هل كان هناك حبٌّ أول وحبيبٌ أول قبل أبي تمّام؟ يبدو السؤال لا معنى له للوهلة الأولى، فالحب ربّما وُجِد بوجود البشر، وغير مرتبط بشخصٍ بعينه كما لو أنّ الأمر كان اختراع العجلة. ما الذي قَدَّمه بيتا أبي تمّام المشهورَيْن إذن:
نَقِّلْ فؤادَكَ حيثُ شِئْتَ من الهوى ما الحُبُّ إلا للحبيبِ الأوَّلِ
كم منزلٍ في الأرضِ يَأْلَفُهُ الفتى وحنينُه أبدًا لأوَّلِ مَنْزِلِ
الإجابة بكل بساطة: وعي الحب الأول. ولعلّ هذا ما يقدّمه الشّعر (والفن) لنا – إن كان لهما أن يقدّما لنا شيئًا: وعينا للأشياء، ووعينا لأنفسنا. وإدراكُ وعي الحب الأول يعني إدراكَ وعينا لأنفسنا وإدراك وعينا لهذا «الآخر» الذي سيكون موضوعًا للحب بوصفه حاجةً ورغبةً وشغفًا. ولذا يكون لسؤالنا معنى، ومعنى جوهريّ؛ ربّما كان هناك مَنْ نطق بأبياتٍ شعريّة عربيّة عن الحب الأول والحبيب الأول قبل أبي تمّام، ولكنّ تمحيص المسألة واجب المؤرّخين الأدبيّين. وإلى أن نجد شاعرًا قبله، سيبقى بيتا أبي تمّام التَّجسيد الأول لوعينا بالحب الأول. تستوقفنا كلمة «الأول» التي تكتفي بالمعنى الحرفيّ المتعلّق بالأسبقيّة لا بمعنى الأفضليّة المجازيّ. الحب الأول هو ببساطة أول «تجربة» عاطفيّة يستشعر فيها المرء مشاعر جديدة لمن سيكون «المحبوب». لا يُشترَط هنا أن تكون التجربة متبادلة بالضرورة، إذ تكون معظم التجارب الأولى حبًا من طرف واحد. وبذا فإنّ مغزى الحب الأول ليس التّبادل بقدر ما تكون التجربة الأولى التي يتكوّن فيها معنى الحب، ويتكوّن فيها إدراكٌ جديدٌ لتغيّرات داخليّة قبل أن تكون مرتبطةً بهذا الآخر المحبوب. أي أنّ الحب الأول – بمعنى ما – التقاطٌ للدّهشة التي تُشكّل بدايات وعينا بالنّقص وبالحاجة إلى مَنْ يُكمّلنا. الحبّ الأول مرتبطٌ بنا لا بالآخر، ومرتبطٌ بالبدايات لا بالنّتائج. ولهذا السبب ربما نجد أنّ تلك التجربة محكومة بالنّهاية حتمًا، أي أنّ الحب الأول سيبقى حبًا أول حرفيًا، يليه تجارب أخرى وحب ثانٍ وثالث وعاشر وأكثر يتعاظمُ فيها إدراكنا لأنفسنا وإدراكنا للآخر. ما أهميّة الحب الأول إنْ كان حبًا عابرًا، أو بالأحرى افتتاحيّة لحب آخر أقوى وأكثر ديمومة؟ هنا لا بدّ من توسيع الحرفيّ إلى المجازيّ بحيث يصبح كلِّ حبٍّ لاحق حبًا أول، بمعنى استعادة براءة التّجربة واتّقادها ودهشتها؛ بمعنى ترسيخ ذاكرة الحب الأول وتمديدها لتشمل ذاكرات أيّ حب لاحق، لا بمعنى أفضليّة الحب الأول حتمًا.
