مكّنت الثورة في مصر، يناير ٢٠١١، من خلق مجال كتابيّ، ليس فقط متعلقاً بحريّة المكتوب عنه، ولكن بمساحات الكتابة نفسها، التي اجترحت الثورة آفاقها، أو بَنَت على السابق منها. هذا المجال الكتابيّ كان محكوماً، أحياناً، بالثورة نفسها؛ كتابةً، وتأريخاً، وذاكرةً لها، وأحياناً أخرى كان مشروطاً بالأفق الذي مهّدت له، بمحاولة الكتابة عن الآفاق المثقوبة التي كنّا نحياها.
دائماً ما كانت الكتابةُ عن ثورة يناير ملتبسة كالتباس الثورة نفسها، وفي جزء منها كانت ‘‘كتابة قُربانيّة‘‘ -إنّ صحّ تعبيري- تحاول الانخراط في الحدث وتقديم القرابين والشفاعة له، يحصلُ ذلك بشكل رثّ أو بشكل إبداعيّ. ولكنّه من المفهوم أنّ الثورة فخّ دائماً، ولا يمكن تجنّب هذا الفخّ، أو تحييده، بصورة تلقائيّة، فهي جزءٌ من الذاكرة، والجسد، والأرواح التي عَلقت في دخانها وشعاراتها الجميلة.
بيد أنّ ما يلفت في العمل الأخير للروائيّ والشاعر المصريّ علاء خالد (مواليد الإسكندريّة، ١٩٦٠) تحت عنوان ‘‘بيت الحرير‘‘ هو الخروج الجذريّ عن العوالم الفانتزيّة المعتادة للكتابة عن الثورة، واتخاذها كساحة لمباركة أيّ عمل أدبيّ، حتى ولو كان من النوع الرثّ. في ‘‘بيت الحرير‘‘، يواصل علاء خالد، بجدارة لا مثيل لها، عوالمه التي شقّها في اكتشاف الذات والمكان و‘‘الفقّاعات‘‘ التي نتقوقع فيها، وينقذ شخصياته وحبكته المصنوعة بدقّة من شبق الحكايات الرثّة، للنفاذ إلى عالَم أكثر قرباً من الذات، عالَم حينما كانت الثورة تحصلُ في الخارج، كان الداخلُ عالقاً بين جيلين، أو زمنين.
بطلة ‘‘بيت الحرير‘‘ اسمها دولت، وجدت في الثورة طريقاً لحريّتها التي كانت في طريقها نحو النضوج قبل وقوع الثورة. ورغم أنّ مسرح الأحداث يقعُ في الثورة، وبعدها مباشرة، إلّا أنّ البطلة لم تشارك في الـ١٨ يوماً، التي أسفر عنها سقوط مبارك ونظامه. لم تشارك البطلة بسبب أبيها التاجر الذي منعها من النزول، وكان يرى، معبّراً عن جيل بأكمله، أنّ الثوّار ‘‘بلطجيّة‘‘ والثورة تعطيل للمصالح، وغيرها من ذاكرة جيل بأكمله سعى علاء خالد إلى إبرازها في شخصيّة الأب.
ستقع دولت في علاقة تعلّق مع كاتب خمسينيّ هو محسن الحكيم، الذي سيكون ثورياً ويكتب عن الثورة كصحافيّ وكاتب، وسيكون مأوى لدولت الفارّة من البيت بعد خلعها للحجاب إبّان الثورة؛ الأمر الذي لم يحتمله أبوها فطردها من البيت لتجد في محسن نوعاً آخر من أبٍ أكثر رحمةً وثوريّةً وإيماناً بحريّتها.
‘‘بيت الحرير‘‘ تلعبُ بالتحديد على وتر الذاكرة، وعلى فكرة الجيل بشكل أساسيّ. نحن أمام صراع ذاكرة، وصراع أجيال، ورؤى متنافسة، دون أيّ انتصار. الأب، ذي النكات البايخة كما تصفه دولت، هو ذاكرة جيل معيّن، بقدر ما توصّفه دولت بالذكوريّة فهو أيضاً هشّ، لا حكايات عنده، يمضي يومه بين العمل واختلاق العداوات لأنّه ليس بحوزته أي شيء. لكنّ الأب، رغم أيّ إدانة ممنهجة له على لسان البطلة، إلّا أنّه موجود كشاهد على ذاكرة جيل هو يمثّله. أقصد، الإدانة هنا ‘‘جيليّة‘‘ وليست أخلاقيّة أو معياريّة بأيّ شكلٍ من الأشكال.
