الحياةُ في الآن، على خشبة مسرح الوضع القائم، حيث يتعلق الغريق بقشة، أو بتلهف العينين لعبور الحدود، أو تركض الأقدام بجنون بحثاً عن ملجأ من موت مترصد يسقط من السماء، أو من انفجار لغم على زاوية طريق ما، أو في طريق يؤدي إلى الحدود، أو من مداهمة منزل وتنفيذ اعتقال عشوائي في انتهاك صارخ لحرمة المنزل والجسد والحياة، فيما ينضج اليأس على نار هادئة. صار هذا هو الوصف الذي يعبر عن جانب من واقع الحال، فالجميع عالقون ويتخبطون ولا وقت لالتقاط الأنفاس، والجميع يبحثون عما يبقيهم أحياء، ما يطيل أمد لحظتهم، ولا يهمهم المستقبل، إذ لا حول لهم ولا قوة في تقرير شأنه، عليهم أن يحصلوا على خبزهم كفاف يومهم، أن يقفوا في رتل انتظار بيدون المازوت، أو في رتل انتظار جرة الغاز، أو في رتل انتظار ربطة الخبز، وسيفكرون برعبٍ بأولادهم وبالمستقبل الذي ينتظرهم وسيتخيلون الحلول، والكثير منها مخيف. جُردوا من القدرة على الحلم أو التفكير بما هو أبعد من أنوفهم. هذا التهدم الذي نعيشه، كلنا، سواء كنا نعيش وهم النصر أو نتخبط في مستنقع الهزيمة، وسواء كنا في الداخل أو في الخارج (ما نفع أن تعيش في عالم لا يقبلك، يُشْعرك بأنك غريب عن ثقافته، وتتأجج فيه العنصرية كما لو أنها الدين الذي سيُدخله إلى الفردوس). يطالنا هذا التهدم جميعاً ولن تستطيع أجيالنا القادمة العثور على ضوء في نهاية النفق إلا بعد أن تقف طويلاً وتُمعن وتُطيل النظر في ما حدث لنا، في إطار هذا التاريخ الذي يحتوينا، والذي حوّلنا إلى إرادات معطلة غير قادرة على أن تخط لنفسها حياة مستقلة.
ولنفترض أن شخصاً من أبناء منطقتنا ينظر من المستقبل إلى حقبتنا الحالية وما سبقها، ما الذي سيراه؟ وأية أسئلة ستدور في ذهنه؟ وكيف سيصف وضعنا في هذه اللحظة في ضوء نظرته الاستعادية؟ وأية عِبرٍ سيستخلصُ من أجله هو؟
لا شك أن الناظر من المستقبل سيرى (وكأنه يشاهد فيلماً كابوسياً على شاشة لحظته) إخفاق الأجيال العربية السابقة منذ الاستقلال في بناء دولة عصرية مدنية تُعلي من كرامة الإنسان وحقوقه بعيداً عن الانتماءات الطائفية وضمن مشروع حضاري يعزز قيم المواطنة المتجاوزة للهويات المغلقة. وسيشعر بالتركة الثقيلة للحقب السلطوية السابقة التي تنوء بها الأكتاف. سيرى تجليات للوحشية يعجز الكلام عن وصفها. فمن تصور في عصر الحداثة والعقلانية أن تقوم سيارات بدهس المتظاهرين؟ ومن كان يتخيل في عصر حقوق الإنسان والأفكار الإيديولوجية المثالية أن يتم فتح النار على المتظاهرين لتفريقهم، وكل ما كانوا يطالبون به هو الخبز والكرامة؟ ومن كان يتخيل أن تُحاصَر المدن وتُغْزى بالدبابات والطائرات وتفرغ من سكانها؟ ومن كان يتصور أن تنظيمات متطرفة كداعش ستعثر على تربة خصبة لإقامة خلافتها الإرهابية فوق الرؤوس المقطوعة أو المثقبة بالرصاص؟ ومن كان يتخيل أن المسيحي سيُجبر على دفع الجزية، وإذا لم يدفعها عليه أن يغادر؟ ومن يتخيل في عصر الحداثة والتنوير والانفتاح والتقدم التكنولوجي المخيف أن يكون السيف هو أداة حل المشكلة، وأن يتم استئصال العنف بالعنف وأن تكون العقلية الثأرية هي التي تقود السياسة المحلية والعالمية؟ ومن كان يتخيل أن تؤدي مظاهرات التغيير وإعلان العصر العربي الجديد إلى كل هذه الجثث؟ ومن كان سيتصور أن مدناً بأكملها ستُدمر على رؤوس سكانها لإخماد تظاهرات أو بحجة محاربة الإرهاب؟
سيرى الناظر من المستقبل أن الإنسان في منطقتنا لا يُنظر إليه كإنسان له حق بالحياة أو الوجود، ويتمتع بالكرامة بل يُختزل إلى انتماء ويُثنى عليه أويُمحى على هذا الأساس، بل يُنظر إليه على أنه أدنى من حشرة، ويجب سحقه تحت الأبواط إذا قال لا.
