الجزائر بلاد مقدسة أم أرض دنيوية؟

الجزائر بلاد مقدسة أم أرض دنيوية؟

الجزائر بلاد مقدسة أم أرض دنيوية؟

By : Arabic Editors

غنية موفق

هزّ الحِرَاك النزاعات المتراكمة منذ الاستقلال بين المواطنين وقادتهم. في مواجهة هيمنة دكتاتورية وحدة “الشعب” الثقيلة، اقتحمت مفهوم الأخوّة -بمعناه التضامني- المجال. واسترجع الشارع وهو يرتجل مهرجانا وثنيا ضد سلطة الأقوياء ومحمولا بصور رمزية، طريقة لصنع التاريخ من خلال “الكرنفال” في هذه الأرض المتوسطية.

نادرا ما تعرضت الطبقة الحاكمة الجزائرية إلى هذا الكم من التهكم والشتم جهارا، من قايد صالح الذي وُصِفَ بـ“بوعليطة” -ـأي أبو كرش- حتى“تبون الكوكايين، حيث يجسد الرجلان ما يسمى برموز النظام. فالأول بوصفه قائد أركان الجيش وقد رافق -وفق تعبيره الخاص- الحراك في بداياته انطلاقا من وزارة الدفاع قبل أن يموت بسكتة قلبية. وكان قد أكمل المهمة التي قطعها على نفسه ضد”الإرادة الشعبية“بسد”الفراغ الدستوري" الذي خلفته الاستقالة التي فرضها على رئيس الدولة عبد العزيز بوتفليقة. ويشهد على ذلك الرجل الثاني -عبد المجيد تبون- الذي انتُخب في أسوأ الظروف ولكنه مع ذلك اليوم رئيس للجمهورية.

تشهد هذه “الشقلبة” القانونية المؤسساتية مرة أخرى على القدرة المطاطية للنظام في البقاء. ولكن في العمق ليست هناك مفاجآت مع الطغاة، هم أوفياء لأنفسهم، هم فقط استمرارية لكوميديا السلطة التي يتم تمريرها من الواحد للآخر. ولم تكن المرحلة “البوتفليقية” الطويلة ممكنة لو لم يكن هناك ما حضَّرها من قبل. إذ لا يمكن فهم ما صار عليه الحراك إذا لم نسترجع سنوات الحرب الداخلية (1991-2002) السابقة والتي جعلت عهد “البوتفليقية” ممكنا. عهد لم يكن سوى نتاجا لحربين: حرب داخلية تخفي خلفها حربا اقتصادية مدمرة مع وصول اقتصاد السوق الذي أدى إلى تحويل ضخم للأموال العامة والممتلكات العمومية، ومنها أراضي الثورة الزراعية والمجموعات الفلاحية، نحو مصالح خاصة.

عاش المجتمع الجزائري بدون ضجة هذه التجربة التاريخية ذات العنف الشديد، المتمثلة في الانتقال من اقتصاد مسير إداريا إلى ليبرالية ريعية، انتقال ترتب عنه تدمير دولة ما بعد الاستقلال ومنع فيه كل شكل من أشكال التنظيم الحر للمجتمع. كما ترتب عنه سحق لعالم الشغل ببطالة ضخمة وتوسيع الفروقات الاجتماعية والزج بملايين الأشخاص في جحيم قطاع النشاط الاقتصادي غير الرسمي. وهو عالم يتميز بقساوة كبرى وبالمذلة، فهو مجال اللا قانون بامتياز. في هذا العالم، تظهر شخصية “الحرّاق” -أي المهاجر غير الشرعي- كصورة الشهيد المطلق: قبره في البحر، ميت بلا أرض يدفن فيها، حتى كأنه غير حقيقي. تماما كما تبدو الجزائر غير حقيقية وهي حبيسة جدران إجماع شكلي يجعل منها أرضا غير معروفة، ممنوعة التفكير في ذاتها وممنوعة من تضميد جراحها. بلد يمنع فيه الحديث عن المصائب ليُمنع في آخر المطاف كل نقاش بآراء متناقضة.