أمّا محسن الحكيم، الكاتب والأديب، فهو يمثّل ربّما جيل الأب ولكن معكوساً. محسن هو الثائر الخمسينيّ، الذي مرّ بتجارب عدّة، وتوضّح لنا الرواية على لسانه ولسان دولت أنّه ينتمي إلى طبقة وسطى منفتحة نوعاً ما، مقابل طبقة دولت الوسطى المحافظة والتي نجمَ عنها -ربّما- هذه الشخصيات العدّة مثل دولت، التي كان عليها إمّا شقّ طريقها بنفسها خارج سلطة البيت والعائلة وهذه الطبقة وتحمّل العيشة القاسية في الشقق المشتركة القاسية -كما توضّح الرواية-، أو انسحاق ذاتها داخل هذه العائلة، والسقوط في ‘‘فقّاعة‘‘ أبيها.
اللافت أنّ ‘‘بيت الحرير‘‘ هي ليست تأريخاً لثورة، أو احتفاءً رمزيّاً حتّى بها. إنّها مسرحٌ خارجيّ حصلَ عليها صراعٌ من ذاكرة أجيال، وتحاول الرواية التقاط خيوط هذا ‘‘الصراع‘‘ الذي ربّما لم يكن واضحاً بما يكفي لمتصارعيه. ربّ صراعٍ بحاجةٍ إلى زمنٍ ما حتى يؤرّخه عملٌ ما كعمل ‘‘بيت الحرير‘‘: فكرة الجيلين اللذين لم يحدّدا موقعهما، الطبقيّ والاجتماعيّ والثقافيّ، في مسرح الثورة. الثورة، في رواية علاء خالد، هي مساحة لهذا الصراع، وليست حسماً له. وفي روايته السّالفة لهذه الرواية بعنوان ‘‘أشباح بيت هاينريش بُل‘‘، يعيّن علاء خالد هذا المأزق بذكاء حينما يقول ‘‘إنّ الثورة لم تصنع زمناً جذرياً‘‘.
في شخصيّة مصعب التي ستصادفنا بكثرة في الرواية، وهو البطل الثائر في التحرير منذ الثورة وحتى أحداث ٢٠١٣، ومشاركته في أحداث محمد محمود ودخوله السجن فترة حكم الرئيس الراحل مرسي، سنجدُ أنّ مصعب -الذي تقع معه دولت في غرامٍ عاتٍ وعلاقات جنسيّة مفتوحة- هو تمثيل جيّد عن هذا الجيل الثوريّ بلا فكرةٍ عن الصّراع. هناك نقد، ولو خَفيّ، في ‘‘بيت الحرير‘‘ لفكرة غياب فكرة الجذريّة عند هذا الجيل المتمرّد والرّافض لجيل الأب: فهو حينما كان يرفع الشعارات الرنّانة، كان يترك الباب موارباً لهذا الفشل. برعَ علاء خالد في توصيف هذه ‘‘المواربة‘‘ أو هذا ‘‘التناقض الجيليّ‘‘ إن صحّ التعبير في الرواية بذكاء. فمصعب هو حاضرٌ كجسد ثائر في الميدان، وكشهوة جامحة في الليل مع دولت في شقق وسط البلد المشتركة التي أوت مثل هذا الجيل، لكنّه في الوقت نفسه مرتبكٌ وغامض، علاقته بأمّه (الماضي الذي لا يفرّ؟) التي حكمت تصوّره لدولت كـ‘‘أمّ‘‘ يضاجعها، ومن عمره، ويستطيع أن يكسر بها خجله القديم. الشخصيّات في ‘‘بيت الحرير‘‘ تمثّل ما هو أكبر منها. لكنّ الجميل هو أنّ الرواية لم تدع لنفسها ذلك لتخرجَ من الذات إلى الجيل بصورة فجّة، بل كان هناك توازن سرديّ ودراميّ بين ترسيم الذات وفقّاعتها وبين الفكرة التي تمثّلها هذه الذات. وبالتالي، تكون الثورة هي المسرح بمعنى أنّها سمحت لجيلين -جيل الأب، وجيل دولت- أن يتعرّى، دون أيّ محاكمة معياريّة، ويكون محسن الحكيم، الثوريّ، الذي فيه شيءٌ من الجيلين، هو الذي يدوّن أو يراقب هذا الصراع.
