منذ عام 2011؛ كشف الربيع العربي عن رغبة جامحة لدى سكان الدول العربية في إدخال تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية. ورغم وصول هذا الاتجاه إلى دول الخليج؛ فإنه لم يؤثر ذاك التأثير الجذري على بنيتها السياسية كما هو الحال في بلدان مثل مصر وتونس وليبيا.
ومع ذلك؛ فقد اندلعت الاحتجاجات في أربع من دول مجلس التعاون الخليجي الستة، وهي: السعودية والكويت وسلطنة عُمان والبحرين. وعلاوة على ذلك؛ أثار الربيع العربي جدلاً بين المثقفين بشأن جذور هذه الحركات في التاريخ المحلي الحديث، مما استوجب مني إعادة النظر في تاريخ التنمية الدستورية في بلادي الكويت.
وخلال فترة دراستي للدكتوراه عام 2013، وما سبقها من تحضير لفكرة الرسالة ذاتها؛ شغلت ذهني تساؤلات عن جدوى الكتابة عن التاريخ الكويتي. كان من أبرز هذه التساؤلات: هل تاريخ الكويت مهم؟ وهل تمت كتابة تاريخنا بالطريقة الصحيحة؟ ولماذا نجد تكرارا في الأدبيات الموجودة عن تاريخ الكويت باللغتين العربية والإنجليزية؟ ولماذا يكون معظم التحليل مرتبطا بفئتين: فئة الشيوخ -وهم المنتمون للأسرة الحاكمة- وفئة التجار؟ وهل كان للفئات الاجتماعية الأخرى تأثير على الساحة السياسية؟ ولماذا لم تذكرهم المصادر التاريخية التي ناقشت التاريخ المحلي؟
وجدتُ في مدرسة الحوليات الفرنسية ضالتي التي كنت أنشدها لمعرفة من أين أبدأ في التفكير، فقد كفرت هذه المدرسة بالثالوث المقدس عند المؤرخين في القرون السابقة، ولم تقدس أبدا الفرد والسياسة والكتابة الحولية للتاريخ، بل توسعت في المجالات الأخرى. هذا التفكير خارج الإطار التاريخي المعتاد حفزني على البحث والتنقيب عن: لماذا تم تهميش الفئات الاجتماعية الأخرى غير الشيوخ والتجار في تاريخ الكويت السياسي؟
لقد دفعني كل ذلك للبحث والتقصي، فظهرت عندي ملامح إطار تحليلي جديد أطلقت عليه اسم "القوى المرجحة" (The Balancing Powers)، فـ"القوى المرجحة" عبارة عن فئات اجتماعية موجودة ولها تفاعلاتها في تاريخ الكويت السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولكن لم يذكرها المؤرخون إلا بصورة عرضية دون الإشارة لدورها ولطريقة تفاعلها مع مكونات المجتمع الأخرى.
وخلال كتابة رسالتي للدكتوراه؛ كان هدفي هو إثبات فاعلية القوى المرجحة، ومع مرور الزمن وتغير بعض العوامل صار لهذه القوى دور رئيسي في السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية، حتى أصبحت عاملا ثالثا فاعلا في الحياة السياسية بجانب الشيوخ والتجار. ويهدف هذا المقال إلى التعريف بفكرة "القوى المرجحة" في الكويت، من خلال التعريف بالمراحل الثلاث التي مرت بها هذه القوى حتى وضع الدستور عام ١٩٦٢.
في أوائل عام 1716؛ ظهر عقد اجتماعي غير مكتوب بين الدوائر الاجتماعية الكويتية -بما في ذلك الأسرة الحاكمة- قائم على نظام الشورى الذي يأخذ فيه الحاكم بآراء النخبة. وبعد تولي مبارك الصباح السلطة (خلال 1896- 1915) تم استبدال نظام الشورى التقليدي بحكم سلطوي، وتواصل حتى انتهاء حكم ابنه سالم بوفاته عام 1921. وعندها طلبت مجموعة من التجار الكويتيين وعلماء الدين وأفراد الأسرة الحاكمة من الحاكم الجديد أحمد الجابر الصباح (حكَم خلال 1921-1950) استعادة نظام الشورى، وأسفر ذلك عن أول وثيقة دستورية مكتوبة في الكويت عام 1921.
