الهند: لماذا لا ينجح مخطط مودي ضد المسلمين في المرور

الهند: لماذا لا ينجح مخطط مودي ضد المسلمين في المرور

الهند: لماذا لا ينجح مخطط مودي ضد المسلمين في المرور

By : Olivier da Lage أوليفييه دالاج

[ترجمت المقال من الفرنسية سارة قريرة.]

إن المستهدفين من رفض منح الجنسية الهندية لللاجئين المسلمين الآتين من البلدان الحدودية الثلاثة هم في الحقيقة مسلمو الهند، والذين يرغب الوزير الأول الهندي في أن يجعل منهم أشخاصا عديمي الجنسية. أمام موجة الصدمة هذه، يتحرك هؤلاء في إطار تعبئة لم يسبق لها مثيل ضد تطرف القومية الهندوسية.

صحيح أن مسلمي الهند ليسوا سوى 14% من المجتمع، لكنهم يمثلون 180 مليون شخصا، أي أقل بقليل من عدد سكان باكستان. وبعد بضع عقود، سيتجاوزون عدد مسلمي أندونيسيا، ما سيجعل من الهند أكبر بلد مسلم في العالم من حيث عدد السكان. لكنهم سيبقون أقلية مسلمة تُذكّر أكثر فأكثر بأنها غير مرحّب بها في بلدها.

“هندوتفا” هي الإيديولوجيا المؤسسة لحزب بهارتيا جاناتا (حزب الشعب الهندي)، والوزير الأول الحالي ناريندرا مودي -والذي وصل إلى الحكم في 2014 وأعيد انتخابه بأغلبية واسعة في مايو/أيار 2019- من أوفى أتباعها. لكنه اختار في 2014 أن يقود حملته حول موضوع الحوكمة الرشيدة -إذ كانت الهند آنذاك غارقة في فضائح مالية طالت حتى قادة من مجلس الشيوخ- ووعود بالتنمية1.

تخليص البلد من “الأرَض

بعدها بخمس سنوات، لم تكن النتائج الاقتصادية المنشودة في الموعد. فقام حزب الشعب الهندي هذه المرة بخوض حملة انتخابية حول المطالب الأساسية للقوميين الهندوس: إلغاء الوضع الخاص للكشمير -وهي الولاية الوحيدة ذات أغلبية مسلمة-، تشييد معبد للإله رام حيث كان مسجد أيوديا الذي هدمه ناشطون قوميون في ديسمبر/كانون الأول 1992، ما تسبب في انتفاضات طائفية أسفرت عن آلاف الموتى، وإنشاء قانون مدني موحد يلغي الاستثناء الذي يحظى به المسيحيون والمسلمون. وخلال هذه الحملة الانتخابية، كان قادة حزب الشعب بما فيهم مودي يخلطون بسهولة بين المعارضة -ولا سيما حزب المؤتمر الوطني- وبين العدو الباكستاني. أما أميت شاه، رئيس حزب الشعب، فقد كان يعد بتخليص الهند من هؤلاء “المندسين” و“الأرَض” (أي من المهاجرين غير الشرعيين المسلمين الذين أتوا من بنغلادش) وبرميهم في خليج البنغال.

فسّر مودي النجاح العارم لحزب الشعب والذي منحه أغلبية مطلقة في مجلس الشعب (وذلك بنسبة 37,4% نظرا لنظام التصويت) والذي يغنيه عن القيام بتنازلات لفائدة حلفائه كتفويض واضح يسمح له بتطبيق برنامج حزب الشعب في أسرع الآجال.