وبسبب فرادة تلك التجربة الأولى، كان «الحب الأول» ثيمةً متداولة في آداب العالم كلّها. بوسعنا تحريض ذاكرتنا القرائيّة الشخصيّة، أو الاستعانة بأرشيف زمننا الحاليّ (غوغل) لنجد عشرات أو مئات الأعمال الأدبيّة التي تقوم على ثيمة الحب الأول، بل تتّخذ العبارة عنوانًا. ولكن سأتناول في هذه المقالة ثلاثة أعمال روسيّة بعنوان أوحد: «الحب الأول»، وهي بحسب تاريخ كتابتها: نوڨيلا إيڨان تورغنْيِف (1860)، وقصة إيساك بابل (1925)، وقصة ڨلاديمر نابوكوف (1948). لمَ هذه الأعمال تحديدًا؟ لا أعرف الإجابة بدقّة. ولكن لا يمكن لمقالة أن تتّسع لأكثر من ثلاثة أعمال، عدا عن الصدفة الجميلة في وجود ثلاثة أعمال روسيّة بعنوان واحد وثيمة واحدة لثلاثة كتّاب لم يترسّخوا بعد في المشهد الثقافيّ العربيّ بالمقارنة مع حضورهم خارجه.
لا نعلم ما إذا كانت نوڨيلا تورغنيف سببًا من الأسباب التي دفعت بابل ونابوكوف إلى تقديم رؤيتهما للحب الأول أيضًا، ولكنّنا نعرف إعجابهما بأعمال تورغنيف عمومًا، وبهذه النوڨيلا خصوصًا. إذ نجد لها ذكرًا خاصًا من بين أعماله على لسان نابوكوف في الفصل الذي خصّصه لتورغنيف في كتابه العظيم «محاضرات في الأدب الروسيّ». صحيحٌ أنّ نابوكوف يضع تورغنيف في المرتبة الرابعة بين عباقرة الأدب الروسيّ: يسبقه تولستوي، غوغول، تشيخوف على الترتيب (من دون أن ننسى استثناءه الفاضح وكراهيته المضحكة لدستوييڨسكي)، ولكنّ هذا لا يعني بحال من الأحوال ضآلة لأهميّته ولحضوره؛ هو كبير بين الكبار بصرف النّظر عن تفضيلاتنا الشخصيّة لأعمال كلٍّ منهم. وكذا نجد هوسًا خاصًا بها من بين أعمال تورغنيف كلّها عند بابل في واحدة من قصصه السير-ذاتيّة الأولى «في بيت الجدّة» (1915). ولكنّ المفاجأة (بل الصدمة) هي أنّ نابوكوف لا يذكر بابل ولو بحرف، بالرغم من حرص نابوكوف - الذي نصَّب نفسه بطريركًا في الأدب - على منح بركاته أو نزعها عن معظم الأسماء الأدبيّة الأهم حتّى منتصف القرن العشرين في كتابيه «آراء حادّة» (1973)، وفي جزئه الثاني الذي صدر أخيرًا قبل عدة أشهر «أفكّر، أكتب، أتحدّث» (2019).
تشترك هذه الأعمال الثلاثة في كونها نصوصًا تنهل من السيرة الذاتيّة لمؤلّفيها، وفي كونها – في الوقت ذاته – تصويرًا للسياقات المجتمعيّة التي تُؤطّر فضاءات كلّ عمل من بين هذه الأعمال. يبلغ حضور السيرة الذاتيّة في أقصاه في قصة نابوكوف (إذا سلّمنا بصدقه)، إذ نُشرت القصة مرات عديدة في أعماله، بوصفها قصة قصيرة أولًا في مجموعته «دزّينة نابوكوف» (1958)، ومن ثمّ (بعد تغيير عنوانها إلى «كوليت») بوصفها فصلًا من فصول سيرته «تكلّمي يا ذاكرة» (1966)، ومن ثمّ بوصفها قصة قصيرة من جديد بعد استعادة عنوانها الأصليّ «الحب الأول» في «القصص المجمَّعة» (1995) التي حرّرها ابنه. ويقلّ حضور السَّيَريّ لصالح الفنيّ في نوڨيلا تورغنيف الذي استند إلى تجربته الشخصيّة ولكن بعد تحويرات عديدة، بحيث بتنا نقرأ قصة ڨلاديمر پتروڨتش بطل القصة أكثر من كونها محض سيرة ذاتيّة لمؤلّها بالرغم من التقاطعات الكثيرة بين حياة البطل والمؤلّف. قصة بابل حالة غريبة لأنّها قُدّمت من مؤلّفها بوصفها أقرب إلى السيرة الذاتيّة، ولكن سنعرف لاحقًا من ابنته نتاليا بأنّ التفاصيل المذكورة في تلك «القصة السيريّة» بعيدةٌ من تفاصيل حياة إيساك بابل العائليّة الفعليّة. وبذا لا طائل من محاولة التقاط المؤلّف داخل نصه، بقدر ما ينبغي التقاط فهم كلّ مؤلّف لمعنى السيرة الذاتيّة في ذاتها. تلفتنا سنُّ بطل نوڨيلا تورغنيف، فهو في السادسة عشرة، وهي سنٌّ متأخرة بالنسبة إلى حب أول، لو قارنّاها بتجاربنا الشخصيّة من جهة، وبسنّ بطلي قصّتَيْ نابوكوف وبابل من جهة أخرى، فهما في العاشرة وهي السن الأنسب لتجربة «حب» أول. ولكنّ تورغنيف أحد أبرز الكتّاب الذين يدّونون الوعي، سواء كان وعيًا شخصيًا لفرد أو وعيًا جمعيًا لمجتمع، وبذا فإنّ سنّ السادسة عشرة تناسب أهداف تورغنيف أكثر، لأنّ تجربة الحب الأول هنا استهلالٌ أو قناع لتجربة أكبر وأعمق: الفروق الطبقيّة، ومعنى الزمن، ومعنى الأفكار التي لم يكن ابن العاشرة سيلتقطها. نابوكوف منشغل أكثر، كما في أعمال كثيرة له، بتوثيق انهيار عالمٍ قديم أجمل بالضرورة، وبنشوء عالم ثانٍ كالح. عالمه الأول هو عالم الأرستقراطيّة المتعلّمة الروسيّة قبل الثورة البولشڨية، فيما عالمه الآخر عالم المنفى القسريّ خارج روسيا. ولذا نجد أنّ نابوكوف الطفل في القصة يعيش تجربةً أقرب إلى الحُلم، بما أنّ الثورة البولشڨيّة كانت الشّمس التي ذوّبت أحلامه القديمة كلّها؛ من هنا نفهم هوس نابوكوف بطفولته، لا بكونها استعادةً لذاكرة أجمل فقط، بل بكونها استعادةً لعالم كامل. وبذا كان الحب الأول في القصة قريبًا من عالم الحكايات الخرافيّة حيث الأمير والأميرة والظروف التي تقف ضدّ حبّهما البريء الجميل. بالمقابل، لا يحفل بابل كثيرًا بانهيار عالم أو بنشوء عالم جديد بقدر ما يُدرك، في وعيه ولاوعيه، بأنّه ابن جماعة أولًا وأخيرًا، وبأنّ الذكريات الشخصيّة لا معنى لها إن لم تكن مرتبطة بالذكريات الجمعيّة. ليس مهمًا ما إذا كانت تجربة الطفل في القصة هي حياة بابل فعلًا أم لا، فالتفاصيل ليست مهمة حين يسعى بابل إلى توثيق تاريخ جماعة بأكملها. هذا الطفل، وبابل، ليسا إلا وسيلتين لتدوين تاريخ اضطهاد اليهود في روسيا، ولذا «استعار» بابل تفاصيل من حياة يهود آخرين وكتبها بكونها سيرة ذاتية له بوصفه أحد هؤلاء اليهود. وبالتالي لا نجد للحب الأول حضورًا كبيرًا في القصة برغم عنوانها الذي يُنبئ بالكثير: غاليانا، المرأة التي شكّلت الحب الأول لطفل قصة بابل، كانت تجسيدًا للحماية أكثر من كونها امرأة موضوعًا للرغبة.