ومع ذلك؛ فإن كلاً من مجلس 1921 والحكم الدستوري لم يستمرا إلا ستة أشهر فقط قبل أن يتم استعادة النظام السلطوي. لقد أيقن التجار و"القوى المرجحة" الأخرى أن إحياء نظام الشورى القديم أكثر فائدة بالنسبة للدولة، مقارنة بالنظام السلطوي الذي كان قائماً في ذلك الوقت. ونتيجة لذلك؛ أُنشئ أول مجلس تشريعي عام 1938، وأسفر عن صياغة الوثيقة الدستورية الثانية للكويت التي منحت المجلس سلطة واسعة. ومع ذلك؛ تفكك المجلس مرة أخرى بسبب الخلافات بين مختلف المكونات الاجتماعية، مثل الكويتيين غير العرب والعديد من الأسر التجارية.
وفي عام 1938؛ دخلت الكويت حقبة جديدة من التحول شهد فيها الاقتصاد -الذي كان يعتمد في السابق على التجارة وصيد الأسماك والغوص على اللؤلؤ- تطوراً كبيراً تبعاً لإنتاج النفط. وأصبح المجتمع -بعد الزيادة في عائدات النفط- أكثر حداثة، الأمر الذي نتج عنه اتفاق جديد بين العناصر الاجتماعية والأسرة الحاكمة، أسفر عن صياغة الدستور الرابع عام 1962.
ورغم أن الوثائق الدستورية لعاميْ 1921 و1938 أعادت إحياء نظام الشورى السابق لعهد مبارك؛ فإن دستور 1939 الذي لم يقره المجلس التشريعي ألقى بذور حقبة جديدة ركزت معظم السلطة في يد الحاكم، بسبب اكتشاف النفط وانهيار النظام الاقتصادي القديم. وفي ظل التغييرات السياسية والاقتصادية؛ شهدت الكويت تغييراً رئيسياً آخر، وهو زيادة تدفق الأموال وإدخال أيديولوجيات سياسية جديدة. ويمكن اعتبار دستور 1939 بمثابة لبنة الأساس للدستور الحالي الذي تم تبنيه 1962 كدستور مكتوب حديث قائم على بعض المبادئ الديمقراطية.
تنحصر الرواية السائدة حول التطور الدستوري والتاريخي في دولة الكويت في قصة الأسرة الحاكمة والطبقة التجارية، باعتبارهما القوتين الفاعلتين الوحيدتين في تاريخ البلاد السياسي؛ وهذا الأمر لا يعكس بدقة دور وتأثير المكونات الأخرى للمجتمع الكويتي في عملية صنع القرار السياسي على امتداد تاريخ البلاد. لذلك، من المهم فهم تطور العلاقات بين العائلة الحاكمة والتجار والقوى الاجتماعية والسياسية الأخرى.
فكرة "القوى المرجحة" هي رؤية جديدة في تاريخ الكويت تنظر في دور مختلف شرائح المجتمع التي أهملها الدارسون فيما مضي. ولا يشير مصطلح "القوى المرجحة" إلى قوة اجتماعية موحَّدة ذات إرادة أو خصائص مشتركة، بل يشير إلى مفهوم جامع وعام يرتبط بالقوى الاجتماعية والسياسية المختلفة التي لعبت دوراً حيوياً في الحياة السياسية بالكويت من بداية القرن العشرين وحتى إقرار دستور 1962.
