من أكثر الأمور لفتًا للانتباه في الانتفاضة اللبنانية الأخيرة هو تبني شعار/هتاف "يسقط حكم المصرف" كتنويعة على هتافات "يسقط حكم المرشد/العسكر"، و"يسقط حسني مبارك" في مصر. في الهتاف اللبناني، على غير الحال في الهتافات المصرية، لا يتمحور الهتاف حول شخص أو فئة حاكمة، أو حتى نظام حاكم كما هو الأمر في التنويعات المصرية. يتركز الهتاف اللبناني–والذي ظهر للمرة الأولى أثناء تظاهرات 2015 التي عرفت باسم "طلعت ريحتكم"– على ما رآه المتظاهرون كبنية أو أسلوب أو فلسفة الحكم، فالمصرف أو البنك ليس شخصًا أو مجموعة من أشخاص أو حتى تحالف حاكم.
في مرحلة لاحقة من مراحل الانتفاضة اللبنانية، استهدف المتظاهرون المصارف بشكل مباشر، فتجمعت أعداد كبيرة منهم خارجها للاحتجاجات على السياسات المصرفية، بل وتواترت أنباء عن اقتحام بعض المتظاهرين لبعض أفرع المصارف على أثر الأزمة النقدية التي تمر بها البلاد مما دعى موظفي المصارف لإعلان الإضراب عن العمل.
بالطبع يعد من قبيل التبسيط المخل اختزال الفارق بين الحالة المصرية واللبنانية في هتاف أو بعض التجمعات الاحتجاجية، لكن هناك فوارق هامة بين الحالتين أدت غالبًا لاستهداف بعض شعارات التظاهرات اللبنانية لبنية الحكم السياسي والاقتصادي وفلسفته. بالطبع كان هناك أيضًا هتافات تستهدف أشخاصًا في لبنان مثلما حدث مع جبران باسيل لكن ظلت هتافات "يسقط حكم المصرف" و"كلن يعني كلن" أكثر مركزية، بينما في مصر ظل الأشخاص أو مجموعة من أفراد هم هدف أغلب الحركات الاحتجاجية المتتالية منذ قيام الثورة، بل ومن قبل ذلك في حركة "كفاية"، على سبيل المثال. كان الحراك المناهض للفساد المالي مركزيًا إذن في البلدين، لكن الزاوية التي تم تناول المسألة منها ربما اختلفت بعض الشيء.
يُضاف أن أمرًا يتعلق بالضرائب كان بمثابة الشرارة التي أججت الاحتجاجات في لبنان ووضعت الظروف المادية في القلب من الحركة الاحتجاجية، فإن أحد أبرز الفوارق بين الحالة المصرية واللبنانية هو الاحتكاك المباشر لقطاع أكبر من اللبنانيين بالنظام المصرفي بشكل شبه يومي بسبب كبر دور القطاع المصرفي هناك. فأصول القطاع المصرفي في لبنان تمثل نحو 174% منا لناتج المحلي الإجمالي،مما يجعل لبنان رابع بلد على مستوى العالم في هذا المؤشر بعد هونج كونج والدنمارك وسويسرا. بينما تبلغ النسبة في مصر أقل من نصف هذه النسبة، لتحتل المركز الثالث والأربعين على مستوى العالم في المؤشر ذاته.
أيضًا تبلغ نسبة تحويلات العاملين بالخارج في لبنان 12.7% من الناتج المحلي الإجمالي. في حين أنها في مصر تبلغ 10.2%، مع الأخذ في الاعتبار أن نصيب الفرد في الناتج المحلي في لبنان أكثر من ثلاث أضعاف نصيب الفرد في مصر، مما يجعل نصيب الفرد من التحويلات في لبنان ما يقرب من أربع أضعاف نصيب الفرد المصري. ويظل الفارق الأبرز بين البلدين هو في نسب امتلاك حسابات بنكية فتبلغ النسبة نحو 45% من السكان في لبنان، أما في مصر فتتراوح ما بين 10-15%.
