المحجبات في فرنسا: المشاريع الخاصة ضد التمييز

المحجبات في فرنسا: المشاريع الخاصة ضد التمييز

المحجبات في فرنسا: المشاريع الخاصة ضد التمييز

By : Arabic Editors

أريانا مظفري

في فرنسا، تتعرض المحجبات للتمييز المجتمعي وكذلك للتمييز المهني، وهي ظاهرة غير قانونية ولكن يصعب كفاحها. ولولوج سوق الشغل رغم كل هذه الصعوبات، تحاول بعض النساء بعض مشاريعها الخاصة.

ونحن على أبواب الدورة العشرين للاجتماع السنوي للمسلمين في فرنسا، نذكر لقاءنا السنة الماضية في نفس هذه الفترة برتيبة زهدلي، امرأة محجبة تبلغ من العمر 33 سنة، كانت تبتسم بفخر أمام الزبائن الذين كانوا يمرون بمكان عرضها. بعد عامين من الأبحاث لتطوير منتوجها، تمكنت رتيبة من اقتراح بضاعة على مسلمي فرنسا كانت الأسواق تفتقر إليها إلى حد الآن، وهي الأغذية الحلال للأطفال.

تقول إحدى حرفاء رتيبة التي كانت متشوقة لاقتناء هذه الأغذية لابنتها: “لم يكن بوسعي من قبل إلا اقتناء الأغذية المصنوعة بالسمك أو الخضار”. أما الآن، فتمكنها منتوجات شركة رتيبة “تايني منيو” من اقتناء حساء بالخضر واللحم مثلا، أي أن تتمتع ابنتها بنظام غذائي غني بالحديد.

نزع الحجاب أو البطالة

في الحقيقة، لم تفكر رتيبة أبدا من قبل في إنشاء شركة تصنع الغذاء للأطفال. كانت قد تحصلت على شهادة ماجستير من الكلية العليا للتجارة في باريس (ESCP) -إحدى أفضل المؤسسات التعليمية في هذا المجال بفرنسا- لكن عندما أرادت الحصول على عمل، وجدت نفسها أمام خيار يعترض العديد من المسلمات في فرنسا: أن تنزع حجابها أو أن تعاني من البطالة.

تقول رتيبة: “إنه عالم مغلق وصعب النفاذ للمسلمات. فصورة المرأة المحجبة سيئة جدا في فرنسا، كثيرون يظنون أن وضعنا مشابه لوضع النساء في بعض البلدان العربية، حيث يجبرن -قانونيا أو اجتماعيا- على ارتداء الحجاب. لكننا في فرنسا نختار ارتداء الحجاب ولسنا ضحايا أي كان”.

على غرار العديد من الآباء والأمهات المسلمين في فرنسا، حاول والدا رتيبة ثنيها عن ارتداء الحجاب، خاصة مع تفاقم الجدل حول وجود الأقلية المسلمة في فرنسا -الأهم في أوروبا- والتي يبلغ حجمها 9% من مجموع السكان1

[محل عرض “برشا”، العلامة التجارية التي تبيع ثيابا للمسلمات كما لغير المسلمات، خلال الاجتماع السنوي للمسلمين في فرنسا لسنة 2019 . أريانا مظفري]

جدل على مدى الثلاثين سنة الماضية

التاريخ الاستعماري لفرنسا يجعل مسألة الإسلام مثيرة للجدل على أراضيها. ففي استطلاع للرأي قام به معهد إيفوب في أكتوبر/تشرين الأول 2019، صرّح 61% من المستجوبين باعتقادهم أن الإسلام لا يتوافق مع القيم الفرنسية، بينما يعتقد 80% أن العلمانية في خطر في فرنسا.

ربع المسلمات في فرنسا تقريبا محجبات، لكنهن محل جدل منتظم حول الإسلام، رغم عددهن الضئيل. وقد سبق واعتبر الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون الحجاب كموضوع مثير للجدل في فرنسا لأنه “لا يتطابق مع طريقة العيش في بلادنا، فنحن مهتمون جدا بالمساواة بين النساء والرجال.”

يدعو المفهوم الفرنسي للعلمانية إلى فصل تام بين الكنيسة والدولة، كما يتطلب من العاملين لحساب الدولة عدم إظهار انتمائهم الديني أو السياسي. ولكن بعد طرد ثلاث فتيات من المعهد لرفضهن نزع حجابهن، بدأت مسألة فصل الدين عن الدولة تمتد لجوانب أخرى من الحياة الفرنسية.

