أحمد خالد توفيق (1962-2018) اسم إشكاليّ في عالم الأدب العربيّ. قرأه كثيرون، وسمع عنه عدد هائل ما تزال نسبة كبيرة منهم يرفضون الاعتراف بمجرّد معرفتهم باسمه. ولعلّه الكاتب العربيّ الأول (الوحيد؟) الذي بات «كاتب كَلْت» (cult writer)، له جمهوره المتحمّس إلى درجة التعصّب أحيانًا، وله كارهوه الذين يأنفون من مجرّد طرح اسمه. لعل بوسعنا إضافة اسم نبيل فاروق أيضًا إلى عالم الكَلْت، ولكنّ فاروق – بمعزل عن كونه كاتبًا متوسط المستوى في أفضل الأحوال - كتب في مجال كان مفتوحًا أصلًا وإنْ ليس لكتّاب كثيرين: أدب الخيال العلميّ وعالم المخابرات؛ إذ لدينا قبله رؤوف وصفي وطالب عمران وصالح مرسي من بين عديدين آخرين، ولكنّ ميزة أحمد خالد توفيق هو دخوله (وتأسيسه ربما) في مجال بِكْرٍ في الأدب العربيّ: أدب الرعب والميتافيزيقا، إضافة إلى الخيال العلميّ الذي حصره غالبًا في مجال عوالم القراءة الموازية: ماذا لو تمكنّا من العيش داخل كتبنا المفضّلة؟ انتقل توفيق في العقد الأخير من حياته إلى الكتابة «الجادة» (كما يفضّل المهووسون بتصنيف الأدب)، أي إلى كتابة الروايات المتعارف عليها، ليرسّخ فرعًا جديدًا في الرواية العربيّة سبق أن كتب فيه آخرون ولكن كان له فضل التكريس، أعني «أدب الدستوبيا» الذي كاد يصبح مجال الكتابة الأوحد الآن لدى كتّاب كثيرين. شخصيًا، أفضّل سلاسله القديمة الموجّهة إلى الفتيان، وأرى أنّ رواياته اللاحقة أقل مستوى بكثير من أعماله الأولى، ربما باستثناء روايتَيْ السنجة (2012)، وبدرجة أقل يوتوبيا (2008). أسباب إشكاليّة توفيق كثيرة منها ما هو مرتبط بالكتابة في مجال مرتبط بـ «أدب الجانْر»، ومنها غزارة إنتاجه الهائلة وتنوّعها إذ كتب أكثر من 200 كتاب لا بدّ من وجود تفاوت فيها بالضرورة، ومنها ما يرتبط بشهرته الساحقة بين الشباب الذين طوّبوه «عرّابًا». ولكنّ تلك الإشكاليّة تحوّلت أحيانًا إلى كراهية غريبة لدى كتّاب شباب وكتّاب مكرّسين على السواء هاجموا توفيق لأسباب لا يتحمّل مسؤوليتها، فالكاتب ليس مسؤولًا عن الألقاب التي يُسبغها عليه قرّاؤه، أو عن شهرته وانتشاره، أو عن الجمهور المولع بالاقتباسات. ولعلّ السبب الحقيقيّ في تلك الكراهية هي أنّ توفيق نجح بدرجةٍ مدهشة في مناغمة مجالين متضادّين في عالم الأدب، وفي إنتاج كتب كثيرة أهم وأجمل بما لا يُقاس من معظم النتاجات العربيّة السائدة. الشّهرة مزعجة لكثيرين، وحين تكون تلك الشّهرة شهرة مستحقّة لنتاجٍ مُسْتحَقّ، سيتحول الانزعاج إلى كراهية. تلك طبيعة الأمور، وليس هذا موضوعنا على أيّة حال.