وبالنسبة للدين الحكومي الذي تخطى حجمه في لبنان ال150% من الناتج المحلي الإجمالي فيملك أغلبه بنوك تجارية خاصة تحصل على عوائد مرتفعة جدًا من أموال دافعي الضرائب والدولة بدون مخاطرة تذكر. في مصر كذلك تملك البنوك التجارية نصيب الأسد من الدين الحكومي، لكن يظل جزء كبير من هذا الدين الأصغر في وزنه النسبي لحجم الاقتصاد من نظيره اللبناني برغم تناميه بسرعة مملوكًا لبنوك وشركات تأمين حكومية. وكما يقول توماس بيكيتي مؤلف كتاب رأس المال في القرن الحادي والعشرين، الدين الحكومي ليس إلا ديناً مستحقاً على الجزء من المواطنين الذي يدفع الضرائب لصالح جزء آخر يحصل على فوائد هذا الدين.
ومن الفوارق المهمة أيضًا هو حجم الديون الشخصية/الأسرية في البلدين، فوصل حجم ديون الأسر اللبنانية في 2017 إلى 20,5 مليار دولار وهو ما يبلغ نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما بلغت ديون المستهلكين في مصر– التي يبلغ سكانها أكثر من خمسة عشر ضعف سكان لبنان – نحو 250 مليار جنيه (أي نحو 15 مليار دولار)، أو أقل من 5% من الناتج المحلي الإجمالي. ووفقًا لإحصاءات مصرف لبنان لعام 2017، تضاعفت الديون الشخصية منذ عام 2010، وارتفع عدد المدينين بقروض شخصية من نحو 34 ألف عام 1993 إلى نحو مليون مدين عام 2017 أي بزيادة تقدر بـ 3000%، ولجأ قرابة ثلثهم لتمويل استهلاكهم وشراء مساكن وسيارات وتسديد أقساط.
بالرغم من ذلك، احتل الفساد المالي في مصر أيضًا حيزًا كبيرًا من خطاب الحركات الاحتجاجية، فأعمال جمال مبارك مثلا جسدت ورمزت إلى محسوبية رأس المال في ظل نظام مبارك، لكن كان التصور الشعبي عن أعمال جمال مبارك أن هذه الاستفادة الاقتصادية القصوى التي حصل عليها بفضل موقعه السياسي لم تأتِ بالضرورة على حساب الإضرار بالآخرين، وأنها تمت في عالم المال والاستثمار البعيد وشبه الموازي الذي لا نتفاعل معه ولا يتفاعل معنا. نفس الشيء ينطبق على نهب الأراضي كمورد غير مستغل، والذي نال اهتمامًا إعلاميًا كبيرًا وقت الثورة. لكن بسبب وجود الأرض تحديدًا كمورد غير مستغل، لم ير الكثيرون كيف تؤثر أنماط الفساد تلك عليهم بشكل مباشر. ما بين تعقيدات الاستثمار المالي والمصرفي البعيدة عن حيوات الناس اليومية، ونهب أراضي الصحراء والأراضي الساحلية البعيدة عن الناس جغرافيًا، لم تتطور في مصر تصورات متماسكة عن تأثيرات الفساد وأسبابه البنيوية، حيث ساد خطاب شبه أخلاقي عن أناس نهبت هذا الكيان المجرد المسمى بـ "البلد" مساهمًا في تحييد نسبي لمواطني هذا "البلد". بينما كانت الاحتجاجات اللبنانية أكثر قدرة على التعاطي مع البنية الاقتصادية، وهو ما يجعلها في وضع أفضل لتجاوز خطاب يرى أن المشكلة في فساد مجموعة صغيرة من الأفراد الأقوياء النافذين، تنتهي المشكلات بمجرد التخلص منهم..
استهداف البنية الريعية ما بين النظرية والفعل السياسي
في مجال الاقتصاد السياسي، عندما يُذكَر النشاط الريعي يتبادر فورًا إلى الذهن صورة عن ملكيات أصول مادية وموارد طبيعية كآبار نفط في دول العالم الجنوبي، وتحديدًا دول الخليج العربي وأفريقيا جنوب الصحراء. ولكن يعتقد أستاذ الأنثروبولوجيا والجغرافيا والاقتصاد السياسي، ديفيد هارفي، أن أنشطة القطاع المالي والمصرفي تعد أكثر أشكال "التراكم عبر نزع الملكية" (accumulation by dispossession) تطورًا في عصر الحقبة "النيوليبرالية" التي دشنت في نهاية سبعينات القرن الماضي.
