كان حسني مبارك (2020 -1928) الرئيس الرابع لمصر وحكمها من 1981 إلى 2011. أُعلنتْ استقالته في الحادي عشر من شباط\فبراير 2011 في أعقاب ثورة 25 يناير في مصر. وفي مناسبة وفاته هذا الأسبوع يتحدث محرر ”جدلية“ هشام سلام عن إرث مبارك في ضوء ثورة 2011 المصرية، وعن نظام عبد الفتاح السيسي الحالي ورد فعل المؤسسة السياسية على أنباء وفاة مبارك.
جدلية: كيف تقيّم مكانة وإرث رئاسة مبارك إزاء التاريخ السياسي والاقتصادي المصري بعد الاستعمار؟
هشام سلام: كان شعار انتفاضة 2011 الذي قاد إلى إقالة مبارك هو ”عيش، حرية، عدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية“. إن الإرث الذي تركه مبارك خلفه هو تماماً هذا الشعار معكوساً، وأعني الفساد والقمع والتهميش الاقتصادي الذين ترعاهم الدولة.
تمكّن مبارك من هيكلة النظام الذي ورثهُ من سلفه بطرقٍ سمحتْ للدولة بالشروع بمجموعة من سياسات الإصلاح الاقتصادي التي ألغتْ على نحو فعال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي التزمت الدولة بضمانها منذ حكم الرئيس جمال عبد الناصر. ولم تكن هذه الخطوات واردة أو قابلة للتفكير في ظل حكم سلف مبارك أنور السادات، وأعني خصخصة أجزاء ضخمة من القطاع العام، وتعليق التوظيف المضمون لخريجي الجامعات وتجميد التوظيف العام، وخفض الحمايات التي ترعاها الدولة للعمال في القطاعين العام والخاص، أضف إلى ذلك عدداً من السياسات التي أدت في النهاية إلى ارتفاعات غير مسبوقة في الأسعار وأركعت الأسر ذات الدخل الثابت على ركبها. وبينما صفقتْ المؤسسات المالية الدولية لهذه التطورات بحماس كبير، شعر المدافعون عن العدالة الاجتماعية بالعار من المظالم الاجتماعية والاقتصادية التي أدتْ إليها هذه السياسات، ناهيك عن ذكر الممارسات الفاسدة وانتفاع النخبة الذي حفز تطبيق خطط التحرير الاقتصادي. وما كانت هذه التطورات ممكنة لولا نجاح مبارك في ترويض معارضي سياسات التحرير الليبرالي الاقتصادية من خلال مزيج من خطط الاستقطاب والقمع. وفي ظل مبارك، أصبح الجهاز الأمني منخرطاً بشكل عدواني في السياسات الحزبية، ليس فقط من خلال تزوير الانتخابات وإرهاب المعارضين وإسكاتهم بالاعتقالات والوسائل الإكراهية فحسب، بل أيضاً من خلال زرع وتطويع المخبرين داخل أحزاب المعارضة السياسية. وكلما عبرَ حزب معارض ما اعتبره مبارك وبطانته ”خطوطاً حمراً“ نخسَ الجهاز الأمني مخبريه داخل الأحزاب كي يثيروا الصراع والفوضى الداخلية. وفي حالات كثيرة، قدمتْ هذه الصراعات للدولة الحجة القانونية الضرورية لتجميد أنشطة هذا الحزب أو استبدال قيادته بشخصيات مقربة أكثر، وهذا سيناريو مألوف شهدناه غالباً في ظل حكم مبارك، سواء داخل حزب العمل أو في أحزاب أخرى كالغد وحزب الأحرار الاشتراكيين والوفد. وبالإضافة إلى القمع والإرهاب، طور نظام مبارك تشكيلة من الاستراتيجيات ”الناعمة“ لاحتواء معارضيه، خاصة أولئك الذين اعتنقوا توجهاً يسارياً. وفي حادثة لا تُنْسى، تبجح وزير الثقافة فاروق حسني، وهو أحد وزراء مبارك