لبنان ينتفض من أجل مقاضاة جلاد معتقل الخيام

لبنان ينتفض من أجل مقاضاة جلاد معتقل الخيام

لبنان ينتفض من أجل مقاضاة جلاد معتقل الخيام

By : Arabic Editors

ضحى شمس

جروح الاحتلال الإسرائيلي لم تبرأ بعد · تعرض “العميل” عامر الفاخوري الذي كان مسؤولا عن معتقل الخيام السري في جنوب لبنان -أيام الاحتلال الإسرائيلي الذي تواصل حتى انسحابها سنة 2000- للتوقيف بمجرد عودته إلى بيروت في سبتمبر/أيلول 2019. وقد سقط الحكم الذي أصدر ضده سنة 1996 بتهمة التعامل مع العدو بفعل مرور الزمن، كما يبدو أنه تمتع بحماية ما. لكن عددا من الأسرى المحررين الذين تعرضوا للتعذيب من قبل الفاخوري في معتقل الخيام تقدموا بشكوى شخصية ضده، ما جعل إمكانية محاكمة ضد هذا المجرم واردة.

على الرغم من الأحداث الجسيمة التي تشغل اللبنانيين منذ اندلاع انتفاضتهم في17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتي لا زالت مستمرة ولو بزخم أقل، وبالرغم من انشغال المواطنين إضافة لهمومهم المعيشية المتدهورة بشكل خطير، بتداعيات إعلان «صفقة القرن» على بلادهم وعلى اللاجئين الفلسطينيين الموجودين على أراضيهم، إلا أن عيوناً كثيرة لا زالت تراقب بعين الحذر والترقب، فصول محاكمة عامر الفاخوري، العميل المشهور بلقب “جلاد معتقل الخيام”، والذي ألقي القبض عليه لدى عودته إلى لبنان في 11 سبتمبر/أيلول الماضي. وقد كان الفاخوري ضابطا في جيش لبنان الجنوبي ومسؤولا عن معتقل الخيام، أسوأ سجون إسرائيل السرية فيما كان يسمى “الشريط الحدودي” جنوب البلاد، وهي منطقة طولها 79 كيلومترا احتلتها إسرائيل ابتداء من 1978. وقد تعرض مئات الأشخاص للتعذيب في الخيام، ومنهم من اختفى.

تعددت المحاولات الأميركية لإنقاذ الفاخوري من العدالة اللبنانية، بحجة كونه يحمل، إضافة الى هويته اللبنانية وجواز سفره الإسرائيلي، الجنسية الأميركية. وهي محاولات يبدو أنها واجهت، لمرة نادرة، مقاومة قضائية قوية أدت إلى اصدار المحكمة قرارها الاتهامي ضد الفاخوري بارتكاب جرائم تصل عقوبتها الى الإعدام. ويعيد هذا الأمر طرح الجدل الذي قام حول قرار دمج الميليشيات التي حاربت مع إسرائيل بالجيش اللبناني بعد الحرب الأهلية (1975-1989)، من دون أي تدقيق او إجراءات تأهيلية لتلك الميليشيات التي لوثت أيديها بدماء اللبنانيين. إذ لم يتم ملاحقة العملاء والمتعاونين مع إسرائيل «جدياً» عبر القضاء، حتى بعد تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي سنة 2000.

شطب اسمه من لائحة المطلوبين

صعق اللبنانيون لتفاصيل الخبر الذي أضاف أن الأمن العام في المطار، وبعد التدقيق في ملف الفاخوري -المحكوم عليه 15 عاما غيابيا في 1996 بجرم التعامل مع العدو- لم يستطع احتجازه. فقد تبين أن “جهة ما” حذفت اسمه من النشرة “303” التي تعمم فيها مخابرات الجيش أسماء المطلوب القبض عليهم لدى اجتيازهم الحدود.

كل ما استطاع أمن المطار أن يقوم به هو احتجاز جواز سفر الفاخوري الأميركي، وتركه يخرج حراً، على أن يزور مديرية الأمن العام في بيروت في اليوم التالي للتدقيق، كونها تحتفظ بسجل أسماء المطلوبين من العملاء والإرهابيين حتى بعد سحب الاسم من النشرة. أما بالنسبة لعقوبته، فيبدو أنها سقطت بمرور الزمن، وفق القانون اللبناني الذي أفلت “بفضل” ثغراته الكثيرة العديد من مجرمي الحروب من القضاء.