في 2004، حظر البرلمان الفرنسي ارتداء رموز دينية في المدارس العمومية. وفي 2010، تم حظر تغطية الوجه في الأماكن العمومية لمنع ارتداء النقاب. أما في 2016، فقد حاولت عدة مدن منع ارتداء “البوركيني” -وهو لباس سباحة خاص بالمحجبات- على الشواطئ العمومية.

الانغلاق على طائفتهم

بداية 2019، استشاط عدد من السياسيين غضبا أمام قرار متجر للملابس الرياضية ببيع حجاب للراكضات -وقد انتهى الأمر بسحبه من نقاط البيع. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل شهد البلد منذ أشهر جدلا آخر حول الحجاب عندما طلب سياسي من حزب أقصى اليمين خلال اجتماع في مجلس محلي من والدة مسلمة كانت ترافق القسم الذي يدرس فيه ابنها خلال رحلة مدرسية نزع حجابها.

عموما، يتم تبرير هذه القوانين باسم الانسجام مع القيم الفرسنية والمجتمع، لكن دراسة نشرتها جامعة ستانفورد سنة 2019 حول قانون سنة 2004 أبرزت أن “النساء اللواتي يشملهن القانون ينعزلون ضمن المجموعات الاجتماعية التي ينتمون إليها ويتفادون التعامل مع باقي المجتمع”.

كذلك، أصبح أكثر فأكثر صعوبة ارتداء ملابس دينية للعاملين في القطاع الخاص. ففي 2014، قدمت امرأة شكوى أمام المحكمة بعد طردها من حضانة لارتدائها حجابا، بدعوى أن رؤية رموز دينية قد تؤثر على الأطفال. وفي 2016، منح قانون الشغل الحق لأرباب الأعمال في وضع قوانين دينية داخلية بدعوى أسباب أمنية أو صحية، أو في بعض الحالات التي يكون فيها الموظفون في تواصل مباشر مع الحرفاء.

تشرح مريام هانتر هينان، وهي أستاذة قانون في كلية لندن الجامعية درست بدقة العلمانية الفرنسية أنه “بعد قانون 2004، أصبحت العلاقة بالعلمانية هشة أكثر فأكثر. بل أصبحت عديمة في حالة العاملة بالحضانة وقانون حظر النقاب. فالعلمانية لل تستعمل كقاعدة قانونية لكنها لا تزال -بشكل أو بآخر- تؤثر على الفكر القانوني”.

نسبة بطالة مرتفعة

المسلمات هن أكثر من يعانين من هذه القوانين. بحسب دراسة تعود إلى سنة 2015، فإن أقل من نصف أرباب الأعمال فقط (42% تحديدا) يقبلون بتشغيل امرأة ترتدي حجابا. كما أن “اختبارا للسيرة الذاتية” سنة 2014 أثبت أن حظوظ امرأة متحجبة من أصول مغاربية للحصول على مقابلة عمل 55 مرة أضعف من حظوظ امرأة بيضاء دون حجاب.

كما أثبتت دراسة واسعة قام بها العهد الوطني للدراسات الديمغرافية أن نسبة البطالة في صفوف المسلمات في فرنسا تصل إلى ضعف نسبة البطالة لدى المسيحيات. قد تكون من بين أسباب هذه النسبة المرتفعة وفق صاحب هذه الدراسة باتريك سيمون كون لدى عدد من النساء المحجبات رؤية تقليدية أكثر للأدوار العائلية، لكن أيضا لأنه “عمليا مستحيل اليوم بالنسبة لامرأة محجبة الاشتغال في فرنسا. عندما يتطلب جانب من العمل التواصل مع حرفاء، فإن أغلب أرباب العمل لا يريدون امرأة ترتدي الحجاب. وحتى إن لم يكن هناك تواصل مع الحرفاء، هناك تمييز دائم ينتج عنه أن عددا ضئيلا جدا من أرباب رؤوس الأعمال يقبلون بتوظيف امرأة ترتدي الحجاب”.

 [“كلنا نسويات”. أريانا مظفري.]

يقول هشام بن عيسى وهو عالم اجتماع اشتغل مع أكثر من 500 شركة فرنسية لتطوير سياساتها الدينية، إن التمييز يزداد كلما صعدنا السلم الاجتماعي: “لم أر قط خلال عملي امرأة محجبة في منصب إداري. الناس يقبلون أن تقوم امرأة محجبة بأعمال تنظيف أو أن تعتني بأطفالهم. أما أن تعطيهم امرأة محجبة أوامر، فهذا مستحيل”.