يعرف هارفي التراكم عبر نزع الملكية على أنه النسخة المعاصرة من التراكم الأولي أو البدائي. التراكم الأوّلي، وفقًا لتعريفات كارل ماركس، وروزا لوكسمبورج، هو نمط تراكم يعتمد على القوة والاحتيال والقمع والنهب، ويحدث على مرأى ومسمع من الجميع بدون بذل أية محاولة لإخفائه. وفقًا لرؤية لوكسمبورج، فإن هذا النمط من التراكم يحدث على النقيض من، وبالتكامل والتزامن مع، أنماط التراكم المعتمدة على انتزاع فائض قيمة عن طريق تشغيل العمال وبيع إنتاجهم في أسواق البضائع، ثم إعادة استثمار بعض من فائض القيمة، للتوسع فيما يسمى في الأدبيات الماركسية بإعادة الإنتاج الموسع (expanded reproduction). يشبه التراكم البدائي التراكم الناتج عن أنشطة ريعية في تحييده النسبي لعنصري العمل والإنتاج.
ويتضح من معدلات التحصيل الضريبي الضعيفة في مصر سيادة النمط الريعي في الاقتصاد. معدل التحصيل الضريبي في مصر منخفض للغاية لا يتعدى ال 15% من الناتج المحلي الإجمالي، ويشكل 70% فقط من موارد الدولة أو نحو 40% إذا أخذنا الاقتراض في الحسبان. وجزء من مصادر هذه الحصيلة المنخفضة يأتي من مصادر ريعية مثل قناة السويس وقطاع البترول والقطاع المالي. فمن بين 462 مليار جنيه تم تحصيلها كضرائب في العام المالي 2016 – 2017 جاء 22 مليار من ضرائب قناة السويس و42 مليار من هيئة البترول فضلاً عن الإيرادات التي جاءت من أنشطة ريعية أخرى مثل عوائد الملكية من هيئة البترول وقناة السويس والاستثمار في الديون والأوراق المالية والاقتراض.
وبالرغم من هذا الطابع الريعي لاقتصاديات مصر ولبنان إلا أن الخطاب الاحتجاجي في الأخيرة يبدو أنه كان أكثر قدرة على استهداف البنية الريعية للاقتصاد، بينما في مصر تم استهداف أعراضه مثل الفساد والمحسوبية وزيادة اللامساواة وندرة فرص العمل الجيدة.
كتب الأستاذ المساعد في الاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية في القاهرة عمرو عادلي مقالة في بلومبرج بعنوان "لا، ليس الفساد السبب الجذري لمشاكل العالم العربي"، ينتقد فيها مركزية خطاب مكافحة الفساد في المؤسسات الدولية، ويعتبر عادلي الفساد نتيجة للبنية الاقتصادية المهترئة في العالم العربي، وليس سببًا لها. كما ينتقد عادلي الرؤية السائدة والتي تركزعلى "الفساد وبشكل أعم سوء الحوكمة كسبب رئيسي وراء عدم قدرة دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على المشاركة بشكل تنافسي وفعال في النظام الاقتصادي العالمي". يتشكك عادلي في هذا الخطاب، ويقول: "على الرغم من أن لغة مكافحة الفساد قد أثبتت أنها أداة قوية في التعبئة الشعبية ضد النخب الفاسدة والمفلسة سياسياً، فقد قامت أيضًا بإخفاء العديد من الجوانب الهيكلية لأزمات المجتمعات والاقتصادات السياسية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا."
أتفق تمامًا مع تحليل عادلي على قصور التركيز المبالغ فيه على خطاب مكافحة الفساد من قبل مجموعات وطنية ودولية على يمين ويسار المشهد الاقتصادي، فيما يشبه الإجماع الذي فرغ المبدأ تمامًا من مضمونه، والذي يتفادى الخوض في الأسئلة الهيكلية الصعبة وينزع الخلاف عن الحوار المجتمعي. يعد خطاب المؤسسات الدولية لمكافحة الفساد في دول الجنوب جزءًا من إجماع الوسط السياسي النيوليبرالي الذي شهده العالم في آخر ثلاثة عقود. فبدلًا من طرح أسئلة عن إعادة توزيع الثروة ومواجهة اللامساواة المتزايدة، ركز ذلك الخطاب على الإصلاح المؤسسي البيروقراطي كحل فني غير سياسي لمشاكل التنمية المتعثرة في المنطقة، وروج لذلك الخطاب اليمين واليسار على حد سواء.
