جيمس وليم هاكيت (1929-2015) شاعر أميركي عُرف بتأليفه لشعر الهايكو في اللغة الإنجليزية، وبعد وفاته أُعلن عن جائزة باسم ”جائزة جيمس هاكيت الدولية السنوية للهايكو“ أدارتها جمعية الهايكو البريطانية من 1991 إلى 2009.
كتابه الأهم، والذي يضم عدداً كبيراً من قصائد الهايكو صدر بعنوان ”طريقة الهايكو“ سنة 1969. وفي مقدمة هذا الكتاب يقول الشاعر إن قصائده ليست محاكاة لقصائد الهايكو اليابانية بل إبداعات أصيلة باللغة الإنجليزية، وتعكس كل قصيدة تجربته في تأمل واستكشاف جمال الطبيعة في حديقته وفي براري أميركا.
يرى هاكيت أن العلاقة الحدسية مع الطبيعة يمكن التعبير عنها بأية لغة، وأن إحساس الهايكو بالواقعي هو الذي يبرر كونيته قبل أي شيء آخر. ومن بين كل أنواع الشعر الأخرى، الهايكو هو النوع الوحيد الذي يحمل مرآته في وجه الطبيعة، والصفة الحقيقية للهايكو هي الحيوية وحس الحياة المتجسد لا الجمال، ويجب أن يضع القارئ في ذهنه أن قصائد الهايكو لا تهدف إلى أن تسحر بفنيتها، بل تسعى إلى أن تكشف، من خلال التأمل، أعاجيب الخلق الطبيعي.
إن الشاعر كما يراه جيمس هاكيت عابد للحياة وليس خادماً للفن، ذلك أن كنز الهايكو ومحكه هو الحاضر، ونبض الحياة نفسها. فالهايكو ليس فناً أدبياً فقط، بل هو طريقة، طريقة وعي حي، تقود إلى الدهشة والمتعة، ومن خلال اكتشاف هويتنا الجوهرية، إلى التعاطف مع كل أشكال الحياة.
يشير الشاعر في مقدمة ديوانه إلى أن البشر عزلوا أنفسهم عن الطبيعة وهذا يشكل خطراً على الإنسان، وهناك سبب للأمل أن جماعات المستقبل ستبدأ بالتفكير بالحاجة الجمالية والروحية لبقية الطبيعة.
إن الهايكو حالة ذهنية، طريقة لعيش كل لحظة وكأنها الأخيرة، ولتحسين نوعية تجربتنا في الحياة، كما يقول الشاعر. وفي النهاية أن يعيش المرء بوعي الهايكو أهم بكثير من تأليفه لهذا النوع من الشعر.
***
أشجارُ الكينا
بكثافة اخضرارها تهمسُ….
عِطْرَ الصيف.
لعبةُ الجندب:
يحطُّ على رأس ورقةِ عشبٍ
ثم يمتطي التأرجح.
يتوقّف التفكيرُ الآن
يمنح الذهنُ الانتباهَ للعين:
عالمُ الخريف.
الزهرةُ التي لا اسم لها
التي تغطي المرج هي
لونٌ أصفر تستطيع تذوّقه.
في مسكنٍ فوق الغيوم
هناك تعيش
العزلةُ القديمة.
يصارعُ النسرُ
كي يحلّق، وحالما يصبح في الأعالي
نادراً ما يخفق جناحيه.
تتألّف من الحصى
وأوراق الخريف والظلال المتبدلة:
ضفةُ هذا الجدول.
الفجْر في غاية الهدوء
لكنّ أوراق الأشجار العالية
تكشف عن حضوره.
لم يسبق أن شعر النسر بوحدة أكبر
من التي يشعرُ بها الآن
محاطاً بالغربان الناعقة.
وَرَقةٌ في الجدول
تلتفّ وتدور فجأةً
ثم تختفي.
يلتفتُ النسْر كي يرى
لكنّ عينه الباحثة تُصبح
مرآةً للشمس.
ما إن يصبح النسر
صديقاً للريح التي في القمة
حتى يصير تحليقه سهلاً.
شعرتُ بالملل على الفور
فركعتُ للأزهار البرية
ولجميع أعاجيبها.
طائرٌ طنّانٌ يحوم
كي يتذوّق الأزهار، يضيع
في دوران التويجات.
إسهامُ الإنسان
في هذه البركة الجبلية الهادئة:
علبةُ بيرةٍ قديمة.
الصخورُ والأوراقُ تمنحُ صوتاً
لهذا النبع الصامت، والبرك المائية
التي تعكس القمر.
كل ريح متموّجة
تعكس في مجرى النهر
نموذجها الضوئي.
يتضوّعُ النسيم الربيعي اللطيف
عطراً الآن
من عالم آخر ما.
صاح طفلُها:
”انظري إلى تلك اليرقة الجميلة“
لكنها لم تفعل ذلك أبداً.