بعد كل هذه المآتم المقامة على عجل وبدون عناية، خرج الجزائريات والجزائريون مزعزعين نظام الأموات حتى يسود أخيرا نظام الأحياء.

من هذا التاريخ، نشأ الفاعل الجديد الذي سمي بالإجماع -أو بالأحرى بسبب غياب تسمية أخرى ممكنة- “الحراك”. حراك يستحضر كل النزاعات المتراكمة منذ الاستقلال على الأقل، إلى يومنا هذا. إذ كيف يمكن تسمية ما لا يمكن التماسه سوى بالحركة التي يحدثها من أعماق تشكيلة اجتماعية واختراع كل ما يفاجئ؟

عن الإجماع وعن عكسه

لهذا الاختراع تاريخ:

"يمكن القول إن اختراعا كبيرا ظهر في الجزائر ابتداء من الثمانينات. وكان الربيع الأمازيغي (1980-1981) أول تعبير عنه تمت ملاحظته على المستوى الدولي، فهو أول حركة اجتماعية لم يكن إخفاؤها عن عيون الأجانب ممكنا. ولكن هذا الاختراع وجد نفسه باستمرار، وضمن كل بديل ومسعى، يواجه “دوّار الانفتاح” (المتمثل في فكرة أن المشاكل الداخلية يجب أن تحل داخليا). وأيضا بسبب الاستحالة -المعرفية أكثر منها إيديولوجية أو سياسية- في إحداث القطيعة مع القيمة الإجماع الأساسية1."

كتبت عالمة الاجتماع والباحثة الراحلة فاني كولونا هذه الأسطر في 1996. ونحن ننقلها اليوم دون أن نغير منها حرفا واحدا، كون هذه الاستحالة في الخروج عن “الإجماع” مازالت قائمة.

يذكرنا هذا الفعل المستحيل بأنه عندما نولد ونكبر في كنف ديكتاتورية “الوحدة” كأساس للأمة وسلطتها، لا يمكن التخلص منها كما ننفض الغبار عن أنفسنا. يكتب الحقوقي خالد ساطور في مدونة نافذة البصيرة عنوانها “وحدة الشعب المستحيلة”: “من ميثاق الجزائر في 1964 إلى ميثاق السلم والمصالحة في 2006 مرورا بالميثاق الوطني في 1976، كانت”وحدة الشعب“عقيدة لا تزال تستعمل إلى اليوم”.

وبالفعل لا زال توظيف عقيدة الوحدة قائما. وتلك هي المفارقة الكبرى في هذه اللحظة التاريخية: كلما تعرى النظام بفضل الحراك، كلما حُجِب هذا الأخير وراء “جمعتيته” (مظاهرات يوم الجمعة). يتم هذا الحجب من خلال ما نسميه في هذا النص بـ“الرواية المهيمنة”. رواية أعطت لنفسها مهمة مرافقة الحراك وهي تمنع بدورها كل مساءلة عن تعدديته وعن القوى الاجتماعية المختلفة التي تقطعه، والأيديولوجيات والمشاريع المتنافسة والصراعات الصماء -لكن غير العمياء- التي تدور فيه. منع يتم من خلال تلخيص هذا المسرح من الظلال والأنوار بحجم بلد كامل في العبارة المبتذلة: “هناك بطل واحد: الشعب” [شعار يعود إلى سنة 1962، مع استقلال الجزائر]، شعب واحد غير مجزّء، واقف كرجل واحد في وجه النظام.

أول من كذّب هذه الصورة النمطية هم المصورون المتحمسون لما سماه سمير سيد بــ“مدينة ديزني للصورة”. في الواقع لا وجود “لرجل واحد”، هم ملايين وكلٌ يعبر عن هويته، هم مجموعة من الهويات الجديدة والقديمة، حيث يصير كل شيء إشارة أو رسالة، من تسريحة شعر إلى لافتة فردية مكتوبة باليد إلى لون العُصابات والرايات.

