"يشكّل البحث عن رفات الفقيد تحدّيًا لمن أرادوا له أن يُنسى، فتذكّر أسماء من رحلوا حتّى ولو همسًا مقاومة لمحاولات طمس موتهم ووجودهم".
مونيكا مونيوس
يقول المؤرّخ ديفد بلايت في إحدى محاضراته عن الحرب الأهليّة الأميركيّة في الذّاكرة الجمعيّة إن الذّاكرة التاريخية، التي يصعب تعريفها ويستحيل التّوافق على مضمونها، معركةٌ دائمةٌ على من يحق له امتلاكها والتحكّم بها وسردها وتنظيمها وإعلانها. لا يقتصر وصفه، بطبيعة الحال، على صراعات الإحياء والرّموز والتّعريف التي لم ينجلِ غبارها عن وليات الجنوب تحديدًا على الرغم من مرور أكثر من 150 عامًا على انتهاء الحرب وهزيمة الانفصاليّين.
تسعى هذه المقالة إلى تتبّع مسار ذاكرة تاريخية خلّفتها حرب أهلية أخرى هي الحرب الأهليّة الإسبانيّة (1936-1939)، غير أن المهزومين في تلك الحرب لم يتمكّنوا من تثبيت حضورهم وذاكرتهم (أو على الأصح ذاكراتهم المتنوّعة دائمًا والمتضاربة في أحيانٍ كثيرة) إلّا مع بداية الألفية أي بعد ستّة عقودٍ على وضع الحرب أوزارها. يرى المدافعون عن مشروع الذاكرة التاريخيّة في إسبانيا والفورة التي أنتجها في العقدين الأخيرين تعويضًا عن ستّة وثلاثين عامًا من القمع والإسكات أثناء حكم الديكتاتور فرانثيسكو فرانكو )1939-1975) وعدالةً بديلةً عن تلك التي اضطروا القبول بفتاتها من أجل المحافظة على الاستقرار خلال فترة الانتقال الديمقراطي. ويرى معارضو "فورة الذاكرة" أنّها ليست إلّا تعبيرًا عن نزعاتٍ انتقامية وحنينًا يائسًا إلى البكاء على أطلال قضيّة خاسرة ومحاولة لإعادة فتح جرحٍ قديم، بينما يعتبر المتراجعون عن دعمهم هذا المشروع، كالرّوائي خَبيير ثِركاس، أن الذّاكرة التاريخيّة تحوّلت إلى صناعة لجني مكاسبَ أخلاقيّةٍ وسياسيّةٍ وفنّية.[1]
لا تنفي هذه المقالة إمكانية تحوّل الذّاكرة التاريخيّة إلى صناعة أو حفلة تنكّرية أو دعاية انتخابيّة وترى أن فئاتٍ وأشخاصًا استغلّوها لمراكمة رأس مال رمزي عندما أصبح مفهوم الذاكرة التاريخيّة جذّابًا ومغريًا، ولكنّها تنطلق من اعتبار الذّاكرة التاريخيّة دَينًْا لم يَفِ به النظام الديمقراطي الإسباني بعد وضرورةً حتميّة لإنصاف ضحايا الديكتاتورية ومناهضي الفاشيّة. لا تخلو حركة الذاكرة التاريخيّة في إسبانيا، بحكم تنوّعها وتشعّبها ومأسستها اللاحقة، من نزاعات الفصائل والمصالح والنخبويّة والهرميّة التي تشوب عمل مؤسسات المجتمع المدني، ولكن الحركة ليست حكرًا على الشّخصيّات البارزة والجمعيّات الكبيرة فهي تشمل كذلك تحالفاتٍ من الحركات الاجتماعية وعائلات الضحايا والناجين والمؤرّخين المحليّين الذين تحدّوا سيطرة سرديّة المنتصرين على الفضاء العام وحاولوا خلق محاسبة اجتماعية لديكتاتوريّة فاشيّة تمتع قادتها وأتباعهم بحصانة قضائيّة كاملة بل وحظوا بالتكريم من خلال شوارع وساحات وكلّيات تحمل أسماءهم ونصب تذكارية تخلّدهم وجمعيات "خيريّة" تمجّد إرث الفاشية بينما تستفيد من الإعفاء الضريبي.