كتب توفيق سلاسل عديدة يهمّني منها هنا سلسلة سافاري (1996-2018) التي شكّلت ثورةً حتّى ضمن مجال كتابته، إذ أضاف الطب والسياسة إلى عوالمه القديمة لتكون النتيجة خلطةً مغريةً غريبةً موفّقة في معظم أعدادها التي تجاوزت 50 كتابًا، ولعلها المنافس الوحيد لسلسلته الأشهر والأفضل ما وراء الطبيعة (1992-2014). نَهَلَ توفيق في سلسلته الجديدة من تخصّصه العلميّ في طب المناطق الحارة ليكتب مغامرات طبيب مصريّ شاب يعمل في مؤسسة طبيّة دوليّة في أفريقيا، وبذا عرّف شريحةً كبيرةً من القرّاء غير المتخصّصين بعالمٍ لم يكونوا ليعرفوه في الغالب لولا تلك السلسلة: عالم الاضطرابات السياسيّة، والفقر، والأدغال، والمرتزقة، والحروب اليوميّة أكانت عسكريّة أو اقتصاديّة أو صحيّة، علاوةً على معنى أن تكون طبيبًا شابًا في بيئة غريبة. قرأنا عن المافيا العسكريّة في سافاري وعن مافيا تجارة الأعضاء ومافيا صيد الحيوانات، وقرأنا أيضًا عن مافيا شركات الأدوية. وفي هذه الأيام التي بات فيها اسم ڨيروس كورونا هو الاسم الأكثر تداولًا في العالم، استعاد قرّاء كثيرون الأعمال الأدبيّة التي تناولت الأوبئة، وهي فرصة لاستعادة أعمال أحمد خالد توفيق أيضًا لأنّها – من جهة – أكثر ارتباطًا بما يحدث الآن، ومن جهة ثانية لا تقل أهميّة أدبيّة عن الأعمال الأخرى إنْ لم تَفُقْ بعضها. ثمّة سحر غريب (بالنسبة إليّ على الأقل) في سلسلة سافاري، إذ أستعيد دومًا عددها الأول الوباء كلما قرأتُ عن جائحة أو وباء ڨيروسيّ. ولو أعدنا قراءة ثلاثة أعداد من السلسلة: الوباء، عن الطيور نحكي، الموت الأصفر، سنكون أمام أعمال شديدة الارتباط بما يحدث الآن وبما سيحدث في المستقبل لامحالة. لن تدمّرنا الحروب على الأغلب كما يتوقّع كثيرون، ولا النيزك المنتَظر كما أتمنّى، ولكنّ صراعنا مع الڨيروسات لن ينتهي إلا بانتهاء أحد الطرفين. إنْ كانت الغلبة للطرف الأقوى والأذكى، فلنبدأ بترديد صلواتنا فورًا، فالمسألة مسألة وقت فقط!
ثمة مفارقة كبرى في أدب توفيق، إذ تغيب نقطة تميّزه الأبرز عن أذهان محبّيه وكارهيه على السواء: التجريب الدائم. ما من أسلوب سرديّ غاب عن عالم توفيق في كتبه الكثيرة، ولم يركن يومًا إلى الطريق الأسهل في الكتابة، أكان هذا عبر اللجوء إلى أسلوب تقليديّ، أو إلى أسلوب «حبس الأنفاس» (cliff-hanger)، بل كان يسعى دومًا إلى تقديم وصفات كتابيّة جديدة بارعة انتحلها كثيرون