حدّوتة نوڨيلا تورغنيف بسيطة: يروي ڨلاديمر پتروڨتش قصة حبّه الأول حين كان في السادسة عشرة وأحبَّ زيناييدا التي كانت في الحادية والعشرين، ليكتشف لاحقًا وجود علاقة بين أبيه وبين زيناييدا، علاقة حب حقيقيّة ناضجة، وتنتهي العلاقة بموت الأب يليه موت زيناييدا، فتنتهي قصة الحب الأول وذاكرته. هذا ما نراه على السطح، ولكن تتجلّى براعة تورغنيف في رسم العوالم الداخليّة للشّخصيات، والأهم في رسم تحوّلات وعيها لذاتها وللآخر في آن. مرةً أخرى، لم تكن سنّ السادسة عشرة اختيارًا اعتباطيًا بل هي السن الأنسب لتدوين تجربة نشوء الوعي للحب وللظروف التي ترسم قصص الحب. بمعنى ما، لا يتحدّث تورغنيف عن تجربة حب ڨلاديمر پتروڨتش بحدّ ذاتها، بقدر ما يتحدّث عنها بكونها المحور الذي تتوزّع حوله الشّخصيات والحيوات والأفكار وتجارب الوعي. يُقرّ ڨلاديمر منذ البداية بأنّ صورة المرأة لديه كانت ضبابيّة قبل تعرّفه بزيناييدا، وهذا ما نلمسه في علاقتهما التي تترسّخ فيها صورة زيناييدا بوصفها الطرف الأقوى في «العلاقة»؛ ليست علاقة بالمعنى الدقيق بل هي محاولة لتخيُّل وجود علاقة من ناحية ڨلاديمر يقابلها لعبٌ من ناحية زيناييدا تجاه ڨلاديمر وتجاه غيره من شلّة الرجال المحيطين بها. ندرك أنّ زيناييدا تتسلّى بمن هم أضعف منها، انتظارًا لرجلٍ يحطّم غرورها، حيث تجد هذا الرجل في شخصيّة پيوتر الأب الذي ندرك منذ بداية القصة أنّه تزوّج زواجًا تقليديًا لا حبّ فيه. اللافت هنا هو تعاملنا مع شخصيّتين لڨلاديمر لا ينبغي لنا الخلط بينهما: هو بطل قصة الحب الأول من جهة، وهو راوي تلك القصة من جهة أخرى؛ هو ابن السادسة عشرة من جهة، والرجل الأربعينيّ الذي يُدوّن تجربة ذلك المراهق ويُسبغ عليها وعيه الحاليّ بالضرورة، بصرف النّظر ما إذا كان هذا المراهق هو ڨلاديمر نفسه أم لا. يعيش المراهق تجربة الحب من دون اكتراث لكونها ستُتوَّج بنجاح أم لا، إذ هو يسعى ضمنيًا إلى محاولة إدراك صورة الأنثى ونسف ضبابيّتها، ولذا سنجد عبارات تقليديّة مكرورة طبيعيّة من قبيل أنّه سيبقى يحبّ زيناييدا حتى آخر يوم في حياته. ولكنّ الرجل الراوي سيضيف جملة بعدها مباشرةً حين تُقبّل زيناييدا ذلك المراهق فيقول على لسانه: «لا يعلم إلا الله مَنْ كان المقصود بتلك القبلة الوداعيّة الطويلة، ولكنّي نهلتُ من عذوبتها في نهمٍ، وأنا أعرف أنّها لن تتكرّر على الإطلاق». وستبقى النوڨيلا محكومةً بالتأرجح بين هذين الوعيين: وعي المراهق ووعي الرجل المعلّق على الأحداث الذي يتطابق أحيانًا مع وعي تورغنيف نفسه.