كلما صعدوا في السلم المهني، كلما تعرضوا أكثر للتمييز

ويبدو أن دراسة أخرى واسعة المجال قامت بها مؤسسة جان جوريس في سبتمبر/أيلول 2019 حول التمييز والاعتداءات العنصرية ضد المسلمين في فرنسا تؤكد تجربة بن عيسى: فكلما صعد المسلمون في السلم المهني، كلما تعرضوا أكثر للتمييز. 63% من المسلمين الذين يشغلون مناصب إدارية أو الذين يعملون في مجالات تتطلب شهادات عليا تعرضوا للتمييز في السنوات الخمس الأخيرة.

يقول فرانسوا كراوس، وهو أحد المشرفين على هذه الدراسة: “يعود هذا الوضع لخيارات مهنية، فبمجرد أن تدخل الأقليات للعوالم التي يطغى عليها”البيض“ويتركون وراءهم مجتمعهم كمسلمين أو كأقلية بضفة عامة، فهم يتعرضون إلى هذا النوع من العنصرية. كما أن الأشخاص الذين يتمتعون بمستوى تعليمي أعلى أكثر وعيا بمسائل التمييز”.

كثيرات هن المسلمات اللواتي يعانين من رفض مؤسسات التشغيل، حتى إن كان ذلك لمناصب غير إدارية. مريم كرم الباغة من العمر 20 سنة تعودت نزع حجابها يوميا للذهاب إلى عملها كسكرتيرة طبية في منطقة ألزاس، بشمال شرق فرنسا، غير بعيد عن الحدود الألمانية. في أحد الأيام، بينما كانت تبحث عن منصب كسكرتيرة، “ذهبت إلى مقابلة عمل وأنا أرتدي حجابي، فقالت لي الطبيبة مباشرة إنها لن تقبل أبدا أن أرتدي حجابي في الشغل، لأنها لا تريد أن يرى المرضى امرأة مذعنة وراء المكتب”.

وصفت الجمعية ضد معاداة الإسلام في فرنسا -وهي إحدى المنظمات العديدة التي تساعد المسلمات في مكافحة التمييز- قانون 2016 الذي يسمح لأرباب الأعمال بتعزيز الحياد الديني بأنه “سبب كاذب يمكن من التمييز ضد المسلمات”.

وتشرح نعيمة سعيد وهي مختصة قانونية تابعة للمنظمة بأن “في حال سأل مشغل امرأة عن انتمائها الديني خلال المقابلة، أو عن خيارها في لبس الحجاب، أو إن لمح إلى أن لبسها الحجاب قد يمنعها من الحصول على الشغل دون ذكر سياسة الحياد الديني للشركة، فعندئذ يمكن الحديث عن أرضية تمييز”.

ترى نعيمة أن المشكلة لا تحظى بالتغطية الإعلامية اللازمة: “هؤلاء النساء يشعرن أنهن ضحايا ولا يتمتعن دائما بالطاقة اللازمة لمتابعة هذه الشكاوى، فهي طريق طويلة وعسيرة”.

يضيف فرانوا كلاوس حول تردد عديد الشركات الفرنسية في تشغيل نساء محجبات: “يفكر أرباب الأعمال بصورتهم وبمخاطر تشغيل امرأة محجبة في فريقهم، خاصة منذ وقوع الهجمات الإرهابية والخلط بين المتدينين والمتطرفين. كما أنهم يفكرون بالتماسك الداخلي: هل ستندمج هؤلاء جيدا مع الفريق؟ وهل سيذهبن مع باقي الزملاء لاقتناء مشروب بعد الدوام؟ فالعديد من أرباب العمل يرون الحجاب كرمز للانغلاق الاجتماعي. وفي العقلية الفرنسية، لا يعتبر الحجاب كأحد مكونات الهوية، شأنه شأن لون البشرة. بل هو بالنسبة لهم رأي فلسفي، كالانتماء السياسي”.

[عرض لأحجبة صنعت في فرنسا. أريانا مظفري.]

خلق مشروعهن الخاص

أجبرت هذه العراقيل المسلمات على التأقلم. توجد على الشبكات الاجتماعية مجموعات مثل “يمكنك العمل وأنت ترتدين الحجاب” يسمح فيها نشر إعلانات ونصائح مهنية. كما تتقاسم النساء أسماء شركات يسمحن باللباس الديني، لا سيما مؤسسات عظمى مثل “أمازون” أو شركة الأثاث السويدية “إيكيا”. وتعلق رتيبة على ذلك قائلة: “هي عموما شركات غير فرنسية”.

كما يختار عدد متزايد من النساء إنشاء مشاريعهن الخاصة حتى يتسنى لهن العمل وهن يرتدين الحجاب. تقول كرم مثلا التي كانت سابقا سكرتيرة طبية قبل أن تصير مستشارة رقمية مستقلة: “أدركت أنني لا أرغب في تغيير طريقة لباسي، ما دفعني إلى عالم المشاريع الخاصة”.