ولأن استعادة الذاكرة التاريخيّة في إسبانيا مركّبة من معاركَ متعددة، ستركّز هذه المقالة على زاوية واحدة وهي قضيّة المقابر الجماعية التي ألقيت فيها رفات عشرات آلاف الجمهوريّين ومناهضي الفاشيّة الذين أعدموا ميدانيًا خلال سنوات الحرب الأهليّة الثلاث أو قضوا في معسكرات التركيز وعمالة السخرة والمعتقلات في السنوات الأولى من حكم فرانكو.
لماذا المقابر الجماعية في إسبانيا؟
عندما سُئل الكاتب الأميركي جيمس بولدوين عن تعريف الحس التاريخي أجاب: "تعتقد أن شيئًا ما حدث معك حصرًا ثم تدرك أن الأمر ذاته قد حدث مع دوستويفسكي قبل مئة عام. من المهم، لذلك، أن يدرك الشباب تحديدًا أنهم ليسوا وحيدين وأن تمتلك حسًّا تاريخيًّا يعني أنك لست وحيدًا".[2]
بعد الهبّة الشّعبيّة التي انطلقت في القدس والضفة الغربية في تشرين الأول/أكتوبر 2015، تبنّت حكومة الاحتلال حزمة من الإجراءات الساعية إلى إخماد الحراك وردع الفدائيين وترهيب أسرهم وضبط المجتمع الفلسطيني وكانت إعادة اللجوء إلى احتجاز جثامين الشهداء إحدى آليات الضبط والردع والعقاب.[3] لم تكن، بالطبع، تلك المرة الأولى التي ترتفع فيها وتيرة احتجاز جثامين الشهداء بعد هبة شعبية فمقابر الأرقام، وهي مناطق عسكرية مغلقة يستخدمها الاحتلال لدفن الشهداء الفلسطينيين والعرب، تعج برفات مئات الشهداء منذ عقود، ولكنها كانت المرّة الأولى التي يخرج فيها آباء وأمّهات الشهداء في تظاهراتٍ أسبوعية متواترة للمطالبة بإطلاق سراح أبنائهم من الثلاجات وإخراج البقيّة من مقابر الأرقام. قيل حينها إن الاحتلال الإسرائيلي هو النظام الوحيد الذي يعاقب الشهداء حتّى بعد وفاتهم ويحرم أهلهم من حق دفنهم بكرامة وسلام وتحدّث الأهالي مطوّلًا عن احتجاز الجثامين بوصفه تأرجحًا بين ضبابية الفقد المعلّق وهشاشة أمل بانتظار معجزة بعثٍ لن تتحقّق. قال المحامي محمد عليّان الذي احتجز جثمان ابنه بهاء عليّان في ثلاجات الاحتلال لعشرة أشهر إن احتجاز الشهداء يشبه قتلهم على دفعات وإن الاحتجاز في الثلّاجة لم يجمّد جسد ابنه فقط بل جمّد إحساسه هو بالزّمان والمكان. أعاد كلام محمد عليّان وصرخات "بدنا ولادنا" التي أطلقتها أمّهات الشهداء المعتقلين والمغيّبين في مقابر بلا أسماء إلى الأذهان شهادات العشرات من الإسبان الذين لا يطلبون سوى إخراج رفات وعظام آبائهم أو أجدادهم من المقابر الجماعية ليدفنوهم في مقابر العائلة وليضعوا على قبورهم شواهد وأكاليل وليُدفنوا بالقرب منهم عندما تحين ساعتهم. أدركتُ حينها أن الفلسطينيين الذين يحاربون سياسات طمس الفقد ليسوا وحيدين، ففي مكانٍ آخر من عالمنا نفسه، في أماكنَ كثيرة من اعالم، في صحراء أريزونا على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وعلى امتداد أميركا الجنوبيّة وعلى أطراف المدن الكبرى في إسبانيا أشخاص تجاوزوا التسعين ولم يتوقّفوا عن التنقيب عن رفات أحبّتهم في الحفر والجبال وقرب الأنهار.