في سفارة لبنان بواشنطن

مقابل “جهة ما” التي شطبت الاسم، يبدو أن “جهة ما” أخرى سربت الخبر. ما كان له وقع القنبلة على الرأي العام، الذي عبر بأشكال متعددة عن غضبه، خصوصاً في المنطقة التي كان الفاخوري يرتكب جرائمه فيها، أي في قرى وبلدات الجنوب. وما زاد الطين بلّة، تسريب صور تجمع الفاخوري بقائد الجيش اللبناني الحالي جوزيف عون (المحسوب على التيار الوطني الحر، حزب رئيس الجمهورية ميشال عون، والمرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية) في السفارة اللبنانية في واشنطن، أثناء احتفال السفير غابي عيسى (القريب من التيار نفسه) بمناسبة عيد الاستقلال.

هكذا، اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي برمز #لا_لعودة_العملاء و#الإعدام_لجزار_الخيام، للمطالبة بمحاكمة الفاخوري لما ارتكبه خلال إدارته للمعتقل بإشراف الشاباك (جهاز الأمن العام الإسرائيلي). وكلها جرائم ترقى لمستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية حسب القانون الدولي. إلا أن القانون اللبناني خالٍ من أي نصّ يوازي هذا الوصف والعقوبات المترتبة عليه، فقد امتنع لبنان عن تعديل قوانينه وفق الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي سبق أن وقع عليها، ومنها تلك التي كانت لتتيح توقيف الفاخوري ومحاكمته بجرائم حرب فور دخوله أراضي لبنان.

ما أن اقترح محامو فاخوري ـ وبينهم أميركية أذنت لها نقابة محامي بيروت حضور المحاكمات دون التدخل، كون الموقوف حائز على الجنسية الأميركيةـ إطلاق سراح موكلهم وفقاً لمبدأ تقادم الزمن، حتى انتفض الأسرى المحررون من معتقل الخيام لإيجاد ما يلزم قانونياً لمحاكمة الرجل ومعاقبته على جرائمه بحقهم. وقد تطوّع عدد كبير من المحامين لهذه المهمة. وهكذا ادعى هؤلاء بالحق الشخصي على الفاخوري، ومثلوا أمام القضاء للإدلاء بشهاداتهم تباعاً، وقص ما خضعوا له من تعذيب على يد العميل السابق وأعوانه، خلال جلسات التحقيق معهم وأحياناً بحضور مسؤولين إسرائيليين.

نساء يعذّبن أثناء فترة الحيض

في مقابلة مع إحدى المعتقلات النادرات اللواتي قبلن التحدث عن ظروف اعتقالهن والتحقيق -شرط عدم ذكر الاسم-، روت السيدة كيف كان الفاخوري يستمتع وأعوانه بتعذيب الأسيرات وهن في فترة الحيض. حيث كن يضربن بعنف على ظهورهن وبطونهن وأثدائهن، ما كان يتسبب بنزيف دمائهن على الأرض مختلطة بالمياه الباردة التي كن يرشقن بها طوال ساعات التعذيب، أمام هزء وسخرية الجلادين. ومع أن فعل الاغتصاب التام لم يحدث، إلا أنها تتذكر بقوة كيف كانوا يستمتعون بتعريتهن وملامستهن خلال التعذيب، إن كان ذلك عبر كابلات الكهرباء أو بقبضاتهم.

أما الأسرى الذكور، فقد كانوا يصلبون على عمود من الحديد لأيام في العراء من دون نوم أو طعام حتى توفي اثنان منهم. ولا ينسى الناجون من معتقل الخيام للفاخوري ومعاونيه رمي القنابل المسيّلة للدموع داخل الزنازين الضيقة التي لا نوافذ لها، يوم قمعوا انتفاضة للأسرى عام 1998، ما أدى إلى وفاة أسيرين وإصابة الباقين بعلل مزمنة في التنفس وإعاقات أخرى.