من جمهورية الإخوة إلى “ثورة الابتسامة

في 22 فبراير/شباط، كانت الصورة الأولى من النوع التي تفرض نفسها، بالأسود والأبيض2، صورة تعلن عن قدوم فاعل جديد في الساحة السياسية. فهذه الانتفاضة هي لمواطنين سوداويين. دون هؤلاء، لم يكن الحراك ليوجد. أسلحتهم السياسية، الثورية، أي الجديدة تماما، تتشكل من درع “السلمية”. سلمية لدرء الحرب بين الأشقاء التي تسكننا، سلمية تحملها سواعد الإخاء. وهو إخاء يسمح بتأمين محيط الشارع وبنزع سلاح قوى الأمن في تنظيم ذاتي رائع لم يتوقف أبدا، فارضة عليهم أمنا عاما جديدا لفتح المدينة المحرمة. الطوباوية هي “جمهورية الإخوة” التي تبنى أولا في الأسفل وفي الشارع والتي تقف ضد مملكة العصابات: “جمهورية ماشي مملكة” (أي ليست مملكة). هم يطالبون بدولة الحق أكثر من دولة القانون، أي بالأخلاق أكثر من الأيديولوجيا.

 '

بسرعة، في الفاتح من مارس/آذار، أتت الصورة الثانية بالألوان: عارضة أزياء وراقصة، شابة ترتدي جينز وسترة سوداء، اكتشفتها مصورة محترفة على الشبكات الاجتماعية، تقف أمام عدسة كاميرا التصوير على قدم وردي وبذراع ممدودة نحو السماء، وخلفها مناصرون. كتب عنها موقع فرانس 24: “الصورة جابت العالم. راقصة باليه جزائرية عمرها بالكاد 17 سنة تم تخليدها من طرف مصورة وهي ترقص وسط مظاهرة في الجزائر”. تعد هذه الخالدة مثالية لنشر رسالة عالمية ومبسّطة: الجزائر هي “ثورة الابتسامة”. ويواصل المقال: “تأمل المصورة أن حركة الاحتجاج هذه ستدفع بالجزائر نحو الأعلى”.

هل يجب النظر إلى الجزائر من الأسفل أو من الأعلى؟ تلك هي مسألة الحراك. هناك سؤال آخر في الحاضر والمستقبل: هل يكون مع النساء أو بدونهن؟ فإن أظهرتهن صورة “المربع النسوي” ابتداء من 29 مارس/آذار 2019، فهي أيضا تكشف جواب المهيمنين: لم يحن الوقت بعد... لتقسيم “الشعب”، فلا جنس للامبالاة.

فلنمشِ ونبسط العالم: يصل “الشباب” وها هو مكلف بمهمة وعليه أن يخترع “جمهورية جديدة” وهي صورة أقرب للديمغرافيا منها إلى علم الاجتماع.

لكن لا مانع من التقاطها في صورة وستختار الرواية المهيمنة صورتها المتمثلة في “الطلبة” الذين دخلوا المشهد ابتداء من 26 فبراير/شباط 2019، من خلال مسيرتهم الخاصة، “مسيرة الثلاثاء”. “أصبحت الحركة الطلابية المستقلة والديمقراطية الجزائرية لاعبا سياسيا رئيسيا”، هذا ما كتبه أستاذ جامعي في جريدة “الوطن”. “وهي فاعل تاريخي في النضالات السياسية والاجتماعية التي أطلقتها الحركة الشعبية التاريخية ... من أجل تغيير النظام السياسي ... وإرساء دولة مدنية ودولة قانون في جزائر حرة ديمقراطية واجتماعية”.