صمت الآخرين
يحكي الفيلم الوثائقي "صمت الآخرين" من إخراج ألمودينا كَرَّثيدو وروبرت بهار قصّة امرأة ثمانينيّة تبحث عن رفات والدتها وشابّة تفتّش عن أمّها التي سُرقت من حضنها وهي رضيعة ومحامين نفضوا عن جسد العدالة غبارَ القوانين.[4] بطلة الفيلم الثمانينية ماريّا مَرتينث لوبّث لم تتجاوز السادسة من عمرها عندما أعدمت والدتها فاوستينا لوبث برصاص الجنود الفاشيّين ثم ألقيت في مقبرة جماعية بالقرب من قرية سان برناردو في أيلول 1936. كرّست ماريّا حياتها للبحث عن رفات والدتها كي تدفنها إلى جانب والدها لكنها توفيت في العام 2014 قبل تحقيق حلمها.
بعد تقديم عرض موجز عن الحرب الأهليّة الإسبانيّة ستستعرض المقالة أهم التحدّيات التي واجهتها ماريّا وغيرها من عائلات الضحايا في السعي نحو استعادة جثامين أحبّتهم وإعادة تشكيل ذاكرة جمعيّة يكون ضحايا الحرب المغيّبون في المقابر الجماعية في مركزها.
الحرب الأهلية الإسبانية
في 17 و18 تموز 1936 أطلق جنرالات في الجيش الإسباني بقيادة فرانثيسكو فرانكو انقلابًا عسكريًا انطلق من مليلية في شمال إفريقيا على حكومة الجبهة الشعبيّة التي ضمت ائتلافًا من الأحزاب اليساريّة والجمهوريّة. تحول الانقلاب بسرعة إلى حرب أهلية استمرت ثلاث سنوات قتل خلالها 200 ألف مدني وعدد مماثل من الجنود والمقاتلين في المعارك. ومع أن كافّة الأطراف المتنازعة ارتكبت جرائم حرب غير أن الحرب بين اليمين القومي الكاثوليكي والقوى الموالية للجمهورية لم تكن متكافئةً لا من حيث أعداد القتلى والإعدامات الميدانية وفظاعة القمع فحسب بل كذلك من حيث طبيعة القمع وجذوره ودوافعه.
استندت الجرائم التي ارتكبها الفاشيّون وحلفاؤهم إلى خطّة مدروسة قائمة على إبادة وإقصاء "غير المرغوب بهم" من الطبقة العاملة والفلاحين والنساء المتمرّدات والتقدّميين الذين شكّلوا نواة الجمهورية الإسبانية الثانية التي سعت إلى إنهاء هيمنة الإقطاعيين والبرجوازية الصناعية والكنيسة الكاثوليكية والمؤسسة العسكرية. تعمّد الانقلاب اجتثاث الجمهورية الثانية والإطاحة بكافّة المبادئ والقيم التي دافعت عنها من ديمقراطية وإصلاحاتٍ زراعية وعدالة اجتماعية وحقوق النساء وصوّرت صعودها إلى السلطة على أنه مؤامرة يهودية ماسونية بلشفية.[5] حصل الانقلاب على دعمٍ عسكريٍ حاسم من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشيّة وتبنّى قادة الانقلاب وعرّابوه الفكريّون في مواجهة لجمهوريّين والطبقة العاملة الخطاب العنصري والقومي ذاته الذي وظّفه الاستعمار الإسباني في حروب الرّيف في العشرينيات ونسخوا في حربهم على أعدائهم المحلّيّين وسائل وآليات الشيطنة والقمع التي كان الاستعمار الإسباني قد انتهجها في محاربة المقاومة المغربية.
أما المناطق التي سيطر عليها الجمهوريّون فقد شهدت هي الأخرى فظاعاتٍ وإعدامات خارج القانون وتصفيات غير أن العنف بشكل أساسي كان عشوائيًّا ورد فعل على الغارات الفاشية أو تعبيرًا خارجًا عن السيطرة عن غضب جمعي دفين راكمه الفقراء على نظام متجذّر من الاستغلال والحرمان رأوا في الإقطاعيين ومالكي المصانع والكنيسة واليمينيين تجسيدًا له.