الذين خدموا فترة طويلة وترأس وزارة الثقافة، قائلاً بفخر، وفي جلسة برلمانية، إنه تمكن من ”إدخال جميع المفكرين إلى حظيرة“ وزارة الثقافة. وعلى مستوى رمزي، كان فاروق حسني في الحقيقة يشير إلى أحد أهم إنجازات دولة مبارك الاستبدادية، وأعني استقطاب الناشطين اليساريين والكتاب الماركسيين السابقين الذين كانوا مرة شوكة في خاصرة السادات في السبعينيات وجعلهم يعتمدون على ريوع وحسنات الدولة. وتمكن مبارك من شراء صمت هؤلاء الذين كانوا مرة منشقين مقدماً لهم الوظائف وفرصاً لتعزيز مهنهم داخل المؤسسات الثقافية والصحف العامة. وكان هذا التطور هو الذي روّض أقساماً كبيرة مما كان سابقاً يساراً منشقاً ومزعجاً وأقنع كثيراً من أعضائه بتخفيف نقدهم للنظام. والمفارقة هي أنه في اللحظة نفسها تماماً كانت القيادة السياسية تطبق بعدوانية سياسات التحرير الاقتصادية التي عارضتها تلك الشخصيات اليسارية مرة في ظل حكم سلف مبارك. وكان هذا الإنجاز نفسه هو الذي وجه كثيراً من الناشطين اليساريين بعيداً عن الحوانيت العمالية والمسيرات السياسية، ونحو منتديات ترعاها الدولة حيث خطبوا كالأساقفة متحدثين عن مخاطر الإسلام السياسي والجماعات المتشددة التي كانت تواجهها الدولة في التسعينيات.
إن الإرث الآخر الذي تركه مبارك خلفه هو التوسع الكبير للدولة الأمنية وبزوغ نخبة المؤسسة الأمنية كطبقة اجتماعية تتمتع بالامتيازات. وكان هذا إلى حد كبير منتجاً فرعياً لاعتماد مبارك المتزايد على الجهاز القمعي كنتيجة لتطورين: الأول هو الحاجة المتنامية إلى إسكات واحتواء خاسري الإصلاح الاقتصادي وحلفائهم في الساحة السياسية، والتطور الثاني هو خطط حسني مبارك لترتيب نقل السلطة إلى ابنه الأصغر جمال. وخفف المشروع الثاني بشكل كبير من سماح الدولة للانشقاق حتى داخل صفوف الحزب الحاكم واقتضى درجة من التحكم قوت أكثر جهاز الأمن المحلي بقيادة وزير داخلية مبارك سيء الصيت حبيب العدلي. أجاز هذا التطور الفساد ووحشية الشرطة ليس مع المنشقين السياسيين وأصوات المعارضة فحسب، بل أيضاً ضد أقسام كبيرة من الطبقة الوسطى والجماعات التي كانت محمية سابقاً من ذلك الشكل من الانتهاك. وفي هذا السياق صارت مسألة الكرامة الإنسانية وعنف الشرطة اهتماماً عاماً واسع الانتشار لم يقتصر فقط على المنشقين السياسيين ومناصري حقوق الإنسان. إن تداعيات ذلك الإرث، لسوء الحظ، جيدة وحية حتى هذا اليوم.
جدلية: ما هي مفاتيح فهم أوجه الاختلاف والتشابه بين مصر مبارك ومصر عبد الفتاح السيسي؟
هشام سلام: سأقدم لجوابي بالقول إن المقارنة بين مبارك والسيسي غالباً ما تُعقد للقول إن استبداد مبارك كان خفيفاً بالمقارنة مع استبداد عبد الفتاح السيسي. وإذا ما تحدثنا معيارياً، لا أعتقد أن الوقائع المعاصرة تستطيع بأية طريقة أن تبرر أو تقدم أي أسس أخلاقية للانتهاكات والجرائم التي ارتكبها نظام مبارك. وحول هذه المسألة، من المهم أن نتذكر أنه حتى هذا اليوم لم يُحاسب أحد على مقتل أكثر من 800 شخص أثناء انتفاضة الثمانية عشر يوماً.
