نظرة من المستقبل بمناسبة العام الجديد

نظرة من المستقبل بمناسبة العام الجديد

نظرة من المستقبل بمناسبة العام الجديد

By : Osama Esber أسامة إسبر

الحياةُ في الآن، على خشبة مسرح الوضع القائم، حيث يتعلق الغريق بقشة، أو بتلهف العينين لعبور الحدود، أو تركض الأقدام بجنون بحثاً عن ملجأ من موت مترصد يسقط من السماء، أو من انفجار لغم على زاوية طريق ما، أو في طريق يؤدي إلى الحدود، أو من مداهمة منزل وتنفيذ اعتقال عشوائي في انتهاك صارخ لحرمة المنزل والجسد والحياة، فيما ينضج اليأس على نار هادئة. صار هذا هو الوصف الذي يعبر عن جانب من واقع الحال، فالجميع عالقون ويتخبطون ولا وقت لالتقاط الأنفاس، والجميع يبحثون عما يبقيهم أحياء، ما يطيل أمد لحظتهم، ولا يهمهم المستقبل، إذ لا حول لهم ولا قوة في تقرير شأنه، عليهم أن  يحصلوا على خبزهم كفاف يومهم، أن يقفوا في رتل انتظار بيدون المازوت، أو في رتل انتظار جرة الغاز، أو في رتل انتظار ربطة الخبز، وسيفكرون برعبٍ بأولادهم وبالمستقبل الذي ينتظرهم وسيتخيلون الحلول، والكثير منها مخيف. جُردوا من القدرة على الحلم أو التفكير بما هو أبعد من أنوفهم. هذا التهدم الذي نعيشه، كلنا، سواء كنا نعيش وهم النصر أو نتخبط في مستنقع الهزيمة، وسواء كنا في الداخل أو في الخارج (ما نفع أن تعيش في عالم لا يقبلك، يُشْعرك بأنك غريب عن ثقافته، وتتأجج فيه العنصرية كما لو أنها الدين الذي سيُدخله إلى الفردوس). يطالنا هذا التهدم جميعاً ولن تستطيع أجيالنا القادمة العثور على ضوء في نهاية النفق إلا بعد أن تقف طويلاً وتُمعن وتُطيل النظر في ما حدث لنا، في إطار هذا التاريخ الذي يحتوينا، والذي حوّلنا إلى إرادات معطلة غير قادرة على أن تخط لنفسها حياة مستقلة.

ولنفترض أن شخصاً من أبناء منطقتنا ينظر من المستقبل إلى حقبتنا الحالية وما سبقها، ما الذي سيراه؟ وأية أسئلة ستدور في ذهنه؟ وكيف سيصف وضعنا في هذه اللحظة في ضوء نظرته الاستعادية؟ وأية عِبرٍ سيستخلصُ من أجله هو؟

لا شك أن الناظر من المستقبل سيرى (وكأنه يشاهد فيلماً كابوسياً على شاشة لحظته) إخفاق الأجيال العربية السابقة منذ الاستقلال في بناء دولة عصرية مدنية تُعلي من كرامة الإنسان وحقوقه بعيداً عن الانتماءات الطائفية وضمن مشروع حضاري يعزز قيم المواطنة المتجاوزة للهويات المغلقة. وسيشعر بالتركة الثقيلة للحقب السلطوية السابقة التي تنوء بها الأكتاف. سيرى تجليات للوحشية يعجز الكلام عن وصفها. فمن تصور في عصر الحداثة والعقلانية أن تقوم سيارات بدهس المتظاهرين؟ ومن كان يتخيل في عصر حقوق الإنسان والأفكار الإيديولوجية المثالية أن يتم فتح النار على المتظاهرين لتفريقهم، وكل ما كانوا يطالبون به هو الخبز والكرامة؟ ومن كان يتخيل أن تُحاصَر المدن وتُغْزى بالدبابات والطائرات وتفرغ من سكانها؟ ومن كان يتصور أن تنظيمات متطرفة كداعش ستعثر على تربة خصبة لإقامة خلافتها الإرهابية فوق الرؤوس المقطوعة أو المثقبة بالرصاص؟ ومن كان يتخيل أن المسيحي سيُجبر على دفع الجزية، وإذا لم يدفعها عليه أن يغادر؟ ومن يتخيل في عصر الحداثة والتنوير والانفتاح والتقدم التكنولوجي المخيف أن يكون السيف هو أداة حل المشكلة، وأن يتم استئصال العنف بالعنف وأن تكون العقلية الثأرية هي التي تقود السياسة المحلية والعالمية؟ ومن كان يتخيل أن تؤدي مظاهرات التغيير وإعلان العصر العربي الجديد إلى كل هذه الجثث؟ ومن كان سيتصور أن مدناً بأكملها ستُدمر على رؤوس سكانها لإخماد تظاهرات أو بحجة محاربة الإرهاب؟