مهّد انتصار الفاشيّين الرّسمي في 1 نيسان 1939 الطريق أمام إطلاق حملة مركّزة من القمع والاقتلاع ضد الجمهوريين وقاعدتهم الاجتماعية، حيث تحوّل أكثر من نصف مليون إسباني إلى لاجئين ورُحّل حوالي 10 آلاف جمهوري إسباني إلى معسكرات التركيز النازية بعد احتلال فرنسا في الحرب العالمية الثانية. ولم يكن مصير المهزومين المتبقّين في إسبانيا بأقل قسوة فقد أعدم الآلاف بعد محاكماتٍ شكلية أو ماتوا نتيجة سوء التغذية وتفشي الأمراض في المعتقلات والسجون.
كانت الاعتقالات والإعدامات والنفي وتفتيت المجتمع والعمالة القسرية بعد الحرب جزءًا من عمليّة "الخلاص والتهدئة" التي أدارها فرانكو بعد الحرب لتطهير المجتمع الإسباني من الأفكار اليسارية. وضمن عملية التطهير هذه أجبر الآلاف من أسرى الحرب الجمهوريين والمعتقلين السياسيّين على المشاركة في تشييد مجمّع ضخم داخل الصخور الجبلية شمال مدريد ضم ديرًا للرهبان البندكتيّين وصرحًا للاحتفاء بانتصار إسبانيا على المؤامرة.
دشّن فرانكو "وادي الشهداء" الذي استغرق بناؤه تسعة عشر عامًا في 1 نيسان 1959 ليخلّد ذكرى الانتصار القومي الكاثوليكي العسكري وحال الفروغ من بنائه نقلت إلى التجويفات المحفورة في الصخور رفات ما يقدّر ب34 ألف من قتلى الحرب من الطرفين دون توثيق أو استشارة أسرهم، بادّعاء أن دفن المنتصرين والمهزومين في المكان ذاته يرمز للمصالحة الوطنية وطي صفحة الحرب.
بينما حظي قتلى اليمين بجنازاتٍ رمزيّة واعتبروا أبطالًا ومدافعين عن الكنيسة والوطن، تُرك قتلى الجمهوريّين وغير المسيّسين بلا اعتراف وعائلاتهم بلا عزاء. يكشف وادي الشهداء، الذي سيصبح فيما بعد مرقد خوسيه أنطونيو بريمو دي ريفيرا مؤسس الكتائب الإسبانية وفراثيسكو فرانكو، عن نموذج من سياسات الذّاكرة الذي لم يعترف سوى بذاكرة واحدة صادق عليها الجنرال وغيّب كل ما عداها. برز هذا النموذج في تصنيف القتلى وغربلتهم بناءً على انتمائهم السياسي والاجتماعي. لم يكن "وادي الشهداء" النموذج الوحيد لهذا التّصنيف. في مقاطعة أستورياس التي تعرّض سكانها لقمع استثنائي بعد احتلال اليمين انتقامًا من المقاومة التي خاضها عمال المناجم الأستوريّون في انتفاضة تشرين الأول 1934، أجبر الأهالي على دفع مبالغ باهظة فقط لدفن أحبّتهم، وحتى في الحالات التي عُرف مكان دفن من أعدموا ميدانيًّا منع الخوف والترهيب البعض من زيارة موتاهم واكتفوا بإلقاء الورود قرب المقابر الجماعية ليلًا.
أحدث هذا الفصل بين قتلى يستحقون التكريم وقتلى يتوجّب إقصاؤهم ما اعتبره إميليو سيلفا بأحد أشكال الأبرتهايد حيث أرغمت الديكتاتورية المنتصرين والمهزومين على الرّقود في مساحاتٍ وظروفٍ معزولة ومتباينة.[6]
يتجلّى هذا "الأبرتهايد" في المقابر الجماعيّة التي ترسم على امتداد الجغرافيا الإسبانيّة خريطة غير مرئيّة من الجرائم وتشهد بصمتٍ على الهرميّة التي وضعتها الديكتاتوريّة بين أجساد لها قيمة وأجساد بلا قيمة، بين ذاكرة تتكلّم وذاكراتٍ أُخرست، وبين منتصرين يحتكرون السرديّة ويعتبرونها السرديّة الحصريّة ومهزومين بلا صوت.