كلام لا يعير أهمية لوجود صورة الشيخ بن باديس التي تشير إلى انتماء “فاعل جديد” -فاعل آخر- وهو “الباديسية النوفمبرية”، هذه المجموعة الهوياتية من اليمين المتطرف تدعي الانتماء إلى صفاء نوفمبر 19543 وإلى القيم الدينية للشيخ: “شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب”. وهي هالة تقسم العالم بين “العرب” و“الزوافة” أي “القبائل” [الأمازيغيون] الذين يشتبه بأنهم “أبناء ديغول” [أي موالون لفرنسا]. ولا يهم أيضا إن لم يعد الطلبة في موعد الثلاثاء لأن لهم امتحانات، سيواصل أولياؤهم العمل من أجلهم. 

“يتنحاوا قاع”4

طوال السنة، بنى المهيمنون روايتهم انطلاقا مما يشبههم ويطمئن سلوكهم النمطي وراحتهم، وصولا إلى صورة هذه اللافتة الأخيرة التي تعلن باسم الحراك: “مطالبنا سياسية وليست اقتصادية”.

هذا الطمس للمسألة الاجتماعية هو بمثابة توقيع لرواية سعت منذ بداية الحراك إلى فرض هيمنتها.

وفقا لهذه الرواية ليس للحراك مهمة أخرى غير بناء “دولة مدنية وليست عسكرية” (وهو مفهوم غامض بما يكفي لكي يشترك فيه الإسلامي والديمقراطي). ويتم ذلك بفضل “مرحلة انتقالية” ذات أبعاد مبهمة، لا يمكن تصورها دون مساهمة من “النظام” الذي يتعين على “الشعب” أن يواصل “ضغطه” عليه. وذلك بالتظاهر وبشرط أن “نترك جانبا كل المسائل التي تفرقنا خلال هذه المرحلة الحساسة، لأن الذي يهمنا هو أن نواصل بنفس العزم والوحدة والسلمية”5 في وقت “ينظر فيه العالم إلينا”.

“في الشارع”، “شعب” ضد “نظام”. صورة تبعث الشلل من خلال قوتها الساحرة والمضللة -في نفس الوقت- لرغبة الشارع العميقة في أن يجعل من نفسه فاعلا وإن كان مفعولا به: “يتنحاو قاع” بالعامية الجزائرية، أي فليرحلوا جميعا. في نفس الوقت يواجَه كل شكل آخر من العمل بتصوير كاريكاتوري مهين من “الأصبع الزرقاء” الملطخة بحبر الخيانة كون صاحبها “صوّت” إلى “لحّاس الرونجارس” أي لاعق الجزمة العسكرية. فكل مبتدع مشتبه فيه.

 

كيف يمكن ألا نتساءل عما يظهر أمام الملأ في بلد يعد الظهور فيه بمثابة الزج بالنفس في خطر وحيث ولد الحراك -وهذا الأمر ليس ثانويا- من نداء مجهول تم بثه عبر الشبكات الاجتماعية؟ كيف لا نتساءل عن القوى الاجتماعية التي تجعل نفسها في المركز والتي تصر على إرجاع ما هو غير متوقع -والآمل في صنع التاريخ- إلى سجن الإجماع القاتل، وذلك من نفس منطق “السلطة” التي تدّعي هذه القوى محاربتها؟

المقدّس والوهم

يكتب خالد ساطور في نفس المقال المذكور أعلاه: “تؤكد التجربة التاريخية بأنه عندما تَدَّعي حركة احتجاجية واسعة النطاق الحديث باسم”الشعب كله“، فإن هذا”الشعب“ليس سوى الاسم الذي تختاره لنفسها الطبقات المحظوظة أو الوسطى. ففي الجزائر من المحتمل أن تكون طبقة وسطى تغويها محاسن الديمقراطية الليبرالية على النمط الغربي ولكنها ما تزال أضعف من أن تعلن عن نواياها هي التي تتكلم باسم الحراك منذ 22 فبراير/شباط”.