ولذلك فإن فئات "القوى المرجحة" متعددة؛ مثل: علماء الدين، والغواصون، والقوى العاملة، والبدو، والقرويون، والشيعة (العرب والعجم)، والمثقفون. ورغم أن هذه القوى مرت بثلاث مراحل متباينة من حيث تأثيرها السياسي؛ فإن دورها في تحقيق التوازن بين قوة العنصرين الرئيسيين الشيوخ والتجار ظل واضحًا على الدوام.
تطور دور هذه القوى تدريجياً من كونها عنصرا ثانويا في الحياة السياسية بالكويت حتى أصبحت مكونا سياسيا رئيسيا عام 1962، وذلك لأن الأغلبية الكبيرة من المرشحين في انتخابات مجلس الأمة التأسيسي لعام 1961، وغالب الأعضاء المنتخبين في المجلس التأسيسي؛ كانوا ينتمون إلى تلك القوى، وصوتوا لصالح دستور 1962.
تجدر الإشارة إلى أن دور "القوى المرجحة" لم يبرز من خلال التمثيل السياسي في المؤسسات الكويتية فحسب، بل إنها لعبت دورها السياسي بطرق أخرى. فبخلاف وجود أفراد منها أعضاء في مجلس الشورى الأول عام 1921؛ مارست هذه القوى نفوذها السياسي بشكل رئيسي عبر حراكها السياسي ودعمها لإحدى القوتين الرئيسيتين:، التجار والشيوخ.
وفي هذا الصدد؛ فإن مجلسيْ 1938 و1939 لم تُمثَّل فيهما أي قوة أخرى سوى الشيوخ والتجار. ورغم غياب "القوى المرجحة" عن هذه المجالس؛ فإنها لعبت دوراً حاسماً في إنشاء وحلّ كلا المجلسين. فقد دعم المثقفون والشباب أعضاء المجلس الذين كانوا بشكل أساسي من التجار، وذلك بالمظاهرات وأشكال أخرى من الحراك السياسي، كان أهمها تأسيس كتلة الشباب الوطنية؛ بينما دعم القرويون والبدو والشيعة السلطة.
ويمكن تقسيم مسار تطور "القوى المرجحة" إلى ثلاث مراحل، تبعاً للأحداث المفصلية في التاريخ السياسي للكويت؛ ففي عهد مبارك الصباح (1896-1915) كانت هناك مؤشرات واضحة على انخراط هذه القوى في السياسة، وتبلور تأثير هذه القوى خلال الأحداث المرتبطة بهجرة تجار اللؤلؤ من الكويت إلى البحرين عام 1910، وما ارتبط بها من هجرة لرأس المال ممثلاً في التجار.
وقرب نهاية عهد مبارك؛ ظهر دور علماء الدين الكبير في معارضة الحاكم وبعض حلفائه من التجار، وخاصة عندما حرّضوا الشعب على رفض أوامر مبارك لمساعدة البريطانيين ضد الإمبراطورية العثمانية. ورغم أن هؤلاء العلماء لم يكونوا من المفكرين أو أتباع أيديولوجيات معينة؛ فإنه يمكن اعتبار ذوي الآراء العصرية منهم -مثل عبد العزيز الرشيد ويوسف القناعي- من رواد المثقفين.
بدأت المرحلة الثانية من تطور دور "القوى المرجحة" عام 1921 مع حكم أحمد الجابر (خلال 1921-1950)؛ فازداد تأثير هذه "القوى المرجحة" خلال هذه الفترة التي تميزت بتغيرات سريعة، ناجمة عن اكتشاف النفط، وظهور تأثير القوميين العرب، وتطوير التعليم الحديث بتأسيس مدارس جديدة، وميلاد مؤسسات ثقافية مثل المكتبة الأهلية والنادي الأدبي في عشرينيات القرن الماضي.