إبرام ميثاق النسيان
في 6 كانون الأول 1978، بعد ثلاثة أعوام من وفاة فرانكو، صوّتت أكثريّة ساحقة من الإسبان لصالح الدّستور الجديد في يومٍ تاريخيّ اعتبر تتويجًا لما بدا حينها أنّه انتقال سلسٌ لم يكن ليكون ممكنًا لولا ما عُرف بـ"ميثاق النسيان". يشير الميثاق إلى وجود توافق بين مكوّنات المجتمع تلا حوارًا وطنيًا جامعًا غير أن ميثاق الانتقال الإسباني لم يُناقش إلا في أوساط النخب السياسيّة ولكنه حصل على شرعيته من توافقٍ شعبيّ ضمني دون أن يكون هذا التوافق قد أثبت بالضّرورة.
يمثّل قانون العفو الذي سنّه أول برلمانٍ إسباني منتخب ديمقراطيًّا منذ شباط 1936 في أيلول 1977 نقطة الارتكاز لهذا الميثاق، وتضمن المادّة الأولى من القانون عفوًا عامًا على كافّة الجرائم السياسيّة المرتكبة قبل بداية الانتقال الرسمية في 15 كانون الأول 1976 بصرف النّظر عن صعوبتها ونتائجها. ينصّ القانون على إطلاق سراح كافّة المعتقلين السياسيّين وشطب أسمائهم من صحيفة السوابق وإعادة حقوقهم المدنيّة والسياسيّة، لكنّه في اعتماده تصنيف "الجرائم السياسية" مظلّةً موحّدة يساوي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبتها سلطات الديكتاتورية بـ"جرائم" مناهضي الديكتاتورية مثل التعبير عن الرأي والتنظيم العمالي.. هكذا أسّس ميثاق النسيان وقانون العفو العام لمصالحة هشّة مبنيّة على توازنٍ زائف بين المنتصرين والمهزومين دون الأخذ بعين الاعتبار أن المهزومين سبق وعوقبوا أثناء النظام السابق أو أنهم كانوا يدافعون عن قضيّة عادلة. يرى مؤيّدو ميثاق النسيان والعفو العام أنه خطوة لا بد منها رغم إشكاليّاتها في المسيرة نحو الديمقراطية والاستقرار في ظل الاستقطاب. لا نسعى هنا إلى تقييم ميثاق النسيان أو محاكمته بأثر رجعي ولكن حتى إنْ قبلنا هذا الادّعاء جدلًا يبقى من الصعب تبرير التمسّك بهذا القانون إلى الآن بعد تثبيت قواعد النظام السياسي الجديد كما لا يمكن إنكار أن أكبر المستفيدين من هذا العفو كانوا أركان النظام القديم الذين رحلوا بسلام دون محاسبة وغالبًا دون الاعتراف بما ارتكبوه من جرائم.
أُخفيت المقابر الجماعية تحت هذه السجّادة الحمراء من المصالحة الوطنية ولكن على عكس النخب السياسية، أهالي المفقودين في تلك المقابر لم يَنسوْا.
أولئك الذين لم يملكوا أثناء الديكتاتورية خيارًا سوى إلقاء الورود سرًّا قرب المقابر الجماعية بدؤوا حال وفاة فرانكو في نبش القبور ومحاولة التعرّف إلى هويّات المفقودين وإعادة دفنهم بما يليق بهم.
لم تحصل هذه المبادرات التي انتشرت في نهاية السبعينيات ووصلت ذروتها في بداية الثمانيات على الدراسة الأكاديمية الكافية إلّا مؤخّرًا غير أن الجهد الذي بذلته المبادرات المحلّية للكشف عن المقابر الجماعيّة وتكريم المفقودين فيها يسائل فكرة التوافق التي بني عليها ميثاق النسيان ويشكّك بالسرديّة السائدة التي تصور فترة الانتقال بأنها فترة صمت مطبق.[7]
اتّبعت المبادرات المحلّية أساليب مختلفة لاستعادة الذّاكرة التاريخيّة المغيّبة ومن بينها إزالة تماثيل ونصب تذكارية لفرانكو ورموز الديكتاتورية من مراكز البلدات والقرى واستخراج رفات القتلى الجمهوريّين من المقابر الجماعية وتحديد هويّاتهم بالاستعانة بذاكرة شفويّة بُعثت إلى الحياة بعد أربعة عقود من التّعتيم. استخدم الأهالي وسائل بدائيّة وأدوات زراعية للبحث عن الجثث والعظام وإخراجها من المقابر الجماعية من دون أن يتلقّوا أي دعمٍ من الدولة ومن دون أن تحصل جهودهم على تغطية إعلامية باستثناء الصحف المحلّية. على الرغم من بساطتها وتواضع إمكانياتها ساعدت عملية التّنقيب وإعادة الدفن والتّكريم في تشكيل دوائر تضامن وتكافل اجتماعي بين عائلات الضّحايا حملت أهمّية رمزية ومادية وعاطفيّة لأنّها مكّنت العائلات من التعامل مع الفقد واستيعابه ومشاطرة حزنهم مع الآخرين.
