إبّان الأزمات العميقة التي تهز البشرية كما هو الحال الآن، فإن نظريات المؤامرة تنتعش و تشفي الأيديولوجيات القيامية والماورائية القلوب المذعورة. ولست ممن يؤمن بهذه السخافات التي تتناثر من حولنا، لأن جذور العائلة الفايروسية لكورونا ومحطات تطوره تاريخيًا معروفة لدى العلماء، وليست نوعًا مفاجئًا خرج من العدم دون مقدمات. لكن الأهم من ذلك أن ثمة توظيفاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، ونتائج كبيرة بنيوية لربما سيخرج على هيئتها عالم ما بعد الكورونا، وهو ما يجب علينا تحليله وتوصيفه.
فعطفًا على الاستغلال السياسي المباشر جدًا في الحلبتين السياسيتين الدولية والداخلية لدول العالم، مثل المناكفات الأمريكية الصينية، أو الاتهامات المتبادلة الإيرانية الأمريكية، أو استخدام بنيامين نتنياهو أزمة الوباء العالمي بهدف التملص من المحاكمة على قضايا فساد وغيرها من الأمثلة. فإن ثمة قضايا أكثر عمقًا علينا معالجتها، تقف خلف التوظيف السياسي المباشر لهذه الجائحة الإنسانية.
أفول النيوليبرالية
قد تكون أزمة كورونا بمثابة شهادة وفاة للنظام الاقتصادي النيوليبرالي، أو، في أدنى تقدير، لشرعية هذا النظام الاقتصادي في أعين الشعوب. فقد أظهرت هذه الأزمة تغليب المصالح الخاصة الفردية الاقتصادية والمادية على حساب حياة وصحة الفئات الضعيفة في مجتمعاتنا من مرضى وكبار السن. وذلك على صعيدين، عندما قررت دول كثيرة تقديم آلاف البشر من هذه الفئة كقرابين على أن توقف العجلة الاقتصادية، ومن ناحية أخرى عندما فضلت الحفاظ على القوى العاملة الشابة وإنقاذهم من الموت وترك الكبار والمرضى يموتون لنقص الموارد.
أعتقد أن المعادلة لدى كثير من الدول كانت واضحة تمامًا، إذ يهدد الوباء كبار السن والمرضى (بمعنىً ما غير المنتجين في مفهوم النظام الرأسمالي)، وبالتالي كان الخيار تأجيل وتدرّج إجراءات الإغلاق وإبطاء عجلة الاقتصاد على مدى طويل حتى لا تطول فترة الإغلاق الكامل التي قد تضطر لها السلطات في ذروة تفشي الوباء، وهو ما يعني بالضرورة تفشي الوباء ووفاة آلاف الضعفاء. أي أن المقايضة تمثلت في السماح بتفشي الوباء والتضحية بشرائح ضعيفة بيولوجيًا لصالح الحفاظ على مصالح اقتصادية، وهو ما عبّر عنه الرئيس البرازيلي بشكلٍ واضح عندما أعلن أنه لن يغلق البلاد من أجل صد الوباء، لأن الإغلاق يعني انهيار الاقتصاد على حد تعبيره، وهو ما يعني بالضرورة احتضار الدولة.
وأبرزت الأزمة بشكل ملموس أن استمرار النظام الرأسمالي القائم على تركز الاستثمارات في القطاعات الأكثر ربحًا مثل صناعات الأسلحة وقطاع العقارات وقطاع الخدمات المالية، وليس القطاعات الأكثر إلحاحًا وحاجةً مثل الصحة، لا يمكن أن يستمر على هذا النحو. وإذا ما واصل العالم العمل بهذه الصورة فإن الأزمات القادمة ستكون طاحنة وأكثر عنفًا.