بعد أن قيل هذا، إذا تحدثنا تحليلياً، نحن نتحدث عن نظامين مختلفين بتوجهين مختلفين جداً. وأعتقد أن الفرق الجوهري بين الاثنين هو حقيقة أن السيسي يترأس نظاماً يفتقر إلى الأدوات السياسية والموارد البشرية نفسها التي كانت موجودة في ظل حكم حسنى مبارك. وكما توحي تعليقاتي السابقة، ”إن السيطرة السياسية“ في ظل مبارك تُرجمت إلى تشكيلة من الأدوات التي تسلسلت من قمع مباشر ( سواء كان السجن أو الاضطهاد بذرائع سياسية أو استخدام العنف) إلى هندسة القواعد والأطر القانونية والمؤسساتية لصالح الحزب الحاكم، أو تعاون المنشقين من خلال تقديم الفوائد الرمزية والمادية. أما نظام السيسي فهو نظام يشكل فيه القمع في الحقيقة الأداة الرئيسية للسيطرة وفرض الإذعان. وبمصطلحات بسيطة، ليس نظاماً يصل إلى غاياته بدقة من خلال هندسة قواعد انتخابية وقواعد قانونية، أو من خلال لعبة فرّق تسد مع المعارضة. إنه نظام يطارد بنشاط معارضيه من خلال أحكام قاسية بالسجن وإعدامات واختفاءات قسرية، واستخدام العنف المفرط. بينما في ظل مبارك، راهنت الأصوات المعارضة كثيراً على المعارك القانونية في المحكمة حول دستورية سلوك الحزب الحاكم داخل البيرواقراطية والبرلمان، أو المجال الانتخابي، واليوم يركز معارضو السيسي ببساطة على البقاء والتغلب على (أو تفادي) غضب الجهاز الأمني. في عهد مبارك، كان الاستبداد قانون الأرض، في عهد السيسي، الاستبداد هو حكم القمع. وعلى الرغم من هذه الاختلافات، ثمة قاسم مشترك يربط بين المؤسستين الحاكمتين. وعلى نحو محدد، مهما يكن من هو في مقعد السائق، سواء كان مبارك أو السيسي، فإن العائق البنيوي الذي يتحدى قادة مصر لم يتغير ويمكن القول إنه بقي هكذا منذ الأعوام الأخيرة لجمال عبد الناصر. إنها دولة ما تزال تصارع كي تحقق التزامات إعادة التوزيع التي ورثتها من العهد الناصري وتفشل باستمرار في الالتزام بدورها التاريخي المدرك كضامن للحقوق الاجتماعية والاقتصادية. كان تمهيد الطريق للهرب (أو بالأحرى لوضع عقد اجتماعي جديد يخلص الدولة من هذه الالتزامات) كابوساً متواصلاً سكن جميع القادة المصريين منذ وفاة جمال عبد الناصر. وفي هذا المنحى، يواجه السيسي المأزق نفسه الذي ورثه مبارك من السادات وورثه السادات من عبد الناصر.
جدلية: كيف استجاب النظام المصري الحالي علناً لوفاة مبارك وماذا يمكن أن يقول لنا هذا عن توجهه حيال ذاكرة ثورة ٢٥ يناير وما حصل بعدها؟
هشام سلام: أصدر مكتب الرئيس بياناً ندب فيه وفاة مبارك. وقيل إن السيسي أمر أن يدفن الرئيس المرحوم في جنازة عسكرية وأعلن الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام. مدح المعلقون المؤيدون للنظام والمرتبطون بالجهاز الأمني قرار السيسي، مؤكدين أن مبارك يستحق هذا الشرف كونه ضابطاً عسكرياً وبسبب إنجازاته. في رأيي، إن الدافع الرئيسي وراء قرار ترتيب جنازة عسكرية له هو إرضاء حساسيات القادة العسكريين، وكذلك حكام الخليج الذين كانت لهم صلات شخصية قوية مع مبارك والذين هم بالمناسبة رعاة مهمون للنظام الحالي. أشك جداً بأن ذكرى ثورة 25 يناير التي أسقطت مبارك مُنحت الكثير من الاعتبار، بما أن السيسي نفسه فعل سابقاً الكثير كي يلطخ تلك الذكرى في أعين الشعب.
[لقراءة المقال بالانجيليزية، اضغط/ي هنا]
[ترجمة: أسامة إسبر]