والناظر من المستقبل إلى واقع الثقافة، سيهوله غياب الاستقلالية وتبعية الأقلام، والتجييش الكبير، كما لو أن العالم منقسم إلى معسكرات وكل معسكر يمتلك صحفه وكتّابه وخطابه المعمم، وسيرى أن المنبر الافتراضي صار ساحة للنزال وللثأر والتشفي فيما قلت الأصوات التي تحلل وتقرأ بعمق وتشير إلى العلل وتُرجع الأمور إلى أسبابها وجواهرها المحرِّكة، وإذا ما فكر بإرسال مقال من حيث هو في المستقبل، مقال نقدي عميق وموضوعي وغير متحيز ينتقد هذا النظام أو ذاك لن يعثر على صحيفة تفتح له صدرها، إذا لم تجد طريقة لتوظيفه.
كما أن الناظر من المستقبل سيلاحظ الصمت المريب لكثير من الكتاب والمثقفين إزاء الأحداث المصيرية في بلدانهم، وسيلاحظ بشكل خاص صمت كثير منهم إزاء التدمير الممنهج والاعتقالات العشوائية والتعذيب الوحشي والتصفيات في السجون، وسيكتشف أنه كما كان للأنظمة سجونها فقد كان لمن يعارضها أو يثور عليها سجونه، وأنه كما قتلت الأنظمة، فإن من ثاروا عليها قتلوا واغتصبوا وسرقوا، وكما أن الأنظمة تحالفت مع قوى خارجية، تحالف أعداؤها أيضاً، بل برهنوا أنهم أدوات لدول أخرى، وهذا فصلهم عن الشعب الذي من المفترض أن يكونوا خدماً له. وسيكتشف أن الطرفين باعا السيادة، وأن الصراع هو في الجوهر على الكرسي وأن من يقتل لا يموت من أجل غاية نبيلة بل أجل إطالة أمد العروش.
كما سيرفع الناظر من المستقبل قبعته لجميع المثقفين الشرفاء الذين دافعوا عن حقوق الإنسان وأيدوا تطلعات الربيع العربي، دون أن يقعوا في فخ رفض استبداد من أجل الاحتفاء بآخر، ودون أن يقعوا في فخ نقد وحشية نظام والتعامي عن وحشيات تُمارس باسم محاربته. كما أنه سيشعر بسعادة داخلية، وسيُغْني لحظته بأصوات من تبنوا موقفاً نقدياً ولم يتجندوا في المعسكرات المتنابذة، والتي سقفها الاستيلاء على السلطة، ذلك أن التغيير مهمة معرفية وتحليلية قبل أن يكون مهمة سياسية، ولا يمكن أن يحدث انقلاب في السياسة إذا لم يرافقه انقلاب في الثقافة والأمران مترابطان ومن المستحيل فكهما.