يضع عادلي–كباحث أكاديمي مبدع–يده على قصور مهم في تحليل مشاكل هذا الجزء المضطرب من العالم، وتصلح تمامًا وجهة نظره من أجل تطوير إطار تحليلي لا يوقف التحليل عند بنى الفساد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ويذهب أبعد من ذلك، لإيجاد البنية التي تسمح ببنية الفساد في الوجود، وهي بنية الاقتصاد الريعي وليس الإنتاجي، وفقًا لعادلي. تحليل عادلي مناسب نظريًا كمجهود لنقد الجوهرانية التي ارتبطت بالشرق الأوسط بشكل خاص والعالم الجنوبي بشكل عام. ومن المفيد التركيز على الظروف المادية الموضوعية لدحض هذا الخطاب الجوهراني الاستشراقي الذي يعلن عن نفسه بشكل صريح أحيانًا وبشكل ضمني أحيانًا أخرى، والقائل بأن صعوبة الإصلاح في الشرق الأوسط نابعة من تراجع الأخلاقيات المرتبطة بالنزاهة والإدارة العقلانية للعمل والموارد.
في هذا الصدد، يقول أستاذ التنمية والعلاقات الدولية في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن جلبير أشقر في كتابه "الماركسية والدين والاستشراق" إن القراءة الاستشراقية لتاريخ الشرق الأوسط المعاصر تفسر الظواهر التاريخية كلها كأنها ناجمة عن الثقافة وأيديولوجيا معتنقيها في تجاهل تام للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أدت إلى نشوء أو سيادة النسخ المختلفة من تلك الأيديولوجيات بين مجموعات اجتماعية مختلفة.
قبل أن نترك الحديث عن الفائدة القصوى لتجاوز خطاب مكافحة الفساد كإطار تحليلي ونظري للاقتصاد السياسي للشرق الأوسط، أود أن أضيف نقطة أخيرة بخصوص وضعية الفساد كنتيجة وليس سببًا لتعطيل القدرات الإنتاجية في المنطقة. هذا صحيح، لكن أيضًا يجب الإشارة إلى أن بنية الفساد تلك تؤدي لإطالة أمد الاقتصاد الريعي لأن النخب السياسية والاقتصادية لا يوجد لديها دافع للاستثمار في الاقتصاد الإنتاجي وتحدي التقسيم الدولي للعمل طالما توافر لها دخل من الريع، فيما يشبه علاقة التغذية المتبادلة أكثر من علاقة تأثير أحادي الجانب.
أيضًا، لم توجد البنية الاقتصادية الريعية في الفراغ، ولا تعمل كبنى مستقلة تستمد شروط وجودها واستمرارها من داخلها ولا يصح التعامل معها كأصل أبدي لا تاريخي لظواهر اجتماعية وسياسية تتأثر بها ولا تؤثر فيها. وجود موارد طبيعية أو مصادر للريع يعد شرطًا مسبقًا لإقامة اقتصاد ريعي، لكنه ليس سببًا كافيًا. فلدينا أمثلة لدول غنية جدًا بالموارد الطبيعية، لكن لم يحدث بها ما يسمى بلعنة الموارد مثل النرويج. هناك أيضًا نماذج دول الخليج العربي، التي أدى اعتمادها الشديد على الريع إلى إقامة أنظمة شديدة السلطوية لكنها نجحت في نفس الوقت في تحقيق مستويات عالية من الرفاه والاستقرار، لم تنجح فيه الأنظمة الريعية في أفريقيا جنوب الصحراء.
تجاوز خطاب الفساد ومخاطر شل الفعل السياسي
التفرقة بين التأثير أحادي الجانب وعملية التغذية المتبادلة ليست فقط حديثًا نظريًا، لكن لها تأثيرات على الفعل السياسي بمعناه النضالي وأيضًا بمعناه المرتبط بالسياسة العامة للدولة، مما يأخذنا للنقطة القادمة هو خطاب مكافحة الفساد كإطار للفعل السياسي political action وفعل السياسات policy action.