عزل الكشمير

ففي الخامس من أغسطس/آب 2019، جعل أميت شاه البرلمان الهندي يصوت من أجل إلغاء المادة 370 من الدستور التي كانت تسمح لكشمير بالانضمام إلى الاتحاد الهندي، بعد مدة طويلة من انضمام بقية الولايات الهندية. كما كانت هذه المادة تمنح الكشمير حكما ذاتيا واسعا وكانت نتيجة تسوية مع قادة هذه المنطقة للانضمام إلى الهند، فيما كانت باكستان تطمع في ضمها إليها أيضا. وقد رحب الهنديون خارج الكشمير وكذلك وسائل الإعلام الهندية التي تفتقر أكثر فأكثر للاستقلالية بهذه المبادرة. لكن في الكشمير، تم إعلان حظر تجول قاس، ووضع مسؤولين سياسيين تحت الإقامة الجبرية -بما فيهم حلفاء قدامى لحزب الشعب- وقطع شبكة الانترنت. كما مُنع الأجانب وحتى نواب المعارضة من الوصول إلى كشمير2، فيما كانت السلطات تؤكد أن كل شيء على ما يرام هناك. أما المحكمة العليا التي سبق وأخذت مواقف أكثر شجاعة، فقد رفضت أن تنظر بصفة مستعجلة إلى حالات الاعتقال التعسفي التي مثلت أمامها. ولم تفعل ذلك حتى بعد ستة أشهر.

حكم مثير للجدل في قضية مسجد بابري بأيوديا

في الأثناء، قامت نفس المحكمة العليا بالبت في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 في قضية مسجد بابري بأيوديا، والذي هدمه سنة 1992 عدد من الناشطين المتطرفين الذين كانوا يريدون “إعادة بناء” معبد رام. فهم يقولون بأن هذا المعبد تم هدمه في القرن السادس عشر تحت فترة حكم الإمبراطور المغولي ظهير الدين بابر. وفي وثيقة الحكم التي تعد ألف صفحة، تعترف المحكمة العليا بأن هدم هذا المسجد غير قانوني وأن لا وجود لأي أدلة دامغة تقر بأسبقية وجود معبد في ذات المكان. لكن القضاة السامين قبلوا بطلبات المشتكين الهندوس ومنحوهم الحق الحصري في بناء معبد في ذلك المكان، فيما يحصل المسلمون على مساحة هكتارين غير بعيد من هناك.

أولئك الذين انتقدوا ضعف القاعدة القانونية لهذا القرار اختلفوا في الرأي. فبعضهم اتهم القضاة بأنهم انحنوا أمام “الأغلبوية” السائدة، فيما اعتبره البعض الآخر حكما سياسيا لكن يهدف للتهدئة، إذ يسمح بتجنب أعمال العنف التي كانت قد تصدر عن متطرفي “سانغ باريفار”3 الهندوس لو كان الحكم مغايرا. لذلك تراجعت أغلب المنظمات الممثلة للمسلمين عن استئناف الحكم.

هندوس بدون جنسية في ولاية آسام

في نفس الفترة، كانت ولاية آسام في الشمال الشرقي للهند قد أتمت تجميع السجل الوطني للمواطنين. وهو مشروع يعود إلى الثمانينات، أي منذ ولاية راجيف غاندي. تقع آسام على حدود بنغلادش، وتشهد منذ عقود تفشي كره الأجانب لوجود عدد كبير من المهاجرين غير الشرعيين الذين أتوا من البلد المجاور. كثيرون هم أهالي آسام الذين يرغبون في طرد الأجانب من أراضيهم. وقد سرّعت حكومة حزب الشعب، بدعم من المحكمة العليا التي يترأسها القاضي غوغوي أصيل ولاية آسام، هذه العملية. في سبتمبر/أيلول 2019، كشفت الأرقام الأولى عن 4 ملايين شخص لم ينجحوا في تخطي العقبة الأولى وتقديم دليل على هويتهم الهندية. وقد أثار الأمر صدمة، إذ أن عددا كبيرا من هؤلاء (حوالي الثلثين) هم هندوس، ومن بينهم ضباط من الجيش. وفي إحصاء ثان، تمت مراجعة الأرقام واكتشف فجأة مليون و900 ألف هندي أنهم لم يعودوا كذلك.

كان عليهم إثبات أنهم أنفسهم أو أن أولياءهم كانوا يقطنون آسام قبل استقلال بنغلادش سنة 1971. وهو أمر شبه مستحيل بالنسبة لعدد كبير من الهنديين في بلد ذي قانون مدني يكاد أن ينعدم. فبادرت حكومة نيودلهي بإنشاء مخيمات لاحتجاز هؤلاء الأشخاص الذين أضحوا عديمي الجنسية.