لاحقًا (ومنهم هو نفسه في رواياته اللاحقة) ولكن بنتائج مخيّبة معظم الأحيان. في الكتب الثلاثة التي سأتناولها هنا نجد ثلاثة أساليب مختلفة: استخدم أسلوب المونتاج السينمائيّ في الوباء، والريبورتاج الصحفيّ في عن الطيور نحكي، والرسائل الممزوجة باليوميّات في الموت الأصفر. وتحدّث عن ثلاثة أوبئة، اثنان معروفان: إنفلونزا الخنازير والطيور (عن الطيور نحكي)، الحمّى الصفراء (الموت الأصفر)؛ وواحد ابتكره هو: «كافاموجورو» أو «العيون التي تنزف دمًا» (الوباء). وبالرغم من التوجّه العلميّ والمنطقيّ الصارم الذي يسم السلسلة، والمعلومات الحقيقيّة الكثيرة التي تصل أحيانًا إلى درجة مبالغ فيها، إلا أنّ توفيق يربط الأوبئة بفاعل بشريّ دومًا. ليست نظريّة مؤامرة بالمعنى الضيّق، بل نجد أنفسنا محتارين بين حدَّيْ سلاح العلم، وكأنّه يومئ دومًا إلى أنّ الڨيروسات - لو تُركت وشأنها - ستتطوّر بمعدّل أبطأ مما يحدث في الواقع حين يتدخّل البشر، أو كأنّ الڨيروسات نوعان بدرجتي إيذاء مختلفة: النوع الأول «الطبيعيّ»، والنوع الآخر الأشدّ إيذاء حين تتلاعب به أيدي البشر. في الوباء، والموت الأصفر، نحن أمام حالتين واضحتين من الڨيروسات المُخلَّقة معمليًا؛ وحتّى حين يكون الڨيروس طبيعيًا في الحالة الثالثة (عن الطيور نحكي)، يصرّ توفيق على إدخال يد بشريّة غير مباشرة ساهمت بإهمالها وجشعها في إطلاق العقال للڨيروس الهاجع. لا يُخفي توفيق نزعته الأخلاقيّة في كتاباته، إذ يمكن لأيّ قارئ أخذ صورة عامة صحيحة عن الكاتب من دون الحاجة إلى لقائه شخصيًا. لا أعني تماهي الكاتب مع أبطاله، برغم نقاط التماثل الكثيرة بينه وبين بطليه الأشهر: رفعت إسماعيل وعلاء عبد العظيم، بل أعني أنّ آراءه (أو بعضها على الأقل) السياسيّة والدينيّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة مبثوثةٌ بوضوح بين ثنايا حكاياته. المجرم الأكبر، بالنسبة إلى أحمد خالد توفيق، هو الإنسان، فهو مرعب أكثر من أيّ وحش ميتافيزيقيّ ومتوحّش أكثر من أيّ داء. أما الطرف الآخر في الصراع فهو الإنسان أيضًا حين يحاول إعادة الأمور إلى توازنها المعتاد بحيث تعود صورة الصراع الأولى: إنسان ضد طبيعة، من دون أن يُغفِل الكاتب دور التدخّل الإلهيّ، أو «رحمة الله» كما يكرّر دومًا، إذ هي وحدها التي ستنقذ العالم من دماره، أو ستخفّف ذلك الدمار على الأقل، وما الإنسان الخيّر إلا أداة لرحمة الله تلك.
