "الغياب الصارخ للفكر السياسي الجمهوري في مجتمعات المنطقة". من هذا المنطلق، تتشابه حجة روبرتس مع الحجة التي اقترحها آصف بيات في كتابه "ثورات بدون ثوار" [6]، بالرغم من أن اختلاف توقعاتهم يؤدي بهم إلى استنتاجات متباينة بخصوص طبيعة انتفاضات 2011.
في حين أن الفاعلين العلمانيين، ذوي الميول اليسارية، غالباً ما خيبوا آمال روبرتس، يبدو أن الإسلاميين مثل جاب الله يتوافقون بشكل أفضل مع الإطار الاستراتيجي والفكري الذي أرساه على مدار العقود الأربعة الماضية. بدلاً من التكيف مع الوضع المتغير على أرض الواقع، يقوده هذا الإطار إلى إبداء أحكام قيمة. ما إن يكتسب الخبراء ما يكفي من الخبرة، يتوقفون عن مراكمة معرفتهم عن الموضوع الذي تخصصوا فيه، ويلجؤون في المقابل إلى إملاء التحركات الاستراتيجية والواقعية والنفعية التي يجب اتباعها. يؤدي هذا إلى تحميل الناشطين المحليين كامل المسؤولية، مثلما فعل روبرتس مع حركة كفاية والحراك، الذين تفسر عيوبهم "فشل" حركتهم. يجادل روبرتس أن إخفاق النشطاء الجزائريين في عقد تسوية مع القوى المعادية للثورة أثبت أنهم غير قادرين على تحقيق الغاية المرجوة.
تبعاً لذلك، تنشأ العديد من المشكلات. أولها، أن ثمة عنف متأصل في هذا الخطاب الذي يلوم الضحايا بدلاً من الجلادين، إذ من الأهمية بمكان أن نتذكر أنهم مسؤولون عن آلاف عمليات القتل والاعتقالات التعسفية وحالات الانتحار وحالات التعذيب وعنف رجال الشرطة، بالإضافة إلى نهبهم خيرات البلاد بلا هوادة. ثاني هذه المشكلات يتمثل في استفادة المختص من صمود الإطار الفكري الذي ينطلق منه في وجه الأزمة. ولهذا يتساءل روبرتس في مقالته لمجلة لندن ريفيو أوف بوكس عن الأسباب التي دفعت جماعة الإخوان المسلمين إلى الوقوع في الفخ الذي نصبه الجيش المصري. لكن ما ينقص هذا النقد هو الإشارة إلى حقيقة بسيطة للغاية ومحورية، وهي أن الفاعلين الذين يتخذون هذه القرارات لا يتمتعون بالامتياز الذي يحظى به المختصون والذي يسمح لهم بتحليل الأوضاع انطلاقاً من إطار نظري ثابت. "سوء تقدير" جماعة الإخوان للأوضاع هو نتيجة مباشرة لحالة من الالتباس الشديد والخطر وتقلب الشعور العام. على عكس الخبراء، فإن الفاعلين على الأرض يمشون على رمال متحركة، وقد يؤدي "خطأ" واحد إلى وفاتهم بعد قضائهم سنوات في الحبس الانفرادي. إخبار الثوريين بما كان ينبغي عليهم فعله أقل ما يقال عنه أنه مناف للعقل. بالرغم من الخبرة التي اكتسبناها ومئات الكتب التي قرأناها والمقالات الكثيرة التي كتبناها، فإننا لا نملك رأس المال الأكثر أهمية للحكم على الوضع - أي التجربة. لا يستطيع الخبير أن يفهم الثوري ولا أن يتكلم نيابة عنه. التعاطف مع قضية ما لا يبرر الشفافية المزيفة التي سبق لغياتري سبيفاك شجبها [7].