سيرى الناظر من المستقبل أن الإنسان في منطقتنا لا يُنظر إليه كإنسان له حق بالحياة أو الوجود، ويتمتع بالكرامة بل يُختزل إلى انتماء ويُثنى عليه أويُمحى على هذا الأساس، بل يُنظر إليه على أنه أدنى من حشرة، ويجب سحقه تحت الأبواط إذا قال لا.

والناظر من المستقبل إلى واقع الثقافة، سيهوله غياب الاستقلالية وتبعية الأقلام، والتجييش الكبير، كما لو أن العالم منقسم إلى معسكرات وكل معسكر يمتلك صحفه وكتّابه وخطابه المعمم، وسيرى أن المنبر الافتراضي صار ساحة للنزال وللثأر والتشفي فيما قلت الأصوات التي تحلل وتقرأ بعمق وتشير إلى العلل وتُرجع الأمور إلى أسبابها وجواهرها المحرِّكة، وإذا ما فكر بإرسال مقال من حيث هو في المستقبل، مقال نقدي عميق وموضوعي وغير متحيز ينتقد هذا النظام أو ذاك لن يعثر على صحيفة تفتح له صدرها، إذا لم تجد طريقة لتوظيفه.

كما أن الناظر من المستقبل سيلاحظ الصمت المريب لكثير من الكتاب والمثقفين إزاء الأحداث المصيرية في بلدانهم، وسيلاحظ بشكل خاص صمت كثير منهم إزاء التدمير الممنهج والاعتقالات العشوائية والتعذيب الوحشي والتصفيات في السجون، وسيكتشف أنه كما كان للأنظمة سجونها فقد كان لمن يعارضها أو يثور عليها سجونه، وأنه كما قتلت الأنظمة، فإن من ثاروا عليها قتلوا واغتصبوا وسرقوا، وكما أن الأنظمة تحالفت مع قوى خارجية، تحالف أعداؤها أيضاً، بل برهنوا أنهم أدوات لدول أخرى، وهذا فصلهم عن الشعب الذي من المفترض أن يكونوا خدماً له. وسيكتشف أن الطرفين باعا السيادة، وأن الصراع هو في الجوهر على الكرسي وأن من يقتل لا يموت من أجل غاية نبيلة بل أجل إطالة أمد العروش.

كما سيرفع الناظر من المستقبل قبعته لجميع المثقفين الشرفاء الذين دافعوا عن حقوق الإنسان وأيدوا تطلعات الربيع العربي، دون أن يقعوا في فخ رفض استبداد من أجل الاحتفاء بآخر، ودون أن يقعوا في فخ نقد وحشية نظام والتعامي عن وحشيات تُمارس باسم محاربته. كما أنه سيشعر بسعادة داخلية، وسيُغْني لحظته بأصوات من تبنوا موقفاً نقدياً ولم يتجندوا في المعسكرات المتنابذة، والتي سقفها الاستيلاء على السلطة، ذلك أن التغيير مهمة معرفية وتحليلية قبل أن يكون مهمة سياسية، ولا يمكن أن يحدث انقلاب في السياسة إذا لم يرافقه انقلاب في الثقافة والأمران مترابطان ومن المستحيل فكهما.