كشفت الجنازات الجماعية التي نظّمت بعد عمليات استخراج الرفات والتعرّف إليها عن جانبٍ آخر من السنوات الأولى للانتقال، فبينما قدّمت النخب السياسيّة النسيان الجمعي شرطًا لا غنى عنه لمنع الفوضى، حوّل الأهالي في مقاطعاتٍ مثل إكسترِمادورا ولا ريوخا ونافارا هوامش الحرّية التي فُتحت مع وفاة فرانكو إلى مساحات ذاكرة جمعيّة وتحدّي. وعادة ما تغيّبت عن مراسم التّشييع والتكريم قيادات الحزب الاشتراكي والحزب الشّيوعي تاركةً الموضوع بأيدي العائلات والناشطين المحليّين الذين لم يلتزموا بالإملاءات والحسابات السياسيّة التي سيّرت عمل الأحزاب.
انتهت هذه الـ"موجة الأولى" من نبش المقابر الجماعية وإعادة إحياء الذاكرة التاريخية في العام 1981 ويمكن أن نعزو هذه النهاية المبكّرة إلى عوامل عدّة منها محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في شباط 1981 وغياب الدعم الوطني لهذه العمليات والاتّفاق أقطاب النخبة السياسيّة على الامتناع عن النبش في الماضي.
فورة الذّاكرة
"لأولئك الذين يقولون، دعوا الموتى يرقدوا بسلام أقول: هل الموتى بسلامٍ حقًّا؟ هل نحن بسلامٍ معهم؟"
جوان منويل سرّات.[8]
توضّح أدبيات العدالة الانتقالية أن ترسيخ الانتقال الديمقراطي يعتمد على خلق توازن بين الاستقرار والمساءلة، مّما يحتّم الاعتماد على آلياتٍ تؤدّي وظائف متضاربة مثل اللجوء إلى عفوٍ عام أو جزئي بالإضافة إلى محاكماتٍ لاحقة أو تشكيل لجان حقيقة غير قضائية وتعويض الضحايا والاعتراف بالجرائم التي ارتكبت ضدهم.
لا تكمن فرادة الحالة الإسبانيّة في ضمانها أولويّة الاستقرار على العدالة في السنوات الأولى للانتقال، بل بأنّ هذه التراتبيّة م تقتصر على السنوات الأولى ببل استمرّت قاعدةً عامّة لعقود.
يفسّر غياب آليّات المحاسبة وثقافة الصمت والنسيان التي هيمنت أثناء الانتقال الإبقاء على رموز الديكتاتورية حاضرة في الفضاء العام والتعامل معها على أنّها أمر طبيعي ومقبول، ولكن تضاريس الذّاكرة الشّائكة لم تبقَ عصيّة على الاختراق. بدأ هذا الاختراق التدريجي مع الموجة الثانية من نبش المقابر الجماعية التي أطلقها الصحفي إميليو سيلفا في تشرين الأول 2000 خلال بحثه عن رفات جدّه إميليو فابا الذي أعدمه القوميّون في تشرين الأول 1936 وألقوه مع 12 جمهوريًّا آخر في مقبرة جماعية بالقرب من بلدة بريارنثا دل بييرثو.
أظهرت نتائج فحوص الحمض النووي في العام 2003 أن الرّفات هي لإميليو فابا فعلًا لتصبح هذه أول حالة تعرّف إلى رفات قتيل جمهوري أثناء الحرب الأهليّة من خلال الحمض النووي.