ينأى الخبراء بأنفسهم عن الميدان من أجل تبسيط الواقع والاستجابة لمطالب الجمهور، لا سيما الدولة ووسائل الإعلام، ويتيح لهم الاعتماد على أطر نظرية راسخة الاستجابة لهذه المطالب. لكنهم، خلال قيامهم بهذا، يخاطرون بإسكات الناشطين الذين يسعون لإيجاد حلول للأزمة. في نقده للحراك، يتجاهل روبرتس تباين الأصوات على الأرض. على سبيل المثال، عندما يزعم أن رفض الانتخابات الرئاسية هو "المطلب الوحيد الذي اتفق عليه الحراك"، فإنه يتجاهل سلسلة المطالب التي صاغتها قوى البديل الديمقراطي في سبتمبر. تحالف قوى المعارضة هذا دعى كذلك إلى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وطالب باستقلال النظام القضائي (مطلب يدعمه معظم ممارسي المهن القانونية) وفتح المجال الإعلامي (لا سيما في القطاع العام). بالمثل، عندما يقول روبرتس إن الجزائريين فشلوا في تحديد المبادئ التأسيسية التي ستنبني عليها الجمهورية الثانية، فإنه يتجاهل كون العديد من مؤيدي هذه الجمهورية اتفقوا منذ الأيام الأولى للحراك على أنها ستبدأ عند القطع مع النظام الرئاسي الحالي. على العموم، ليس موقف قوى البديل الديمقراطي مبهماً ومشوشاً، ذلك أنهم شرعوا في عملية تنظيم ذاتي على المستوى المحلي - بالرغم من الاعتقالات والعقبات البيروقراطية الكثيرة. أخيراً، بدلاً من الصدام مباشرة مع الجيش، فرق المتظاهرون على نحو واضح بين الأوليغارشية العسكرية والمؤسسة نفسها (جيش شعب خاوا خاوا، وقايد صالح من الخونة).
باختصار، يميل الخبراء إلى التكلم نيابة عن الناشطين المحليين، دون الاستماع إلى ما يقولونه. في نهاية المطاف، يؤدي اعتماد روبرتس على تشخيصات جامدة وتصورات مسبقة عن عملية الانتقال الديمقراطي إلى الخروج بوصف استعلائي غاية في السطحية للحراك الشعبي. بالرغم من معرفته العميقة بالمنطقة، فإنه يسوّغ سياسة إعادة التنظيم التي يطبقها النظام، مما يؤدي إلى إسكات الناشطين الذين ناضلوا من أجل إرساء النظام العلماني الذي نادى به والقائم على "الحرية والعدالة والكرامة". في الختام، وعكس الإطناب الذي يقع فيه الخبراء (أنا وروبرتس على حد سواء)، ستنقل هذه المقالة صوت صديق عزيز وثوري سجن منذ نهاية سبتمبر. سيبدأ المعتقلون السياسيون إضرابا عن الطعام في 10 ديسمبر للمطالبة بإنهاء حبسهم، وللتعبير عن رفضهم إجراء الانتخابات.
رسالة من أخينا حكيم عداد (بتاريخ 1 نوفمبر 2019)
"من سجن الحراش إلى الجزائر
القوة والتقدير والاحترام للشعب الذي سار منذ يوم الجمعة العظيم 22 فبراير من أجل جزائر جديدة وحرة وديمقراطية، حيث سيشرق فجر العدالة والمساواة.
في هذا اليوم، الجمعة 1 نوفمبر 2019، ما نزال أحراراً، حتى وإن كنا، أنا ورفاقي، قابعين خلف الجدران والقضبان. أنا مقتنع بأن الأمر نفسه ينطبق على رفيقتينا سميرة ونور الهدى، اللتين اعتقلتا بالقوة في مكان قريب. في الخارج قاومنا، ونحن نفعل الشيء نفسه هنا، حيث أجبرنا على البقاء للحظات. لدينا ثقة كاملة في حراكنا الثوري والسلمي، وفيكم أنتم الذين في الخارج، وفي الشباب وكبار السن من الرجال والنساء.