يتناول كتابا الوباء والموت الأصفر نوعين من الحميّات النزفيّة، ولكن لن أركّز عليهما كثيرًا لأنّهما بعيدان بعض الشيء من الوباء الحاليّ (نتناولهما بالتفصيل مع جائحة قادمة!)، ولكنّ قراءتهما تفيدنا في فهم عالم علاء عبد العظيم بطل السلسلة، وعالم أحمد خالد توفيق نفسه. يقدّم توفيق في الكتابين صورتَيْ الإنسان المتضادّتين: الخيّر والشرير. لا يغيب عن ذهن الكاتب هذا التبسيط الأقرب للسذاجة في معالجة العالم بتعقيداته الكثيرة، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ السلسلة موجّهة إلى الفتيان أولًا، وتركّز على البعد العلميّ الطبيّ ثانيًا، وبذا لن نجد فيها تحليلًا عميقًا للشخوص ودوافعها كما يحدث في الروايات «الجادّة». وبما أنّ عالم السلسلة محصور أغلب الأحيان ضمن عالم مؤسسة سافاري نفسها، سيكون نموذجا الإنسان من الأطباء بالضرورة. سنرى صورة الطبيب الخيّر في أطباء عديدين قدموا من بلدان مختلفة إلى أفريقيا لأسباب كثيرة منها ما يتّصل بمساعدة الناس ومنها ما يتّصل بشغفهم العلميّ الذي لا سبيل إلى إشباعه. أبطال هذا العالم أطباء أشبه بالجنود في رحلة حرب يوميّة مع الأمراض التي لا تنتهي، ولذا نرى عبارة بسيطة تلخّص الموقف بأكمله: «لا بدّ من أن يخاطر أحد». ولكنّنا سنجد تطوّرًا بطبيعة الحال بين هذين الكتابين، فالبساطة الشديدة التي تسم العدد الأول، ستتعقّد أكثر لتصل إلى درجة براعة معقولة في العدد رقم 53، وهي سمة تميّز أعمال توفيق عمومًا التي ترسم منحنى بيانيًا يتناوب فيه الصعود والهبوط من حيث الجماليّات، ولكنّ براعة الكتابة تتزايد مع تتابع الكتب. في هذا العالم الثنائيّ المرسوم بدرجتين واضحتين من الأبيض والأسود، سنتعرّف إلى عالم الطب المظلم حيث الصفقات والجشع والشر. نجده شرًا «ساذجًا» في الوباء يتمثّل في شخصيّة الطبيب ميشيل جوبير الذي يساهم في تخليق سلالة جديدة من ڨيروس إيبولا لقاء مبالغ ماليّة مرعبة. يمثّل جوبير (الذي لا يظهر في الكتاب بل نقرؤه بألسنة الشخصيات الأخرى) شخصيّة الأنانيّ الجشع الكلاسيكيّة حيث يردّد عبارته: «لو خيّروني بين دمّل في أنفي وبين أن تزول نيكاراغوا من على الخارطة لما تردّدتُ لحظة. دمامل الأنف مؤلمة للغاية». ولكنّ شخصيّة الشرير ستتطوّر أكثر في الموت الأصفر، إذ يترك لها الكاتب مساحةً تعبّر فيها على هواها ولكن بدرجة مضبوطة كيلا تنكشف الحبكة. ليس المال هو ما يدفع ناجوياما لاستغلال فرصة وجود ڨيروس جديد لا يستجيب للقاح، بل الدافع إرهابيّ صرف: الإيذاء للإيذاء. ليست أفضل المعالجات الأدبيّة لشخصيّة الإرهابيّ بكل تأكيد، ولكنّنا انتقلنا إلى مستوى آخر في سلسلة سافاري يجعلها أقرب إلى القارئ الذي تطوَّر أيضًا مع تتابع الأيام ولم تعد كتب توفيق هي نافذته الوحيدة على العالم في ظل وجود الإنترنت.