الجديد في قصة الحب هذه هو أنّ تورغنيف يرسم بدقّة الصراعات والتحوّلات التي تدور داخل عقل المراهق ووعيه: هو يحبّ زيناييدا أو يتخيّل أنّه يحبّها، ولكنّه لا يغفل – في الوقت ذاته – عن حقيقة أنّ حب أبيه لها وحبّها لأبيه أقوى وأعمق من حبّه الساذج بما لا يُقارَن. لا نجد أحكامًا أخلاقيّة على لسان الابن أو على لسان تورغنيف، بل على العكس نرى تقديرًا من جانب الابن للحب الناضج الذي تجري تفاصيله أمامه. يتخلّى الابن طوعًا عن دور البطولة ويرضى بدور الشاهد على قصة الحب الحقيقيّة التي تنمو أمامه. لن تكون قصة ورديّة حتمًا لأنّها محكومة بالنّهاية كأيّة قصة حب أول أخرى. ندرك أنّ ثمة ما حدث فأنهى العلاقة نهاية سيئة، من دون أن يفسّر تورغنيف الأمر بصراحة. نكتشف لاحقًا أنّ هذا الشيء المجهول تسبَّب بنوبة قلبيّة للأب ومن ثم موته، يليه سفر زيناييدا. كلُّ ما نعرفه هو أنّ الأب ترك رسالة لابنه يحذّره فيها من الحب: «احذر تلك النشوة، ذلك السمّ البطيء». وكما أنّ تورغنيف لا يرضى بأقل من بدايتين للنوڨيلا، فإنّه يقدّم لنا نهايتين متتاليتين لها، حين يواصل الابن حياته فتتقاطع مرةً أخرى مع حياة زيناييدا ولكنّه يؤجّل اللقاء بها وكأنّه يُدرك في داخله أنّ تلك القصة قد انتهت، وأنّ زيناييدا القديمة قد تلاشت، وأنّ ذلك الحب الأول مضى وانتهى حين انتهى دوره. تموت زيناييدا، فيبدأ الفتى رحلة وعيه الجديد بالموت بعد أن انتهى درس الحب، حيث «امتلأ قلبي بالخوف على زيناييدا، وتاقت نفسي للصلاة من أجلها، ومن أجل أبي – ومن أجل نفسي». تنتهي النوڨيلا هنا، فنبدأ نعي ما ضاع منا. لم يكن الحبُّ الأولُ الشاغلَ الأساسيّ لتورغنيف؛ يدوّن تورغنيف هنا قصة طبقة كاملة، وصراع طبقات وأفكار لا ينتهي، ويُزيح بقسوةٍ السّتار الذي تُسدله تلك الطّبقة على العلاقات الزائفة التي تحكم حياتها، من دون إدخال ميلودراما رخيصة تكسر صرامة الواقعيّة. لن نجد نهايات سعيدة، ولن نجد سعادةً أصلًا، لأنّها غير مهمّة بقدر ما يكون وعينا بها أو وعينا بنقصها هو المهم في عالم تورغنيف. ثمة عبارة يقولها سرغي نيكولايتش، صديق الراوي، في بداية النوڨيلا: «لم يكن لي حبٌّ أول، وإنما بدأت بحبّي الثاني»، بينما يصرّ ڨلاديمر پتروڨتش على أن يروي حكايته كتابةً، وكأنّه يدوّن وثيقةً لا ينبغي أن تُنسى. يحاول ڨلاديمر، وتورغنيف، القبض على ذاكرة جيلٍ كامل، وطبقة كاملة، وعصر كامل. ندرك حين ننهي السطر الأخير من النوڨيلا بأنّ ذلك الحب الأول لم يكن خاصًا بالابن ڨلاديمر وحده، بل هو حبٌّ أول للأب، وحبٌّ أول لزيناييدا أيضًا. حبٌّ أول في عالمٍ مضى لا بدّ من تدوين ذاكرته.