هنا، تقدم أميت شاه -الذي وعد خلال حملته في ربيع سنة 2019 ومؤخرا في شهر نوفمبر/تشرين الأول بتعميم طريقة عمل هذا السجل في كامل الهند- أمام مجلس الشعب حيث يتمتع بأغلبية مباشرة، واقترح تنقيحا لقانون المواطنة لسنة 1955. من خلال هذا التنقيح، بات من حق المهاجرين غير الشرعيين القاطنين في الهند التمتع بالجنسية الهندية في حال جاؤوا من باكستان أو من بنغلادش أو من أفغانستان، شرط الانتماء إلى إحدى الأقليات الدينية التالية: الهندوس، البوذيين، السيخ، البارسي، الجاينيين، المسيحيين. أما المسلمون، فلم يذكروا، كذلك بالنسبة لبلدان أخرى مجاورة للهند، مثل سريلانكا أو نيبال. يكرر أميت شاه -دون إقناع أحد- أن هذا التنقيح لا يشمل مسلمي الهند وأن لا خوف عليهم، بما أن الأمر يدور حول منح حقوق جديدة لضحايا الاضطهاد الديني، وليس سحب الحقوق عن أحد.

تناقض مع دستور علماني

تم التصويت على هذا المشروع بسهولة في مجلس الشعب، كما حظي في مجلس الشيوخ بأغلبية طفيفة، برغم اعتراض المعارضة التي نددت -دون أي تنظيم- بالطبيعة العنصرية لهذا القانون تجاه المسلمين ومخالفته للدستور. فهذه هي فعلا المرة الأولى التي بات فيها الدين شرطا، في حين أن الدستور الهندي علماني وأن الفقه المتواصل للمحكمة العليا وضع العلمانية كإحدى أسس النظام العدلي للبلاد.

وفيما كان بعض رجال القانون يستعدون لتقديم شكوى أمام المحكمة العليا، طالت مسلمي الهند صدمة هائلة. فعموما، ومنذ عقدين، صمد المسلمون أمام صعود الأغلبوية الهندوسية، ما قد يحيلهم إلى مواطنين من درجة ثانية. وقد قاموا -مع غيرهم- باحتجاجات خجولة أمام صعود العنصرية والاعتداءات الجماعية التي كان البعض منهم ضحيتها، لا سيما منذ وصول حزب الشعب إلى الحكم. لكنهم بشكل عام وبطريقة جماعية تقبلوا هذه الضربات بثبات وصبر. بيد أن وضعهم كمواطنين هنديين بات اليوم مهددا.

تعنيف طلبة في نيو دلهي

اندلعت المظاهرات في جميع أنحاء البلاد. لكن إحداها غيرت الموقف، وهي مظاهرة طلبة جامعة ميليا في نيودلهي. وهي جامعة إسلامية ذات صيت واسع، جميع طلبتها وأساتذتها ليسوا مسلمين، كما تعد من بين طلبتها القدامى شخصيات بارزة. في 15 ديسمبر/كانون الأول، دخلت شرطة دلهي (التابعة مباشرة لوزارة الداخلية) الحرم الجامعي وأطلقت الغاز المسيل للدموع حتى داخل المكتبة الجامعية. كما ضُرب عدد كبير من الطلبة بالهراوات الخشبية التي تستعملها الشرطة الهندية وتم توقيفهم.

انتشرت فيديوهات هذا الهجوم على الشبكات الاجتماعية. وفي غضون ساعات قليلة، نشأت حركات تضامن في جامعات كل الولايات الهندية تقريبا، وحتى تلك الجامعات التي كانت تُعرف بغياب الالتزام السياسي. ولا شك أن التضامن الذي شد الانتباه أكثر هو تضامن طلبة جامعة بيناريس، المعروفة بهندوسيتها والتي تقع في قلب الدائرة الانتخابية للوزير الأول مودي.