والناظر من المستقبل لن يهمه من أين خرج المتظاهرون، المهم هو أنهم خرجوا، وأن هذا الخروج كان مدنياً، وأن هذا الخروج فقد أهميته حين توجه من خرج إلى مستودع الأسلحة واستخدم الرصاصة بدل الكلمة.
والناظر من المستقبل سيلاحظ ازدياداً في التسول وفي أعداد من يعيشون تحت خط الفقر، وانتشار الدعارة وزواج القاصرات، وترويج المخدرات، وهيمنة المافيات والميليشيات كما سيروعه منظر مصابي الحروب وهم يتسولون في الشوارع على أرجلهم الصناعية، وبعضهم يكشفها عله يحظى بتبرع قائم على الشفقة من أحد العابرين.
وسيرى الناظر من المستقبل الغياب شبه الكامل لمؤسسات الحكم الحضارية في العالم العربي، وسيكتشف أن كل المؤسسات معطلة أو مفلسة ما عدا المؤسسات العسكرية والأمنية.
وسيكتشف الناظر من المستقبل إلى هذه الحقبة والحقب التي سبقتها كانت حقب شعارات جوفاء، لم يتحقق منها إلا نقيضها فالوحدة صارت تفتتا والحرية سجوناً والاشتراكية سوقاً حرة وتوجهات ليبرالية، وبدأ الانهيار المتسلسل للعملات في المنطقة، فلم يتبق إلا عملات محمية بمعادلات دولية لا كرامة اقتصادية خاصة لها ومستقبلها مرهون بدورها الاقتصادي والسياسي.
وسيرى الناظر أيضاً أن الطائفية صارت الانتماء المعرّف للإنسان، فبدلاً من إنسان متجاوز لخلفيته، نرى أن هذه الخلفية تعرّف الانتماءات القائمة، ففلان سني وشيعي ومسيحي ودرزي وإسماعيلي شاء أم أبى، وهذا من أدوات تركيا وذاك من أدوات إيران أو إسرائيل، ويبقى السؤال المطروح هنا، أين المشروع المشترك؟ أين جوهر الربيع العربي وأيقونته المدنية؟ بل أين أحلام أجيال من المناضلين الذين نذروا أنفسهم لصناعة انتماء مختلف وهوية مختلفة؟
والناظر من المستقبل إلى حقبتنا سيكتشف أن الشباب العربي اتخذ قراره بالهجرة، بشكل غير مسبوق، واتخذ قراره بأن يتطرف دينياً بشكل غير مسبوق، واتخذ قراره بأن يتعاطى المخدرات بشكل غير مسبوق، ذلك أن أحلامه مسروقة وفرصه مبددة، ولا حل إلا بالذهاب إلى بلدان الغرب، أو في الهرب من الواقع، وهذه مأساة تتحمل مسؤوليتها أنظمة الحكم التي فشلت في بناء مؤسسات قادرة على حل المشكلات المتراكمة.
والناظر من المستقبل سيروعه حجم التدخل الأجنبي الناجم عن تراكم الأخطاء، فقد صارت السماء العربية مستباحة، والأرض العربية مستباحة، وسيرى أنه لا يوجد جيش عربي واحد يستطيع أو يهمه حماية الفضاء العربي، إذ كيف لأرض غير مشتركة أن يكون لها فضاء مشترك؟ ولهذا يخترق الإسرائيليون هذا الفضاء، كما يخترقه الأتراك، وكما يخترقه آخرون في مسلسل اختراقات لا تنتهي. ذلك أن الطيران الإسرائيلي يجوب الفضاء العربي كأنه فضاء إسرائيلي، كما أن الطائرات الإسرائيلية المسيّرة وغير المسيرة تقصف الأهداف التي تريدها، بحجة الخطر الإيراني، دافعة بالقضايا الجوهرية، والتي شكّلت أساس الصراع بين العرب وإسرائيل إلى الخلفية. إذ لم يعد احتلال الأرض هو الموضوع البارز في السياسة والإعلام، ولا انتهاك القوانين الدولية، ويبدو ضم الجولان كأنه واقع قائم، ويتواصل تحويل الشعب الفلسطيني إلى شعب مفكك الأوصال.