لا يُمهل إيساك بابل قارئَه، بل يباغته فورًا بعبارة افتتاحيّة «تشرح» العنوان: «حين كنتُ في العاشرة وقعتُ في حبّ امرأة اسمها غالينا أپولونوڨنا. كانت كنيتها روبستوف. وكان زوجُها، وهو ضابطٌ في الجيش، قد ذهب إلى الحرب اليابانيّة وعاد في تشرين الأول/أكتوبر 1905.» يبدو بابل للوهلة الأولى وكأنّه يحرم القارئ من أيّة فرصة لتأويل ما لا ينبغي إساءة تأويله: المكان معروف، والزمان معروف، والحدث معروف؛ حدثٌ ببداية واضحة تومئ بالتالي منطقيًا إلى وجود نهاية واضحة. لسنا أمام تشيخوف الذي يُلقي بقارئه في معمعة الأحداث ويترك له مهمّة تأويل والتقاط البداية والنهاية، إن كانت هناك حاجة إلى التقاطهما أصلًا، بل أمام كاتب يوضح لك الطريق التي ينبغي لك قطعها. هذا صحيح وخاطئ في آن. صحيح، لأنّ بابل لا يُخفي شيئًا حتّى حين يُزيح السطح الظاهريّ لقصّته؛ وخاطئ، لأنّ بابل ليس كاتبًا ساذجًا، لأنّه يُدخِلك عمدًا في عالمه الواضح، ولكنّه لا يُفلت قبضته منك إلى أن تكون قد غرقت وتورّطت. تبحث عن حب أول؟ سأقدّم لك قصة مغرية عن ولد في العاشرة يشتهي امرأة متزوجة. ولكنّ هذه القصة محض قناع لعالمٍ قاسٍ لا يرحم، عالمٍ يطأ الأحلام والطفولة والحب أكان حبًا أول أم لا. تبدأ الخيبات بالغيرة لأنّ غالينا تحب زوجها، وما من فرصة لهذا الحب الذي يتخيّله ابن العاشرة الذي يكتفي بالتلصّص والحسرة. ولكن كما باغتنا بابل في الافتتاحيّة سيباغتنا مرة ثانية حين يشدّد على تفاهة توصيف الحسرة «لأنّ حب الولد ابن العاشرة وغيرته يُشبه في كلّ ناحية من النّواحي حبَّ الرجل النّاضج وغيرته». أين الحب الأول إذن عزيزي بابل؟ سيباغتنا بابل من جديد حين يمزّق هذا الديكور الظاهريّ ويرمي بنا إلى الجحيم: روسيا واضطهاد اليهود عام 1905. نقفز مباشرةً من تلصّص لذيذ إلى تلصّص مؤلم. انقلب العالم فجأةً وباتت عائلة الراوي الطفل مُستهدفةً في ممتلكاتها وبيتها ومتجرها، بل وحتّى في أحلامها. حين يتمكّن الطفل من شراء الحَمام الذي كان يحلم به لسنوات، سيتمزّق هذا الحَمام على وجهه، كما سيتمزّق عالم الأمس كلّه. تعود غالينا هنا إلى الصورة بوصفها الجارة التي حمت العائلة اليهوديّة، ومسحت آثار دم الحَمام عن وجه الطفل. تبدو غالينا هنا أقرب إلى أيقونة مسيحيّة بالصّليب المرسوم على باب البيت، وبدفء حنانها حين تواسي الطفل الذي نسي غرائزه ومشاعره القديمة حتّى حين صار ملتصقًا بجسدها، ليبدأ مرحلةَ وعي أخرى تندمج فيها صورة المرأة المشتهاة بالمرأة المُنقذة. سيترك الطفل مدينته إلى مدينة أخرى، وسيودّع عالمه القديم. اللافت هنا هو أنّ الطفل لم يذكر اسم غالينا في ختام قصة حبّه الأول، إذ انتهى الحب بانتهاء الدور، وباتت غالينا والحب الأول ذكرى الأمس المحكوم بالنّهاية. لم يعد الحب الأول هنا ذكرى شخصيّة بل صار ذكرى جمعيّة لجماعة كاملة.