هبّة الريح
تلك التي تجرّب ذاك القميص
تحتاج إلى واحد بمقاسٍ أكبر.
الدوّامة العالقةُ
في كومة الأوراق
يجب أن تصلَ إلى السماء.
الآن، ريحٌ مندفعة
تكنس الأوراق من الأشجار والأرض
وتخلطها ثانية.
خلفَ هذا الجبل
الذي يُجْهد اتساعهُ العين
عالمٌ من الخريف.
باحثاً وهو يمتطي الريح،
صيحة النسر….
هي شكلُ منقاره.
ممرٌّ خريفيٌّ عميق،
حيث لا يمكن أن تشاهد أحداً…
وحدةٌ قديمة.
مساءٌ خريفيٌّ…
إن وزنَ وحجم هذه اللحظة
جرسٌ بعيد.
على حافة الجدول
ورقةٌ تندفع دون يقين
فقط للحظة.
فجأة،ً
تصبح جميع الطيور صمتاً…
صوت السقوط.
هكذا يبدو العالم واقعياً،
لكن خلف هذه اللحظة الثابتة
ما الذي ليس حلماً؟
بعد أن كنست الريحُ
انعكاسي، لم أعد أرى أي شيء
إلا التدفق المتواصل.
ورقةٌ في الجدول
تغوصُ ببطء في التيار
نحو البركة الأعمق.
عاصفةٌ خريفية:
إن هذا العالم المضطرب
ملعبٌ للريح فحسب.
العصافير في هذه العاصفة
تطير إلى شجرةٍ بلا أوراق
وتتمسّك بهدوئها.
انعكاساتٌ شتائية…
لكن عميقاً في الجدول
وهج الخريف.
خلف كلّ ورقة تضيئها الشمس
في هذه الكرمة: الشكلُ الظليُّ
لأخرى في الخلف.
قطرةُ ندى طويلة
تسقط، تتدحرج من ورقة إلى أخرى،
ثم تغور في الأرض.
صباحٌ شديد البرودة:
عصافير الدوري تجلس معاً
دون أية أعناق.
تعالوا! انظروا كيف أن الثلج الطازج
أصمتَ جميع حواف
هذه الليلة المقمرة.
أشاهد ثلجاً جديداً….
شكْلُ وحدتي،
كلّ نفسٍ شتائي.
في هذا الثلج الصامت،
كل خطوة ساحقة يتردد صداها بجفافٍ
في أسناني.
موعظة أخرى:
تنبعث عبْر الكلمات دون نهاية
رائحة البن.
شمسٌ دافئة… واحداً واحداً
تقفز أغصان شجرة الأرز مرتدةً
إلى محيطها.
الربيع! طائر الدخْلة يغرّد
بغزارةٍ تُفرد
جناحيها أحياناً.
نزْلٌ جبلي قديم…
مقهى بأرضية خشبية من الأشعة
وشمس الصباح الربيعية.
اسكتشات من موضوعات ريفية…
الأغنية الخاصة للفتاة
التي تحضر لنا الشاي.
الأخضر الشفيف لهذه
الأوراق الجديدة بين الأزهار
يسرُّ الأصابع.
الأزهار التي تُمسك بالنحلات
ترحلُ الآن مع النسيم العليل
من أجنحة الفراشات.
في هذه السماء الخالية من الغيوم
البتلات المتطايرة وحْدها
تفسحُ مجالاً للريح.
كلُّ إزهارٍ مضاء بالشمس
يصبح أكثر ندرةً حين يُشاهَد
إزاء مصيره.
يستيقظُ… بين الأعشاب
والأزهار البرية المتألقة بالندى:
شروق الشمس فوق الجبال.
موقفاً شدْوه العذب
يَسْلَح طائر نقار الخشب،
ثم يواصل شدوه من جديد.
داخل البذرة المجوفة،
وطول الوقت حولها:
شكلُ الفراغ.
حين يرنّ جرس الشفق،
تسقط البتلات في الجدول المظلم
كاشفةً تدفقه.
قطرة الندى الطويلة تلك
لا بد أن ما أمسك بها
هو انتباهي وحده.
بعد ليلةٍ من الريح،
يقف الشتاء في جميع الأمكنة…
على أرض خريفية.
الأيّل الجريح يشرب،
ويصبح انعكاسه
غيمةً قرمزية…
عزلة الشتاء….
صدر النسر المنتظر
ينتفخ مع كل هبة ريح.
الثلوج المتساقطة بعذوبة
تضع فوق الأيل الهادئ
رداء من التجانس.
جدول مدلهم من الثلوج:
قمر أصفر على غصن
يذوب… في قمرٍ.
يتريّث دوماً
في طعْم الجوز:
خريفٌ عميق.
[ترجمة أسامة إسبر]