هناك في الرواية حافز مؤثّر يدعو القارئ دائماً إلى استحضار شبح فرويد. لجوء دولت إلى محسن، وعلاقة مصعب مع دولت. دولت لا يمكن حسم ‘‘نوع‘‘ علاقتها مع محسن الحكيم، الخمسينيّ، ولا حسم نوع علاقته بها. هي علاقة مرتبكة، ربّما رأى محسن فيها حيويّته التي انطفأت، ماضيه، بجوار علاقته ‘‘الجيّدة‘‘ مع امرأته المسافرة. فهي علاقة حبّ دون أيّ استلزام مصاحب لها. أو كما تقول الرواية على لسان محسن بصورة معبّرة فعلاً: ‘‘عرفَ بأنه يحبّها، ولم يرهقه أن يفسر كنه هذا الحب، أو أن يقارنه بحبه لزوجته. كان يعرف بأنه يسير في شارع جانبيّ للحبّ، يوازي الشارع الكبير، غير معبّد، وليست به إضاءات، ولن يفضي إلى شيء. كانا يجوبان أحياء القاهرة القديمة تحت جناح الجموع التی تهتف في كلّ مكان بسقوط النظام. وسط هذه اللحظات، أتيحت الفرصة ببذخٍ لتسقط أنظمة أخرى من فوارق العمر والحبّ والتحريم، ولم يجد أي ضير في أن يسير في هذا الشارع الجانبيّ، غير المعبّد، من الحب مع حبيبته الصغيرة، يداً بيد، بينما الجموع تسير في شارع رئيسيّ تنادي: «الشعب يريد إسقاط النظام‘‘.
كما إنّ علاقة مصعب بدولت هي أيضاً علاقة جداً مرتبكة. ورغم التجايُل، والتناظر في العمر، إلّا أنّ شعورها بأنّه تمثّل أمّه كان حاضراً بكثافة. ربّما الشخصيات في الرواية تجدُ احتضاناً في بعضها البعض. أي، بمعنى آخر، أراد علاء خالد أن يوضّح أن الثورة هي خلقت فكرة ‘‘الاحتياج الجيليّ‘‘، بكلّ كارثيّة هذا الاحتياج وجماله وجموحه، مثل ثورة تسير بلا أيّ خطّ واضح؛ ثورة يمكنك أن تكون موظّفاً في احتجاجاتها، ‘‘تترك مكانك في المسيرة، لترجع البيت تأكل أو تشرب، وترجع لمكانك نفسه‘‘، كما في رواية ‘‘أشباح بيت هاينريش بُل‘‘.
بالطبع، في الرواية هناك رمزيّة فظيعة لهزيمة الثورة، وهزيمة ذاكرة وجيل بأكلمه. الطفل الذي نجمَ عن علاقة دولت بمصعب (مصعب الصامت دائماً في الرواية، المتكلَّم عنه)، والذي أجهضته دولت يوم الثلاثين من يونيو ٢٠١٣، هو رمزيّة عالية لجيل محكوم عليه بالإجهاض، بأنّه سيُقصف قبل الاكتمال. أي، سيُولَد ميّتاً.
وصّفت الرواية جيّداً الارتباك في فكرة تحرّر دولت. دولت، البطلة، هي ما أحبّ أن أسمّيه بالشخصيّة العالقة: فرغم تحرّرها، الذي كان مبعثها داخليّاً، ومجنوناً وبلا حساب، أدّى إلى حمْلها وإجهاضها، إلّا أنّها عالقة في حبّ مصعب (الذي يخونها) وحبّ محسن الحكيم الخمسينيّ المتزوّج. هي عالقة بين جيلين. رغم أنّها حتماً من جيل مصعب، بكلّ عنفوانه. لكن فكرة ‘‘المأوى‘‘ حضرت على الدوام لديها، متمثلةً في شخصيّة محسن الحكيم الذي كان يرى، كما تقول الرواية على لسانه، ‘‘أنّنا ضحايا البحث الدائم عن المستحيل‘‘. إنّ فكرة الحبّ في الرواية ليست برومانسيّة، بقدر ما هي طريق دولت للتحرّر الذي لم تخلقه الثورة حقيقةً، بل راكمت على ‘‘فقّعاته‘‘.
كما اشتغل علاء خالد، بفرويديّة سرديّة جميلة، على فكرة ‘‘الكبت‘‘ والفقّاعة. الأجيال المكبوتة التي وجدت في الثورة طريقاً لإخراج هذا المكبوت بطرق شتّى، لكن كانت الحسبةُ مختلفة بين مكبوت دولت مثلاً، ومكبوت محسن. القسمة ليست عادلة، كما الحياة دائماً. ورغم أنّ دولت راحت إلى الثورة -بوعي- عالمةً بمكبوتها، إلّا أن الثورة كانت العَرض الخارجيّ الذي فجّر الفقاعة والمكبوت. نحن أمام رواية تمسرح الثورة، وتجعلها من الخارج الذي حينما وقع فجأة، جاءت إليه تناقضتنا الجيليّة من كلّ مكان، ومكبوتنا الرمزيّ والجسديّ؛ دون أيذ امتلاك لـ‘‘زمن جذريّ‘‘.