الإنسان قد يصبح أقذر الشرور. هذا كله جميل وعميق ويستحق نقاشات طويلة عن الفِطْرة والجبلّة وما إلى ذلك من أمور لاهوتيّة وفلسفيّة وسيكولوجيّة. ولكن ماذا لو أزحنا الإنسان وشروره عن الصورة؟ ماذا لو أفردنا الخشبة كلّها للڨيروسات فقط؟ الڨيروسات الطبيعيّة اللطيفة التي لم يتدخّل الإنسان في سيرورة تطوّرها؟ هذه النقطة هي محور كتاب عن الطيور نحكي، وهو أحد أفضل وأجمل كتب سلسلة سافاري. لم يكن توفيق أول من كتب عن الڨيروسات التنفّسية ولن يكون آخر من سيكتب. هناك سيناريوهات لا حصر لها لڨيروسات لا حصر لها في الأدب والسينما، ورأينا وسنرى اقتباسات منزوعة من سياقها، وأخرى ضمن سياقها عن الأمراض ونهاية والعالم. ليس هذا مهمًا، وليست غاية الأدب (إن كان له غاية) أن يتنبّأ، ولكن لعلّ من سماته التركيز على تلك التفاصيل النافلة التي يهملها البشر العاديّون، وتكبيرها كي يراها الجميع بوضوح. يتناول كتاب عن الطيور نحكي ڨيروس H1N1 (إنفلونزا الخنازير)، ورحلتين تدوران بالتوازي بين ألاسكا والكاميرون. رحلة ألاسكا علميّة تصوّر بحث عالم الڨيروسات الأميركي جفري تاوبنبرغر وعلماء آخرين لاكتشاف الڨيروس المسؤول عن «الوباء الإسبانيّ» الذي أطاح بثلاثين مليونًا من البشر عام 1918، ويهدّد دومًا بالعودة بأشكال عديدة؛ والرحلة الأخرى محليّة في الكاميرون حيث يعمل بطلنا علاء عبد العظيم، وحيث تظهر حالات إنفلونزا طيور مريبة في بلدٍ يحمل معظم المقوّمات التي تجعل حدوث وباءٍ كهذا أمرًا مستبعدًا جدًا. لو أردنا نبش الاقتباسات لتبيان أهميّة الكتاب وخطورة ما نتحدّث عنه، يمكن لنا ببساطة إدراج عشرات الاقتباسات، ولكن – مرة أخرى – ليس هذا مهمًا. ولكنّ المهم والمميّز هنا تحديدًا هو نجاح أحمد خالد توفيق في تقديم حكاية ممتعة ومرعبة بات فيها الإنسان الشرير كومبارسًا أو ربّما ممثّلًا ثانويًا في صراعٍ يكون الحضور كلّه فيها للڨيروسات. سؤال «ماذا لو؟» لن يُستنفَد في أدب الخيال العلميّ، وهو أحد الأسئلة الأبرز التي يقوم عليها نتاج توفيق، ولكنّه يطرح السؤال ويمزجه مع خيوط علميّة وتاريخيّة وحبكة بوليسيّة لا تخلو من السياسة ليقدّم لنا كتابًا يستحق إعادة قراءة في أيامنا هذه.
ماذا لو عاد الوباء الإسبانيّ مرةً أخرى؟ لا معنى للسؤال ربما لو كان الڨيروس سيعود بثيابه القديمة ذاتها، وبأسلحته التي أكلها الصدأ طوال قرن كامل. ولكنّ الڨيروسات ليست غبيّة، إذ ها قد جاءنا ابن عم الوباء الإسبانيّ أو ابن خاله، وستعود – حين تقرّر العودة – بأشكال جديدة دومًا. حرب الأحفاد لو جاز التعبير. وفي واقع الحال، نشهد سنويًا غزوات متقطّعة لهذه الڨيروسات التي بتنا نعرفها باسم إنفلونزا الخنازير وإنفلونزا الطيور، وغزوات أقلّ تقطّعًا للڨيروسات التاجيّة. ولكن ماذا لو عادت في غزوة قويّة ومنظّمة هذه المرة؟ ماذا لو غيّرت من تركيبتها وباتت سلاحًا لا يُقهَر، بمعزل عن الإنسان الشرير الذي سيبدو شديد السذاجة بالمقارنة مع كائنٍ لا ينفع معه مال أو منصب أو ترقية، ولا يهجم بدافع دينيّ أو سياسيّ؟ هي تلك الحرب الأزليّة التي تقوم على مبدأ بسيط: البقاء للأصلح. سيهرع الناس طبعًا إلى التحذلق: ماذا لو قتلنا الدواجن كلّها؟ والخنازير أيضًا؟ سؤال أحمق يصلح لرواية بائسة، لأنّنا سنتحوّل من العبث بكائن لننتقل إلى العبث بكائن آخر وسندمّر توازن الطبيعة على أيّة حال. ما الذي بوسعنا فعله إذن؟ اللطم مفيد في هذه الحالات، وكذا هو استعادة الوجه المسكين البريء الذي نتقن استخدامه في المصائب: «يا لهذه الڨيروسات المتوحّشة التي لا تلتزم بقواعد اللعب!». نقولها ونحن نتابع بجذل رحلاتنا إلى كواكب أخرى نراها حقًا مشروعًا لنا بوصفنا «الأصلح والأقوى»، علاوةً على حروبنا الأرضيّة اليوميّة بأسلحتنا «الكول» غير المتوحّشة. وحتّى لو افترضنا جدلًا إمكانيّة نسف الدواجن والخنازير من الصورة تمامًا، لا شيء يضمن لنا أنّ الڨيروس لن يطوّر نفسه بحيث يستوطن حيوانًا جديدًا إنْ لم يكن قد وصل إلى مرحلة استيطان الجسد البشريّ مباشرةً، انطلاقًا من أيّ طائر بريء المظهر في كوكبنا الجميل. وفي واقع الحال، بدأ رعب العلماء لأنّ الڨيروس تمكّن أحيانًا من حذف مرحلة الخنزير وبات قادرًا على الانتقال من الطيور إلى البشر مباشرةً، بلا أيّ وسيط أبله.