قمع متوحش في أوتار براديش

رغم تنديد الحكومة بالـ“أخبار الكاذبة” وترديدها بأن هذا القانون لا يهدد أبدا الهنود المسلمين، ورغم إعلان ناريندرا مودي بنفسه في 22 ديسمبر/كانون الأول وأمام 200 ألف ناشط ونصير لحزب الشعب أن لا وجود لأي مشروع لتجميع السجل الوطني على مستوى الهند، تتواصل الاضطرابات بل وتنتشر. وقد تُقمع بطريقة جد شرسة، مثلما حصل في ولاية أوتار براديش حيث تستجيب الشرطة مباشرة لأوامر يوغي أديتيانات، رئيس الحكومة المحلية، وهو جندي راهب، تمت تسميته من طرف مودي شخصيا، ولا يعرف الشفقة. وقد تركت شرطته عددا مرتفعا من القتلى في صفوف المتظاهرين، كما تعددت حالات الاعتقال الجماعي والتعذيب وتخريب الممتلكات.

ذلك أن القانون الجديد وتجميع السجل الوطني يضعان الهنود المسلمين بين فكّي كماشة. إذ كما أعرب عن ذلك أميت شاه بنفسه في شهر أبريل/نيسان: “سنقوم أولا بتصويت تنقيح قانون الجنسية، وسنجنّس اللاجئين الهندوس والبوذيين والسيخ والجانيين، أي الأقليات الدينية للبلدان المجاورة. وبعدها، سنقوم بتجميع السجل الوطني لنخلص بلدنا من المندسين.”

وبمجرد أن وضع الوزير الأول مشروع تجميع السجل الوطني جانبا حتى أطلق مودي نفسه التعداد العادي للشعب. لكن أمرا جديدا طرأ على هذا التعداد رغم أنه ليس بسابقة: للمرة الأولى، سيسأل الشخص المتحدث إليه عن تاريخ ومكان ولادته ولكن كذلك عن تاريخ ومكان ولادة والديه. ما يعني أن الأمر يهم جميع الهنديين تقريبا، إذ حتى لو استثني الذين ولدوا بعد سنة 1985 من الأسئلة، مجرد السؤال عن تفاصيل ولادة الوالدين وجعله شرطا لتجاوز عقبات التعداد يعني تحديد جنسية هؤلاء كذلك.

في بلاد لم يصبح فيها التصريح عن الولادة للحالة المدنية إجباريا إلا سنة 1969، وحيث متوسط العمر لا يتجاوز 28 سنة، يعني هذا التعداد وضع تهديد مستمر فوق رؤوس مسلمي الهند. إذ أن بوسع أولئك الذين ستضعهم الإدارة في خانة “المشكوك فيهم” أن يتجاوزوا ذلك بفضل مشروع تنقيح القانون. شرط ألا يكونوا مسلمين بالطبع. وهكذا بات قانون يفترض أن لا علاقة له بالمسلمين الهنود يهمهم بصفة مباشرة.

العودة إلى العصيان المدني

هذه التعبئة ضد تنقيح القانون والسجل والوطني والتعداد فاجأت بلا شك حكومة مودي، لكن ذلك لا يعني أنها ستتنازل عنه. وقد أعلنت عدة ولايات هندية مهمة مثل البنغال الغربية وكيرلا أنها ترفض المشاركة في التعداد وأنها ستعارضه. كما تحدث كتاب صحفيون التزموا الصمت إلى حد الآن أمام تطرف القوميين عن وسع حركة العصيان المدني المستلهمة من غاندي. وقد أيقظت المخاطر التي تحوم بفكرة الهند أساسا أولئك الذين كانوا إلى حد الآن خانعين أو خائفين.

كل السؤال هو معرفة إن ستنجح الهند، رغم قيادة حزب الشعب، بالمحافظة على نفسها كبلد علماني يحترم جميع القوانين بطريقة متساوية، تماما مثلما أراد لها آباء الاستقلال أن تكون، أم إن كانت على شفا حفرة من أن تتحول إلى ذلك “الباكستان الهندوسي” الذي رفضه نهرو بكل قوة.

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