في 011، أطلقت لويزا بوغرارة صفحة “أخوات بيزنس” للمسلمات صاحبات المشاريع. وقد أطلقت بدورها شركتها على الانترنت لبيع مساحيق التجميل. وقد أدركت من خلال العدد الهائل من الأسئلة الذي وصلها عبر صفحة الفيسبوك أن العديد من النساء ليس لهن أدنى فكرة عن طريقة إطلاق مشاريعهن الخاصة.

تشتغل لويزا اليوم ضمن فريق يعد خمس نساء لمساعدة 200 حريفة منتظمة على تطوير مشاريعهن الخاصة أو تجاوز العقبات الإدارية. ومنذ 2013، أطلقت المؤسسة مسابقة سنوية للشركات الناشئة. وكانت الفائرة بمسابقة سنة 2018 شابة أنشأت مع زوجها تطبيقا على منوال “تيندر” يهدف لربط الباحثين على العمل بالشركات.

تدعى إحدى حريفات لويزا ديالا ماغاسا، وهي أم لستة أطفال تبلغ من العمر 36 سنة، استعانت بـ“أخوات بيزنس” من أجل إطلاق علامة تجارية لمواد التجميل على الانترنت، فقد “ظننت أنهن قادرات على تفهم وضعي. لقد عانينا جميعا من نفس المشاكل -أو لنقل أغلبنا- إذ لم نستطع إيجاء شغل بسبب ارتدائنا الحجاب”.

زوج ديالا ساعدها في هذه المغامرة، لكن لويزا تقول إنه من الوارد جدا أن تعيش حريفاتها مشاكل عائلية أو زوجية بسب التطلعات المحافظة التي لاتزال عالقة بمصير النساء. لكن يبدو أن الأمور بدأت تتغير، فخلال الاجتماع السنوي للمسلمين في فرنسا، كان وزج رتيبة يعتني بطفليهما بينما كانت تبيع أغذية الأطفال الحلال. في حين كانت نساء شابات محجبات أخريات يرتدين آخر موضة يبعن عباءات وأحجبة مزركشة.

تقول إيمان مستاوي، البالغة من العمر 27 سنة وصاحبة علامة “برشا” التجارية والتي تبيع لباسا “محتشما” للمسلمات وغير المسلمات: “نحاول أن نظهر للناس أنه يوجد أكثر من لباس ديني، ليس فقط الطريقة السلفية أو الوهابية”.

شرعت عالمة الاجتماع حنان كريمي في دراسة هذه الظاهرة عندما لاحظت أن عددا متزايدا من النساء يخترن طريق المشاريع الخاصة لعدم نجاحهن في الحصول على شغل. وقد شاهدت حتى نساء محافظات جدا يندمجن أكثر من خلال هذه المشاريع في المجتمع الفرنسي.

تغير في العقليات

“كان بعض النساء لا يتحدثن مع الرجال ويتركن الأمر لأزواجهن، لكنهن أجبرن على العمل مع الرجال والتفاوض معهم في إطار نشاطهن المهني، كما صرن يلتحقن بحفلات لإقامة تواصل بين أصحاب المشاريع الخاصة”.

ترى لويزا أن المشاريع الخاصة خطوة ضرورية لتغيير دور المسلمات في المجتمع الفرنسي: “الأمر لا يتعلق فقط بالمشاريع، فهي بالأخير أدوات تمكن النساء من التطور وتحقيق ذواتهن”. لكن حنان كريمي تؤكد على أن هذه المشاريع تنبع من حاجة لا من اختيار: “حتى بالنسبة للنساء اللواتي يحملن شهادات عليا وأفكار مشاريع عظيمة، فإن العامل الأساسي الذي يدفعهن نحو المشاريع الخاصة هو فرض نزع الحجاب في أماكن العمل. المشاريع الخاصة هي أولا وقبل كل شيء وليدة إكراه، حتى ولو اتضحت إيجابية فيما بعد”.

تأمل رتيبة أن يصير مشروعها مماثلا لدانون أو نستليه -أي مرجعا في مجال الأغذية الحلال للأطفال. وقد تحصلت على منحة ابتكار من طر البنك العمومي للاستثمار فرنسا، وهي ترى في ذلك "مفارقة: أنا ممنونة لفرنسا لتمويلها مشروعي، لكن في نفس الوقت، الناس هنا لا يقبلونني كما أنا.

إنهم يريدون أن تبقى المسلمات في الخلف، أن نبقى في موضع خضوع. هذا الظلم حافز لي اليوم، ولا خيار لي إلا النجاح".

[ترجمت المقال من الانكليزية سارة قريرة.]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