«نهاية العالم يمكن أن تبدأ الآن. ليس بفعل نضوب الطاقة أو الحرب الذريّة كما يحلو لكتّاب الخيال العلميّ أن يتصوّروا، ولكنها تبدأ من بلدة صغيرة». كلّ بلدة من بلدات هذا العالم تصلح لانطلاق سيناريو النهاية. يركّز توفيق في كتابه، كما يركّز كثيرون اليوم، على جنوب شرق آسيا، حيث «يُخفي كلّ فلّاح صينيّ في حظيرته مختبرًا خطيرًا للتجارب البيولوجيّة». نعم، لعل هذا صحيح. ولكنّ تلك المختبرات موجودة في كلّ مزرعة نعرفها. لعلّ الخنزير غير موجود دومًا، ولكنّنا نتصرّف وكأنّ خصمنا سيلتزم بقواعد اللعب، أو كأنّ الوباء لا بدّ أن يتكرّر بحذافيره. ماذا عن الخراف، أو الأبقار، أو الإبل؟ أكاد أسمع لطم النباتيّين الآن الذين يشتمون آكلي اللحوم لأنّهم سبب كل مصيبة. ولكنّ الأمور ليست بهذه السذاجة، عدا عن أنّ سيناريوهات الخوف لن تنتهي. ولا أظنّ أن جائحة خراف تضاعفت إلى عدد مرعب ستكون أرحم من جائحة ڨيروسات؛ الحقيقة أنّها ستكون كوميديّة أكثر: غزو الخراف! ربّما كانت الصين مصدر خطر دائم كما يصرّ البعض، ولعلّ المتحمّسين منهم يودّون حذفها عن الخارطة، ولكنّ الأمور لا تسير بهذا المنطق. فالحذف لن يُنهي صراعنا. لا أحد يعلم إنْ كان هذا سيبطئه، ولكنّ الأرجح هو أنّه سيغيّره بالكامل لنصبح أمام أنواع جديدة من الڨيروسات لم نكن قد سمعنا عنها من قبل.
يُنهي أحمد خالد توفيق كتابه عن الطيور نحكي نهاية سعيدة إذ تمكّنت وحدة سافاري من احتواء الڨيروس، ولكنّه يطرح سؤالًا يجعل النهاية أقل سعادة حين يتساءل عن مصدر الڨيروس الذي سيهاجمنا لا محالة. الأمر خارج نطاق عملهم في سافاري، وهو خارج نطاق عملنا طبعًا، ولعلّ الحل سيظهر في معمل يتمكّن من اكتشاف لقاح سريع لكلّ ڨيروس جديد. أو ربّما ليس لنا إلا رحمة الله كما يردّد توفيق. سيناريو النيزك أجمل، ولكن لا أحد يودّ تصديقي!