وسيرى الناظر من المستقبل إلى حقبتنا الحالية أن الهم الوجودي في البلدان العربية هو هم سلطوي للاستمرار على الكرسي مهما كانت النتائج، وبدون تنبه للأخطار الخارجية على المدى البعيد، وسيجد أن الخطاب السائد، الخطاب الأقوى في المنطقة، هو الخطاب الأمني، وأن أقوى الوزارات هي وزارات الدفاع والأمن، وهذه أحد القواسم المشتركة بين إسرائيل والدول العربية.
وسيجد الناظر من المستقبل أن إسرائيل تواصل تسوير نفسها ولا ترى أن هناك آخر فلسطينياً له حقوق، بل هو مجرد فائض سكاني يجب التخلص منه كما لو أنه نفايات.
والناظر من المستقبل إلى واقع حقبتنا سيلاحظ هيمنة إسرائيلية متزايدة، وصعوداً إيرانياً معرقلاً بسبب العقوبات والجغرافيا السياسية والاقتصادية، وصعوداً تركياً، يصر على دوره الإقليمي، بل بدأ باستعراض عضلاته العسكرية وخرق السيادات المفترضة وإرسال جيشه من دولة إلى أخرى، بينما سيرى هبوطاً متسارعاً في القوة العربية، مما ينذر بأن المستقبل في المنطقة هو لهذه الدول، وخاصة لإسرائيل، المدللة من الغرب، الذي لم يدعم إلا الاستبداد والاحتلال في منطقتنا.
وسيرى الناظر من المستقبل أن العالم العربي شهد تحولات جديدة وأن هناك شيئاً ما استيقظ، داخل الإنسان العربي، فقد صار له صوتٌ شحنتْه الصرخةُ المدنية للربيع العربي، وتنقل هذا الصوت من روح إلى روح ومن حنجرة إلى حنجرة معلناً ولادة الشارع السياسي العربي، والساحة العامة العربية (ولو رمزياً في بعض البلدان) وأعلن حضوره رغم أدوات القمع وتجلياتها البربرية غير المسبوقة في العصور كلها.
سيرى أن الإنسان العربي قرر أنه لم يعد يحتمل، وأنه آن الأوان لزوال الاستبداد. وما استيقظ في داخله زوده بنظرة جديدة إلى العالم، وبإمكانية الحلم بالتغيير، وبوجود بدائل أفضل. كان هذا هو الذي دفع الناس إلى الساحات، وبأصواتهم التي لا يمتلكون غيرها، أعلنوا البدء بإنهاء حقب الاستبداد والحكم العسكري، الذي فاقم المشاكل، ودفع بالاقتصاد إلى الانهيار، وجعل مستوى المعيشة يتردى في ظله، وحول الموارد كلها لقلة تغتني على حساب الكثرة، وأخذ الضريبة من الفقراء لتمويل أجهزة القمع التي تحمي الأغنياء، والتي تضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه تغيير الوضع القادم، ذلك أن هذا النمط من الحكم، غير القادر على تجديد نفسه، وغير القابل للتعديل أو التغيير، والذي فقد مرونته وارتدى البذلة العسكرية وأحاط نفسه بأمشاط الرصاص، وارتدى الصدرة المضادة للرصاص، والقناع الواقي، ونفخ صدره تقدم مؤكداً نفسه بشكل بربري.
وسيشعر الناظر من المستقبل أن معاناته، هناك في نقطته البعيدة وعجزه عن فعل شيء بسبب كل تراكمات الحقب السابقة، أمر يجب أن لا يثبط من عزيمته، وأن نافذة الأمل مفتوحة، وأن هناك ضوءاً يتوهج مما استيقظ داخل الإنسان العربي في خضم هذه التحولات.