انتقدت المعتقلة السابقة سهى بشارة1 التي ادعت بالحق الشخصي على الفاخوري في تغريدة لها “البعض وبينهم التيار الوطني الحر، المطالبين بعودة المبعدين قسراً”، وتساءلت: “من أبعدهم بالأصل؟ وهم قد التحقوا بإرادتهم بجيش الخائن أنطوان لحد وفروا خلفه إلى إسرائيل”. وتساءلت: “كيف يمكن أن يدخل (فاخوري) إلى لبنان وتسقط عنه صفة العمالة؟ هل ان هذه صفة تسقط بمرور الزمن؟”.

تداعيات تبييض الماضي

ولم يتأخر بعض العونيين“-الذين ذُكروا بالاسم هذه المرة في تلميح لمسؤوليتهم- عن الرد بشراسة وابتذال مدهشين على تغريدة من يعتبرها اللبنانيون أيقونة المقاومة الوطنية. فقاموا بحملة”سحل“معنوي ضدها على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن اللبنانيين يتساءلون عن المسؤولية غير المباشرة لميشال عون وحزبه الذين نادوا بـ”عودة المبعدين قسراً" في عودة الفاخوري وتبييض ماضيه وذلك لأسباب طائفية -أي انتخابية.

لم يشفع لبشارة مسيحيتها عند هؤلاء المتعصبين الذين اعتبروها “خائنة للطائفة”، ما يشير إلى عمق الانقسام الهوياتي البنيوي القديم بين اللبنانيين، المترجم تارة أيديولوجياً وتارة طائفياً. وهو انقسام ازداد حدة بعد الحرب الأهلية التي انتهت بإعلان جميع من تورطوا فيها “فائزين”، أولاً بعفو عام أصدروه عن أنفسهم، ثم بحصّة في سلطة ما بعد اتفاق الطائف الذي أمضي في المملكة العربية السعودية في 1989 والذي عزز المنطق الطائفي في ممارسة السلطة.

عندما يصبح الفارّون “مبعدين قسرًا

إلا أن جملة محددة في تغريدة سهى بشارة كانت الأهم في وصف الانقسام الهوياتي لبنانياً، حين تساءلت عن معنى تعبير “المبعدين قسراً” التي تستخدمها الأحزاب المسيحية في إشارة الى من فروا بإرادتهم عشية التحرير، إلى إسرائيل خوفاً من انتقام مواطنيهم.

تجدر الإشارة الى أن هذا “الانتقام” لم يحصل ولو بأدنى مستوى، تلبية لنداء أمين عام حزب الله حسن نصر الله الذي تمنى على الأهالي يومها ترك هذا الأمر للقضاء، درءاً لفتنة كانت إسرائيل تراهن عليها بخروجها المفاجئ من دون تحذير عملائها من الجنوب. كما دعا حسن نصر الله “العائلات البريئة”، يقصد عائلات العملاء، للعودة من إسرائيل الى أرض الوطن دون خوف. وطوال السنوات التي تلت تحرير الشريط الحدودي، عاد الكثير من هؤلاء بصمت نسبي متفق عليه وطنياً، ولو على مضض شعبي، مقابل أحكام قضائية مخففة.

إلا أنه في المقابل، كان هناك من يعمل على تأجيج مظلومية طائفية مسيحية في هذا الملف، لاستخدامها سياسياً، عبر استبدال كلمة فارين بـ«مبعدين قسراً». وفي الحقيقة، لم يتطرق حزب لله طوال السنوات الفائتة (علناً على الأقل) إلى هذا العبث اللغوي، هو المعروف بدقته في التعاطي مع المصطلحات السياسية، إلى أن عاد الفاخوري. هكذا، خرج حسن نصر الله في خطاب خصص معظمه لهذه القضية ليشدد على أن «حساب العملاء يجب أن يكون شديداً وقاسياً (…) ومصطلح المبعدين إلى كيان الاحتلال خاطئ. هناك فارّون، وعلى الفارّ تسليم نفسه إلى السلطات اللبنانية إذا أراد العودة». واضاف إنّ المقاومة “تُميّز بين العميل وعائلته، وقد التزمت بهذه القواعد خلال الاحتلال (..) وسلمت العملاء للقضاء (..) وأي عميل يعود يجب أن يسلم نفسه للمخابرات كي يتمّ التحقيق معه”.