تتطلب علاقة التغذية المتبادلة الدائرية أو الارتجاع الإيجابي positive feedback loop تشويشًا في أي من نقاطها لكسر، أو على الأقل تعطيل، تلك الدائرة المفرغة. في حين أن العلاقات أحادية التأثير تتطلب استهداف "المصدر الرئيسي أو الأوحد" للمشكلة. في الحالة الأخيرة فقط يعد مواجهة "السبب" استراتيجية فعالة، لكن مواجهة "النتيجة" لن تؤدي بطبيعة الحال لأي شيء. لذلك تتطلب النظرة الأحادية استراتيجية واحدة للفعل، وهي استهداف البنية كمصدر رئيسي للاختلالات التي تعاني منها المنطقة، في حين أن النظرة التعددية تسمح باستراتيجيات مختلفة للفعل السياسي. هنا يتبادر إلى الذهن مفهوم كثرة المحددات overdetermination الذي طوره لويس ألتوسير في مقاله الشهير "التناقض وكثرة المحددات"، والقائل بأن الظواهر الاجتماعية لا يكون لها سبب واحد، وأن قنوات التأثير والتشكيل لا تسير عادة في اتجاه واحد.
بجانب رفض الخطاب الاختزالي لمكافحة الفساد الذي لا يصور أن هناك عيبًا في البنية الاقتصادية نفسها–وهو بالطبع أمر غير صحيح–يجب أيضًا التريث قبل رفض دور خطاب مكافحة الفساد كمدخل للفعل السياسي والسياسات، والقول بضرورة استهداف الهيكل ككل، ومن ثم سيتغير كل شيء بشكل تلقائي إلى الأفضل، وهذا هو ما يشكل النتيجة المنطقية لافتراضية التأثير أحادي الجانب إن تم مد خطها على استقامته.
في تحليل لسيكولوجية الفعل الخيري، وجدت دراسة أن التعاطف والقدرة على الفعل تقل كلما زادت حجم المأساة بسبب الإحساس أن الفعل لن يكون ذو جدوى. لذلك من المهم لتحفيز التبرع أن يقال بدلًا من أن هناك مليون طفل يواجهون خطر الجوع، يتم عرض طفل واحد مهدد بصورته واسمه وسنه في الظاهرة التي تعرف بـ "تلاشي التعاطف" compassion fade، وهو المبدأ الشبيه بالمقولة الشهيرة: "وفاة شخص واحد كارثة، ولكن موت مئات الآلاف تصبح إحصائية". نفس المنطق قد ينطبق على الفعل السياسي بحيث يصبح فساد شخص واحد فضيحة، لكن فساد البنية ككل تصبح احصائية. لهذا من الممكن اعتبار مكافحة الفساد وسيلة لخوض النضال السياسي من خلال نضالات صغيرة متعددة، بدلًا من القول إن ما يجدي فقط هو استهداف البنية ككل، والتي قد يتسع تعريفها لتشمل هيكل الاقتصاد العالمي، مما يجعل بطبيعة الحال أي فعل سياسي غير ذي جدوى.
لهذا قد يكون مكافحة الفساد دور محوري كأداة تعبوية فعالة قادرة على إضافة بعد إنساني على البنية الاقتصادية، وبالتالي استهداف النظام عن طريق استهداف بعض أفراده وخوض النضالات بشكل يجعلها أكثر تحفيزًا للفعل. وبما أن هناك نظامًا للتغذية المتبادلة، فكل استهداف قادر على التأثير في البنية الكلية للاقتصاد الريعي. لكن على الجانب النظري والبحثي وكمنهج تحليلي، يجب علينا أن نكون أقرب إلى حالة لبنان حتى نستطيع تحديد بدقة مصادر اللامساواة في بلداننا، وفي العالم، ونتخطى الخطاب النيوليبرالي والنيواستشراقي، الذي يتعامل مع الفساد كمسألة فنية وكنظام مستقل ينتمي للعالم الجنوبي، لا يستمد شروط وجوده إلا من ذاته، ولا يمكن تخطيه إلا من خارجه.
*شكر خاص للكاتب والباحث الاقتصادي وائل جمال، حيث اعتمدت تلك المقالة على حوار مطول معه عن خطاب مكافحة الفساد في مصر، والفارق بين حالتي الثورة المصرية واللبنانية في التعاطي مع الفساد والأحوال الاقتصادية. بالرغم من تثمين ذلك الدور، أظل وحدي مسئولًا عن أي نقاط ضعف محتملة في المقالة.