تميزت هذه العقود أيضاً بظهور المؤسسات السياسية الحديثة للدولة، بما في ذلك مجلس الشورى الأول 1921 والمجلسان التشريعيان في 1938 و1939، ومجلس الشورى الثاني الذي أعقب سقوط تلك المجالس التشريعية. كما تم إنشاء مجالس أخرى لتقديم الخدمات الاجتماعية، بما في ذلك مجلس البلدية 1930، ومجلس التعليم 1936، ومجالس الصحة والأوقاف الإسلامية في الأربعينيات. ومع اتساع رقعة التعليم والوفرة المتزايدة من عوائد النفط؛ أصبح الدور التاريخي للقوى المرجحة أكثر وضوحاً، ففي التنافس بين الشيوخ والتجار على النفوذ استخدم كل من الطرفين عناصر مختلفة من "القوى المرجحة" لقلب الميزان لصالحه.
بدأت المرحلة الثالثة من تطور "القوى المرجحة" في أوائل الخمسينيات، وتزامنت مع حدثين ديناميكيين هامين في تاريخ الكويت. أولهما؛ توسع أجهزة الدولة بتعيين السلطة -مدعومة بطفرة إنتاج النفط- بعض "القوى المرجحة" مثل غواصي اللؤلؤ والبحارة، الذين كانوا سابقا موالين للتجار باعتبارهم أرباب عملهم. والثاني؛ ظهور المثقفين في طليعة حركة معارضة جديدة للسلطة، خاصة أنه في الثلاثينيات والأربعينيات تطور النظام التعليمي في الكويت بشكل ملحوظ، بعد وصول البعثات الفلسطينية والمصرية إليها. وهكذا شهدت هذه المرحلة الثالثة ظهور "القوى المرجحة" كقوة سياسية فعالة على حساب الطبقة التجارية التقليدية. وأصبح هذا واضحًا في المجلس التأسيسي لعام 1961، حيث احتل ممثلو "القوى المرجحة" أغلبيةَ مقاعدها.
وباختصار؛ يمكن تحديد ثلاث مراحل في تطور الدور السياسي "للقوى المرجحة": المرحلة الأولى؛ وهي مرحلة "التكوين" عندما كانوا من أتباع القوتين الرئيسيتين: الشيوخ والتجار، دون التمتع بالقدرة على تغيير المشهد السياسي. والمرحلة الثانية؛ هي مرحلة "النمو" حيث كان لهم مساهمة مباشرة في المشهد السياسي، رغم أنهم لم يلعبوا دوراً مباشراً في عملية صنع القرار. والمرحلة الثالثة؛ هي مرحلة "التمكين" عندما أصبحوا جزءاً من اللعبة السياسية، وكان لهم صوت في دستور 1962 ففازوا بأغلبية مقاعد الجمعية التأسيسية.
ورغم أنه كان لهذه القوى الاجتماعية -إلى جانب الشيوخ والتجار- دور حاسم في التطور الدستوري لدولة الكويت؛ فإن عملية تحديد المجموعات التي تتألف منها "القوى المرجحة" مهمة معقدة، ليس فقط لوجود درجة كبيرة من التداخل بين مختلف الفئات الاجتماعية، ولكن أيضاً لعدم وجود وثائق وإحصاءات محلية مفصلة في بعض الأحيان؛ على نحو ما بينته في كتابي عن هذا الموضوع الصادر باللغة الإنجليزية.
وفي الختام؛ نحث الباحثين على التعمق في دراسة تواريخ الخليج العربي بصورة مختلفة ونظرة غير تقليدية؛ فقد كانت "القوى المرجحة" فاعلة في تاريخ الكويت كما رأينا، ولذا على الدراسات والأبحاث التاريخية ألا تنظر لهذا التاريخ على أنه تاريخ هامشي بل تحاول إعادة صياغة ما كتب عن تاريخ الكويت تحديدا وتاريخ الخليج بشكل عام.
ومما يُطمئن في هذا الصدد؛ أن هناك جيلا جديدا من الباحثين الخليجيين صاروا متنبهين لهذه الإشكالية، فبدأ صوتهم يعلو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبعضهم نشر مقالات وكتبا لها منظور مختلف عما هو موجود في الأدبيات المكتوبة، خصوصا في العقد السابع والثامن من القرن الماضي.