مع نابوكوف، سنرى أوضح قصص الحب الأول من بين هذه الأعمال الثلاثة، وأكثرها تطابقًا مع المعنى البسيط لـ «الحب الأول». ولكنّ الوضوح لا يعني البساطة في عالم نابوكوف. إذ لا يقدّم لنا قصة الحب مباشرةً بل يمهّد لها بوصفٍ تفصيليّ دقيقٍ وجميلٍ لعالم ما قبل الحرب العالميّة الأولى حين كان نابوكوف ما يزال طفلًا وابنًا لعائلة أرستقراطيّة قبل قدوم الحرب والبلاشڨة. سنرى توصيفًا للقطار، ولرحلة الطريق الطويلة من روسيا إلى شاطئ بيارتس في الباسك، ولمشاعر ابن العاشرة بألعابه ومشاغله الصغيرة. ولكنّ هذا العالم القديم ليس ورديًا بالمطلق، إذ نستشعر غربة نابوكوف الطفل الذي كان يقضي معظم أوقات لعبه على الشاطئ وحيدًا إلى أن جاءت كوليت. يبدأ الطفل بإدراك وعي الحب لأنّه وجد الفتاة التي ستحرّضه على هذا الوعي، والأهم أنّها ستحرّضه على إدراك وعي آخر: أنّ سعادته أكبر من سعادتها برغم وحدته. لغة نابوكوف رهيفة وتلتقط أدقّ التّفاصيل وترسمها ببراعة مدهشة. يدرك الطفل جمال عالمه حين يقارنه بعالم مَنْ هي أتعس منه، فيدوّن الكهل نابوكوف تلك الذكريات الجميلة من دون الوقوع في السنتمنتاليّة. يكتب نابوكوف بالإيماء، فنعلم أنّ أم كوليت تضربها حين تقول كولين إنّ قرصة السرطان مؤلمة كقرصة أمها، ونكتشف مدى حبّ نابوكوف لكوليت حين يقول إنّ شغفه بها يكاد يماثل شغفه بالفراشات، وهذا أكبر حب يمكن لنابوكوف أن يسبغه على أحد. يرسم لنا نابوكوف في صفحات قليلة عالمًا كاملًا نعلم أنّه سينتهي قريبًا كما الأحلام. لا ينسى نابوكوف ولعه بالسخرية حتّى في أقصى لحظات عاطفته حين يتذكّر أنّه أخرج عملةً ذهبيّة ظنَّ حينها أنّها ستكفيهما للهرب. لن يهربا طبعًا، ولكنّهما قضيا ليلةً جميلة انتهت حين جاء مربّي نابوكوف وأعادهما إلى عائلتيهما. نكتشف بعد أن تعود الحياة إلى رتابتها أنّ نابوكوف أدخَلَنا منذ اللحظة الأولى إلى ليلةٍ طويلةٍ حتّى حين يكون الجو نهارًا. نحاول تذكُّر التفاصيل فنبدو وكأنّنا عشنا ليلة حُلُميّة جميلة ثم باغتنا النّهار بضوئه الذي أحرَقَ تلك الليلة وأحلامها. كوليت هنا هي ذلك الحلم الذي انتهى بانتهاء عالم الطفولة، وبذا فقد كان الحب الأول هو الحلم الأجمل وهو العالم الأبهى قبل أن تقوم الحرب والثورة التي أرغمت نابوكوف على الرحيل إلى المنفى. كوليت الفرنسيّة، بمعنى من المعاني، هي حلم روسيا الذي تحطَّم، هي شغف نابوكوف الذي أنساه وحدته، كما ستفعل الفراشات والكتابة.
ثلاث قصص روسيّة عن الحب الأول تُوجِز على نحو ما روسيا كلّها خلال ما يقارب القرن. المفارقة هنا هي أنّ الكتّاب الثلاثة لم يكونوا روسًا بالمطلق: كان تورغنيف غربيًا أكثر من كونه روسيًا أفكارًا وكتابةً، وقضى شطرًا كبيرًا من حياته خارج روسيا؛ أُرغِم نابوكوف على العيش خارج روسيا ثلثي حياته تقريبًا، بل وانتقل إلى الكتابة باللغة الإنكليزيّة بحيث أصبح كاتبًا أميركيًا؛ أما حياة بابل فمأساويّة وكانت تُنبئ بنهاية مؤلمة منذ البداية، حين اعتُقل وأُعدِم في عهد ستالين الذي حرص على إلحاق الأعمال بصاحبها حين حظر مجرّد ذكر اسم بابل أو أيّ عمل من أعماله. هل كان حبًا أول أم لا؟ هل كان قناعًا لعالم أو طبقة أو جماعة؟ ليس هذا مهمًا، فالمهم هو النّتاج، إذ نردّد مع زيناييدا: «هذا ما بوسع الشعر أن يفعله. إنّه يحدّثنا عمّا ليس له وجود، والذي لا يكون أفضل مما هو موجود وحسب، بل أشدّ قُربًا من الحقيقة».
الإحالات
تورغنيف: الترجمة العربيّة: مواهب الكيّالي؛ الترجمة الإنگليزيّة: أيزيا برلن Isaiah Berlin.
بابل: الترجمة الإنگليزيّة: پيتر كونستانتين Peter Constantine
نابوكوف: النص الإنگليزيّ (Nabokov's Dozen; Speak, Memory; Collected Stories)