انتصار أول أمام القضاء

سمح الادعاء الشخصي بتهم “التعذيب وحبس الحرية ونقل معلومات الى العدو أضرت بمواطنين لبنانيين، فضلاً عن القتل والإخفاء القسري” للمعتقلين المحررين بتحقيق انتصار أول أمام القضاء، بعد استرداد المحكمة العسكرية قراراً سابقاً لها قضى بمرور الزمن على جرائمه. وربما كان الإخفاء القسري النقطة الأهم، كونها أتاحت لمحاميّ الادعاء أن يستفيدوا من بند “استمرار الجريمة”.

ذلك أن أحد معتقلي الخيام، علي حمزة، فُقد خلال اعتقاله، بعد أن قام فاخوري بوضعه في صندوق سيارته -وفق شهود عيان-إثر جلسة تعذيب قاسية. كما يذكر هؤلاء أن حمزة كان يصيح باسم أولاده أثناء ذلك، أي أنه كان حياً. وعليه، ووفق سجلات القيد اللبنانية، فإن حمزة لا يزال على قيد الحياة، وقد انضم أهله إلى الدعاوى المرفوعة على أمل إيضاح مصيره.

لا جرائم حرب في بلاد الحروب

يؤكد أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية د. حسن جوني أن مفهوم “جريمة الحرب” غير موجود في القانون اللبناني، شارحاً أن “القضاء العسكري قبل التحرير وبعده، كان يتخذ احكاما مخففة، وفق اتفاق بين المقاومة والجيش، لتشجيع اللبنانيين تحت الاحتلال على العودة بأحكام شكلية لغير المرتكبين” -أي عائلات العملاء. لكنه يستدرك قائلاً إن “جانباً تمادى في تخفيف تلك الأحكام حتى إن بعض المجرمين لم يحكم بأكثر من 3 أشهر!”.

أما بالنسبة للفاخوري، فهو “لن يحاكم على جرم العمالة الذي حكم به سابقاً، فهناك نص قانوني يمنع محاكمة المتهم مرتين على الجرم نفسه». لكنه ارتكب جرائم عدة بعدها كالتواصل مع العدو ومعاونته أثناء نزاع مسلح. كما أنه مثبت أنه دخل أراضي العدو وحاز، حسب أقواله هو، على الجنسية الإسرائيلية بعد فراره الى إسرائيل العام 2000. لذلك تعتبر جرائمه وحسب قانون العقوبات اللبناني وقوانين العالم أجمع: جريمة مستمرة”.

لكن، ماذا عن الولايات المتحدة التي وهبته جنسيتها وهو محكوم في بلاده بجرم العمالة؟ يجيب جوني: “هناك مبادئ عامة في القانون الدولي تتناول تعقب وتسليم مرتكبي جرائم حقوق الانسان، وحسب الفقرة ٢ من قرار الجمعية العامة 49/36 لعام 1948، يمنع حق الملجأ لأي شخص توجد أسباب جدية للظن بارتكابه جرائم حقوق إنسان وجرائم حرب”. ويشدد على أن الجنسية الأخرى التي يحملها المتهم “مهما كانت، لا تحميه من الخضوع لمحاكم بلده. فحسب قانون العقوبات اللبناني، إذا كان المجرم أو الضحية لبنانياً او وقع الجرم على الأراضي اللبنانية، فهذا يكفي لمحاكمته في لبنان”.

في الثالث من فبراير/شباط، كانت هناك جلسة تحقيق مقررة مع الفاخوري، إلا أنها أجلت “بسبب خضوعه لعلاج كيميائي من السرطان” كما قال بيان المحكمة. ولقد بدا لفترة أن الجلسات ستؤجل مراراً في ظل مماطلة جهة الدفاع ربما بانتظار الوقت المناسب لتستطيع الضغوط الأميركية إطلاق سراحه. إلا أن قاضية التحقيق العسكري أصدرت في اليوم التالي لإلغاء الجلسة قرارها الاتهامي لفاخوري بجرائم تصل عقوبتها الي الإعدام، كنوع من الإشارة الى أن المحاكمة ماضية في طريقها. كما رُفعت دعوى أخرى أمام القضاء المدني ضد الفاخوري من قبل المعتقلات المحررات، من بينهن سهى بشارة. وجب الآن انتظار ما ستؤول إليه هتان المحاكمتان اللتان قد تدومان طويلا، على أمل أن يقوم لبنان المنتفض اليوم على نظامه الفاسد، بإنصاف ضحايا هذا الجلاد.

 [تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