تختلف موجة فتح المقابر الجماعية التي أطلقها بحث إميليو سيلفا عن سابقتها بوضوح، فقد اعتمدت على تقنيّاتٍ متطورة وضمّت باحثين ومؤرّخين وعلماء آثار وأنثروبولوجيّين رافقوا عائلات الضحايا، كما وحصلت عمليات البحث هذه على تغطية إعلامية إسبانيّة ودوليّة ملفتة.
نجح الأهالي بين الأعوام 2000 و2012 من فتح 332 مقبرة جماعية واستخراج رفات 6،300 قتيلًا واستعادة رفاتهم ورغم أن الأعداد تبدو متواضعة قياسًا بإجمالي المقابر الجماعية في إسبانيا التي تفوق 2500 مقبرة تضم رفات أكثر من 100 ألف قتيلًا، فإن مجرد الوصول إلى هذه المقابر وتحديد مكانها بدا من المستحيلات قبل تشرين الأول 2000.
تأسّست منذ ذلك اليوم مؤسّسات وجمعيّات ومجموعات عديدة لاستعادة الذاكرة التاريخيّة والبحث عن الضحايا في المقابر الجماعية من أبرزها مؤسسة استعادة الذاكرة التاريخية التي أنشأها إميليو سيلفا ودفعت هذه الحركة باتّجاه سن قانون الذّاكرة التاريخيّة في العام 2007.
أشعل النقاش الذي رافق سنّ هذا القانون ما أسمته المؤرّخة البريطانية هلن غراهام بـ"حروب الذاكرة" بين معسكري اليمين واليسار. اعتبر نقاد مبادرات الذاكرة التاريخية بقيادة الحزب الشعبي اليميني المحافظ أن هذه المبادرات تسعى إلى إحداث انقسام في المجتمع الإسباني وإعادة كتابة التاريخ وتسييسه والتّحريض على الانتقام، بينما يؤكد المدافعون عن المبادرات أنه لا ديمقراطية حقيقة من دون عدالة ومساءلة وأن الجرح الذي سببته الحرب الأهلية لم يندمل ليفتح من جديد.
أمّا قانون الذاكرة التاريخية الذي سنّ بعد صد ورد في العام 2007 فقد عكس هذا التباين والاختلاف وكان نسخة معدّلة ومحافظة أقل طموحًا من مطالب حركة الذاكرة التاريخيّة. ضمن القانون للمرة الأولى حقّ عائلات ضحايا الجمهوريّين في تلقّي التعويضات والاعتراف الرمزي وألزم الدولة بتقديم دعم معيّن للأهالي الذين يريدون البحث عن رفات أحبتهم في المقابر الجماعية، غير أن أيًّا من مواد القانون لم تبطل مفعول قانون العفو العام ولم تغير من واقع الحصانة من المساءلة.
وحال عودة الحزب الشعبي اليميني إلى السلطة في العام 2011، تعهّد رئيس الوزراء ماريانو راخوي بعدم صرف يورو واحد على مشاريع الذاكرة التاريخيّة، وكان هذا أحد الوعود الانتخابيّة القليلة التي وفى بها. أنهى راخوي رسميًّا أي دعم حكومي لعمليات استخراج الرفات والبحث عنها وإعادة دفنها لتترك العائلات وحيدة مرّة أخرى.
مقابل غياب دعم الدولة من جديد، كانت المحاكم هي الأخرى موصدة أمام محاولات تحقيق العدالة.
حاول القاضي بلتاسار غارثون، المعروف بتقديمه لائحة اتّهام ضد ديكتاتور تشيلي أغوستو بينوشيه في 1998، تغيير هذا الواقع وفتح في العام 2008 ملف الحرب الأهلية والجرائم التي تلتها مرتكزًا إلى أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم وأن قانون العفو لا يشمل جرائم الإخفاء القسري والجرائم ضد الإنسانية. أصدر كذلك أوامر فتح مقابر جماعية من بينها مقبرة يعتقد أن رفات الشاعر فدريكّو لوركا ملقاة بها. دفع غارثون ثمن فتحه هذا الملف، الذي أغلق فورًا، مسيرته كقاضٍ بعد رفع شكوى ضدّه قدمتها جمعيّتان يمينيّتان اتّهمتاه بمخالفة القانون بقبوله شكاوى الحرب الأهلية.