أريد أن أحيي المحامين والصحفيين وحراس السجن والمعتقلين في سجن الحراش، الذين يطلون على العالم الخارجي، حيث الحياة الحقيقية. أود أيضاً أن أحيي من كل أعماق قلبي الرجال والنساء والطلاب الذين يحتجون في شتى أرجاء البلاد والذين سيشاركون في مسيرة يومي الجمعة والثلاثاء. أريد أن أحيي أيضاً الجزائريين في المهجر وأصدقاء الجزائر في الخارج الذين سيفعلون الشيء نفسه يوم الأحد. أحيي شغفكم الذي يبقي حلمنا بالحرية والعدالة والكرامة حياً.
أبعث بتحياتي إليكم، أيها النشطاء والقادة، سواء انتميتم إلى الأحزاب أو الجمعيات أو الاتحادات أو النقابات أو الجماعات. إليكم رفاقي في البديل الديمقراطي، يا من تسيرون بثبات جنباً إلى جنب مع حراكنا السلمي الثوري. آمل وأعلم وأثق أنكم ستستمرون في محاولة تحقيق حلم شعبنا من سبيل السياسة ودون ازدواجية. حلم الدولة المدنية القائمة على سيادة القانون والمساواة، بدءاً بالمساواة بين الجنسين، والذي سيتحقق إن غدا أو بعد غد. حلم دولة تكون فيها المؤسسات ذات معنى، بدءاً بفكرة العدالة.
إليكم، أصدقائي من كل مكان؛ إليكم، يا رفاقي في الطريق؛ إليك، أمي؛ إليك، شريكتي؛ إليك، والدي المتوفى؛ إليكم، قرة عيني، أبنائي؛ آمنوا بقوة عزيمتي وقوة تصميم رفاقي. طالما استمرت المسيرة، في الخارج وفي كل مكان، قبل 12 ديسمبر وبعد يوم الجمعة 13 ديسمبر، ستقوّون عزمنا. ستثبتون أننا كنا على حق عندما عارضنا النظام وخرجنا في مسيرات احتجاجية سلمية، دون أن يخالط قلوبنا كره أو رغبة في الانتقام، قبل 22 فبراير وبعده. كنا محقين حين طالبنا بجزائر تليق بأولئك الذين أطلقوا شرارة الثورة في 1 نوفمبر 1954 وقادونا إلى الاستقلال، والتي كانت خطوة أولى ضرورية.
أخيراً، إليكم، رفاقي السجناء، الذين اعتقلوا مثلي لأسباب سياسية، أينما كنتم في الجزائر. إليك أيها العظيم لخضر بورقعة، لك مني كامل الاحترام!
أراكم قريباً، دوماً! أتمنى لكم جمعة حرية عظيمة. قبلاتي إليكم جميعاً.
حكيم عداد، معتقل سياسي."
________________________________
[1] تشارلز تيلي، من التعبئة إلى الثورة، (ريدينج، ماس: أديسون-ويسلي، 1978)، ص 192.
[2] المرجع نفسه، ص 193.
[3] انظر على سبيل المثال توماس كاروثرز، "نهاية نموذج الانتقال"، دورية الديمقراطية، (13:1، 2002)، ص 5-21.
[4] ميشال دوبري، "Les voies incertaines de la transitologie: choix stratégiques, séquences Historique, bifurcations et processus de path dependence", Revue française de science politique, (50: 4-5, 2000), 585-614.
[5] هيو روبرتس، ساحة المعركة: الجزائر، 1988-2002، دراسات في فشل نظام سياسي، (لندن: فيرسو، 2003).
[6] آصف بيات، ثورات بدون الثوار: فهم الربيع العربي، (ستانفورد: دار نشر جامعة ستانفورد، 2017).
[7] غياتري سبيفاك، "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟"، في كاري نيلسون ولورنس جروسبرج، محرران. الماركسية وتأويل الثقافة ( ماكميلان: باسينغستوك، 1988)، ص 271-313.
[ترجمة ادريس امجيش. نشر المقال بالإنكليزية على جدلية]