هذه الطبقات الوسطى هي دون شك “المستفيد الأساسي من النموذج التنموي الجزائري” والتي ساهمت بصفة واسعة في تشكيله. وقد أضحت هذه المصالح مهددة اليوم، ما يجعلها تتأرجح بين “الحراك” و“النظام”، في دور المحافظ على توازنه والذي يتغذى من الصورة أكثر منه من العقل:

"وما لاشك فيه أن عصرنا (...) يفضل الصورة على الشيء ذاته، النسخة بدل الأصل، التمثيل بدل الواقع، المظهر بدل الجوهر (...) ما هو مقدس بالنسبة له هو الوهم فقط وما هو دنيوي هو الحقيقة. كلما كبر المقدس في عينه كلما صغرت الحقيقة وكبر الوهم، بحيث أن قمة الوهم هي أيضا بالنسبة له قمة المقدس.6"

ولقد خلطت الطبقات الوسطى بين فرجة هذه “الحركة المستقلة للاّ-حي” (وفق عبارة غي ديبورد) وبين الإنسانية المتزاحمة التي تتنافس حول الريع وتوابعه. وهي تحاول أن تضع العالم على رأسها بينما هو يمشي على قدميه. يتهكم مناضل مسن قائلا: “لم يفهموا أن السلطة لم تعد بحاجة إليهم، لم تعد بحاجة إلى وساطتهم. لأن اليوم في الجزائر الكل يعرف القراءة والكتابة، على عكس ما كان الحال عليه في 1950”. لم يسبق للجزائريين والجزائريات أن قرأوا بهذا الكم وناقشوا وتساءلوا: كيف يتم اقتلاع ديكتاتورية؟ بماذا نستبدلها؟ ماهي الأمة؟ ما هو الشعب؟ ماذا يقول الدستور؟ وماذا يريد الجزائريون والجزائريات؟

 

تتصادم المشاريع. ربما لا تبحث عن رعاة ولكن عن بديل للقرن الواحد والعشرين والذي يمكن أن يبدأ بالتخلص من هذه المقولة الكارثية “البطل الوحيد هو الشعب”، التي ولدت أثناء حرب التحرير الوطني قصد إسكات الحرب التي جدت بين الإخوة الذين كانوا يتصارعون على السلطة، من طرابلس إلى الجزائر، لتأسيس الحزب الوحيد، واللغة الوحيدة، والدين الوحيد، والجذور الوحيدة والاستيلاء على إرث كل النضالات وكل الشهداء، وكل المقاومات الشعبية بإعلان أنها حُلت، إلى درجة أنهم نسوا دفن الموتى كما يتطلبه الشرف، وها هم اليوم يسكنوننا. كيف يتسنى الخروج من هذه الوحدة المقدسة التي تطارد “الخائن” والزنديق لشنقه، ولكل خائنه وزنديقه؟

ربما كانت فضيلة الحراك أنه رفع القدسية عن المجال السياسي في كامل البلاد. بنأيه عن المساجد، قال الحراك إنه ينتمي إلى المجال الدنيوي وإن الجزائر هي في الأساس مجرد ملعب كرة قدم كبير تتنافس فيه فرق مكلفة بتخويف بعضها البعض. بالصرخات والرقص والجذب، ومن خلال اختراع لغة مشتركة، وهي لغة فرضت نفسها عربية وشعبية، على أن تحمل كل منها ألوانها المحددة والمميزة وأن يخرج كل واحد من الظل. وأن يقول كل واحد ما هو منبره في كنف الإخاء الذي هو نقيض الوحدة. ولتبدأ المباراة حيث لا النصر ولا الهزيمة مضمونة مسبقا شريطة تذكير الأقوياء بحدود سلطتهم، لأن التاريخ لا نهاية له. انطلاقا من هنا يمكن أن نعلن: “يا للشيطان! لكل ربه”.

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت] 

[ترجم هذا المقال من الفرنسية حميد العربي]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