والناظر من المستقبل لن يهمه من أين خرج المتظاهرون، المهم هو أنهم خرجوا، وأن هذا الخروج كان مدنياً، وأن هذا الخروج فقد أهميته حين توجه من خرج إلى مستودع الأسلحة واستخدم الرصاصة بدل الكلمة.

والناظر من المستقبل سيلاحظ ازدياداً في التسول وفي أعداد من يعيشون تحت خط الفقر، وانتشار الدعارة وزواج القاصرات، وترويج المخدرات، وهيمنة المافيات والميليشيات كما سيروعه منظر مصابي الحروب وهم يتسولون في الشوارع  على أرجلهم الصناعية، وبعضهم يكشفها عله يحظى بتبرع قائم على الشفقة من أحد العابرين.

وسيرى الناظر من المستقبل الغياب شبه الكامل لمؤسسات الحكم الحضارية في العالم العربي، وسيكتشف أن كل المؤسسات معطلة أو مفلسة ما عدا المؤسسات العسكرية والأمنية.

وسيكتشف الناظر من المستقبل إلى هذه الحقبة والحقب التي سبقتها كانت حقب شعارات جوفاء، لم يتحقق منها إلا نقيضها فالوحدة صارت تفتتا والحرية سجوناً والاشتراكية سوقاً حرة وتوجهات ليبرالية، وبدأ الانهيار المتسلسل للعملات في المنطقة، فلم يتبق إلا عملات محمية بمعادلات دولية لا كرامة اقتصادية خاصة لها ومستقبلها مرهون بدورها الاقتصادي والسياسي.

وسيرى الناظر أيضاً أن الطائفية صارت الانتماء المعرّف للإنسان، فبدلاً من إنسان متجاوز لخلفيته، نرى أن هذه الخلفية تعرّف الانتماءات القائمة، ففلان سني وشيعي ومسيحي ودرزي وإسماعيلي شاء أم أبى، وهذا من أدوات تركيا وذاك من أدوات إيران أو إسرائيل، ويبقى السؤال المطروح هنا، أين المشروع المشترك؟ أين جوهر الربيع العربي وأيقونته المدنية؟ بل أين أحلام أجيال من المناضلين الذين نذروا أنفسهم لصناعة انتماء مختلف وهوية مختلفة؟

والناظر من المستقبل إلى حقبتنا سيكتشف أن الشباب العربي اتخذ قراره بالهجرة، بشكل غير مسبوق، واتخذ قراره بأن يتطرف دينياً بشكل غير مسبوق، واتخذ قراره بأن يتعاطى المخدرات بشكل غير مسبوق، ذلك أن أحلامه مسروقة وفرصه مبددة، ولا حل إلا بالذهاب إلى  بلدان الغرب، أو في الهرب من الواقع، وهذه مأساة تتحمل مسؤوليتها أنظمة الحكم التي فشلت في بناء مؤسسات قادرة على حل المشكلات المتراكمة.

والناظر من المستقبل سيروعه حجم التدخل الأجنبي الناجم عن تراكم الأخطاء، فقد صارت السماء العربية مستباحة، والأرض العربية مستباحة، وسيرى أنه لا يوجد جيش عربي واحد يستطيع أو يهمه حماية الفضاء العربي، إذ كيف لأرض غير مشتركة أن يكون لها فضاء مشترك؟ ولهذا يخترق الإسرائيليون هذا الفضاء، كما يخترقه الأتراك، وكما يخترقه آخرون في مسلسل اختراقات لا تنتهي. ذلك أن الطيران الإسرائيلي يجوب الفضاء العربي كأنه فضاء إسرائيلي، كما أن الطائرات الإسرائيلية المسيّرة وغير المسيرة تقصف الأهداف التي تريدها، بحجة الخطر الإيراني، دافعة بالقضايا الجوهرية، والتي شكّلت أساس الصراع بين العرب وإسرائيل إلى الخلفية. إذ لم يعد احتلال الأرض هو الموضوع البارز في السياسة والإعلام، ولا انتهاك القوانين الدولية، ويبدو ضم الجولان كأنه واقع قائم، ويتواصل تحويل الشعب الفلسطيني إلى شعب مفكك الأوصال.