مع انسداد الأفق القانوني في إسبانيا توجهت بعض العائلات إلى محكمة في الأرجنتين في العام 2010 مستعينة بمحامين أرجنتينيّين لفتح ملفات ضد الديكتاتورية الإسبانية. اتّكأت العائلات في الدعوى على من مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي يتيح لمحاكم أجنبية تقديم لوائح اتّهام ضد مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية كالإخفاء القسري.
في ردّها على الشكوى التي رفعت في الأرجنتين، أصدرت القاضية ماريّا سرفيني مذّكرات اعتقال وتسليم بحق مسؤولين في ديكتاتورية فرانكو متّهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وأرسلت أوامر بفتح مقابر جماعية في إسبانيا للعثور على رفات المفقودين.
لم تتجاوب إسبانيا مع مذكرات التسليم ولكنّ أوامر فتح المقابر التي أصدرتها القاضية الأرجنتينيّة ساعدت أسنثيون بارغاس مندييتا على استخراج رفات ولادها النقابي الاشتراكي تيمتيو الذي أعدم في 15 تشرين الثاني 1939.
عاد ملف المقابر الجماعية ليشغل الرأي العام إثر النقاش الذي رافق نقل رفات فرانثيسكو فرانكو من "وادي الشهداء" حيث كان يرقد في ضريح مهيب إلى مقبرة العائلة.
كان من المفترض أن يكون يوم نقل رفات فرانكو، الذي استخدمه الحزب الاشتراكي بقيادة بيدرو سانشث لزيادة شعبيّته قبيل الانتخابات، اختتامًا لفصل مخجل في تاريخ إسبانيا، فإسبانيا هي الدولة الوحيدة في غرب أوروبا التي يحظى فيها ديكتاتور فاشي على تكريم رسمي. لا يمكن لأحد تخيل صرح يكرم هتلر بالقرب من برلين أو تحول ضريح موسوليني إلى محج لمؤيّديه في روما، مثلًا. ولكن بدل أن ينصف نل رفات فرانكو من وادي الشهداء الضحايا وعائلاتهم، كان فرصة لأنصار اليمين المتطرّف للاحتفاء مجدّدًا بإرث الفاشيّة وكان بمثابة تشييع ثانٍ للديكتاتور وفرض حضوره في الفضاء العام.
ومع إغلاق ملف فرانكو ووادي الشهداء، ينتظر أبناء وأحفاد القتلى الجمهوريين ممن تبقوا على قيد الحياة أن تغلق ملفّات ضحاياهم.
قد يختلف الكثيرون في موقفهم من الذاكرة التاريخيّة والأدوات المثلى للتعامل معها ولكن نضالات العائلات لاستعادة رفات أحبتهم أثبتت أن القتلى المغيّبين في المقابر الجماعيّة ليسوا مجرد عظام. وأشلاء. بقاؤهم في تلك المقابر وفشل الدولة في الوفاء بالتزاماتها تجاه عائلات الضحايا إدانة لديمقراطيّة عجزت عن توفير الحد الأدنى من العدالة والكرامة لمن قتلوا دفاعًا عن حقوق الناس وكرامتهم.
هوامش
[1] من حوار مع الروائي خبيير ثركاس بع صدور كتابه "المنتحل" في العام 2014 عن إنريك ماركو ادّعى أنه كان من بين الجمهوريين الذين اعتقلوا في معسكرات التركيز النازية ولم يكشف تلفيقه إلى في العام 2005 بعد تحوّله إلى رمز وناطق بلسان الناجين الإسبان من المعسكرات النازية. رابط الحوار في الإسبانية.
[3] للمزيد عن سياسة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيّين، انظر/ي: حسن، بدور. "أجساد ذاءبة: شهداء فلسطينيّون يغتالهم الاحتلال مرّتين."
[6] Ferrándiz, Francisco. "Unburials, Generals, and Phantom Militarism: Engaging with the Spanish Civil War Legacy." Current Anthropology 60.19 (2019): 62-76.
[7] عن المبادرات الشعبية لنبش القبور الجماعية وإعادة دفن الضحايا في نهاية السبعينيات، انظر/ي: Aguilar, Paloma. "Las Desconocidas Fosas Abiertas en la Ttransición." TintaLibre 47 (2017): 28-29.