وسيرى الناظر من المستقبل إلى حقبتنا الحالية أن الهم الوجودي في البلدان العربية هو هم سلطوي للاستمرار على الكرسي مهما كانت النتائج، وبدون تنبه للأخطار الخارجية على المدى البعيد، وسيجد أن الخطاب السائد، الخطاب الأقوى في المنطقة، هو الخطاب الأمني، وأن أقوى الوزارات هي وزارات الدفاع والأمن، وهذه أحد القواسم المشتركة بين إسرائيل والدول العربية.

وسيجد الناظر من المستقبل أن إسرائيل تواصل تسوير نفسها ولا ترى أن هناك آخر فلسطينياً له حقوق، بل هو مجرد فائض سكاني يجب التخلص منه كما لو أنه نفايات.

والناظر من المستقبل إلى واقع حقبتنا سيلاحظ هيمنة إسرائيلية متزايدة، وصعوداً إيرانياً معرقلاً بسبب العقوبات والجغرافيا السياسية والاقتصادية، وصعوداً تركياً، يصر على دوره الإقليمي، بل بدأ باستعراض عضلاته العسكرية وخرق السيادات المفترضة وإرسال جيشه من دولة إلى أخرى، بينما سيرى هبوطاً متسارعاً في القوة العربية، مما ينذر بأن المستقبل في المنطقة هو لهذه الدول، وخاصة لإسرائيل، المدللة من الغرب، الذي لم يدعم إلا الاستبداد والاحتلال في منطقتنا.

وسيرى الناظر من المستقبل أن العالم العربي شهد تحولات جديدة وأن هناك شيئاً ما استيقظ، داخل الإنسان العربي، فقد صار له صوتٌ شحنتْه الصرخةُ المدنية للربيع العربي، وتنقل هذا الصوت من روح إلى روح ومن حنجرة إلى حنجرة معلناً ولادة الشارع السياسي العربي، والساحة العامة العربية (ولو رمزياً في بعض البلدان) وأعلن حضوره رغم أدوات القمع وتجلياتها البربرية غير المسبوقة في العصور كلها.

سيرى أن الإنسان العربي قرر أنه لم يعد يحتمل، وأنه آن الأوان لزوال الاستبداد. وما استيقظ في داخله زوده بنظرة جديدة إلى العالم، وبإمكانية الحلم بالتغيير، وبوجود بدائل أفضل. كان هذا هو الذي دفع الناس إلى الساحات، وبأصواتهم التي لا يمتلكون غيرها، أعلنوا البدء بإنهاء حقب الاستبداد والحكم العسكري، الذي فاقم المشاكل، ودفع بالاقتصاد إلى الانهيار، وجعل مستوى المعيشة يتردى في ظله، وحول الموارد كلها لقلة تغتني على حساب الكثرة، وأخذ الضريبة من الفقراء لتمويل أجهزة القمع التي تحمي الأغنياء، والتي تضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه تغيير الوضع القادم، ذلك أن هذا النمط من الحكم، غير القادر على تجديد نفسه، وغير القابل للتعديل أو التغيير، والذي فقد مرونته وارتدى البذلة العسكرية وأحاط نفسه بأمشاط الرصاص، وارتدى الصدرة المضادة للرصاص، والقناع الواقي، ونفخ صدره تقدم مؤكداً نفسه بشكل بربري.

وسيشعر الناظر من المستقبل أن معاناته، هناك في نقطته البعيدة وعجزه عن فعل شيء بسبب كل تراكمات الحقب السابقة، أمر يجب أن لا يثبط من عزيمته، وأن نافذة الأمل مفتوحة، وأن هناك ضوءاً يتوهج مما استيقظ داخل الإنسان العربي في خضم هذه التحولات.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