وأظهرت أزمة الوباء أن ثروات الشعوب تهدر على بناء الجيوش وأجهزة الأمن التي برزت باعتبارها العمود الفقري لوهم الدولة المدنية. وتصدرت الأجهزة الأمنية والجيوش، و/أو يبذل الكثير منها جهودًا لتصدر المشهد في كثير من دول العالم لمواجهة الوباء. وتبيّن أن هذه الجهات هي التعبير الحقيقي للدولة المعاصرة، وتصبح هذه الصورة أكثر جلاءً في أوقات الأزمات، وعُسكرت إدارة الأزمة من خلال إجراءات العزل ومنع التجوال وإغلاق المدن، بدلًا من امتلاك أجهزة صحية قوية قادرة على التعامل مع حالات الطوارئ.
وكذلك الحال، لا يمكن الاستمرار في نظام عدمي غايته الأولى والأخيرة هي النمو الاقتصادي والتقدم العلمي لأجل التقدم لذاته ولأجل مراكمة رأس المال دون إمكانية لكبح حركة التقدم العبثية، وإلا ماذا استفدنا من التقدم العلمي في ذروة حاجتنا له؟ وما الفائدة من كل هذا التطور التكنولوجي والاقتصادي؟
ومن ناحية أخرى لا يمكن العمل على التنمية الاقتصادية على حساب البيئة والتغير المناخي وحماية الكائنات الحية. وغني عن التعريف، أن النظام الرأسمالي يدمر البيئة بشكلٍ ممنهج لأجل تحقيق أرباح مادية، ولا يعبًا بالنظم البيئية والتغير المناخي، لا سيّما وأن كثير من الخبراء يؤمنون اليوم أن هذا التدمير الممنهج للبيئة ومواطن الحيوانات يعد عاملًا رئيسيًا في تفشي الأوبئة، التي تنتقل إلينا في غالبيتها العظمى من الحيوانات التي ندمر بيئتها الطبيعية.
إرهاصات الأزمة
لعل أبرز المسارات التي ستنتجها أزمة كورونا هي توظيف الوباء لغايات الضبط والسيطرة ومزيد من تدخل الجيوش والأمن في إدارة الحياة العامة. إذ توظف الجهات الأمنية في العالم هذه الأزمة لتعميق نفوذها وسيطرتها على مفاصل الدول ومقدراتها وميزانياتها، ولمزيد من التدخل في إدارة الحياة العامة في الأزمات وغير الأزمات ولكسب مزيد من الميزانيات. ومن غير المرجح أن تتنازل الطغمة الأمنية والعسكرية عن مكتسباتها بعد انتهاء أزمة كورونا.
وكذلك يبدو أن شريحة برجوازية في طور التشكل، تنمو على الأزمة كالطحالب، مثل المستثمرين في تصنيع الأدوية والأقنعة ومواد التعقيم والألبسة الواقية وكافة المعدات الطبية ذات العلاقة، وسيكون لهذه الفئة مصالح كبيرة في الحفاظ على خطاب التخويف والذعر، وتحقيق أعظم الأرباح قبل التمكن من السيطرة على الفايروس.
ومن المؤكد أن المنافسين الصغار من التجار والمصنعين وأصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة نتيجة الخسائر الاقتصادية الهائلة التي سيتكبدونها جراء الوباء وسياسات الإغلاق، في حين يمكن للشركات الكبرى البقاء والحفاظ على وجودها لأنها الأقدر على تحمل الأزمات، فضلًا عن إمكانية تعويض دول العالم لخسائر الشركات الكبرى بطرقٍ مختلفة، ما يعني لاحقًا أننا مقبلون على عالم يحكمه مزيد من الاحتكارات وتعميق التفاوتات الطبقية ومزيد من تركيز الثروات.
ومن نافل القول أن كثيرًا من دول العالم قد تجيّر الأزمة لتمرير مزيدٍ من الإجراءات التقشفية بحق الطبقات الفقيرة والوسطى، سواء خلال الأزمة أم بعد ذلك، لا سيّما إذا جاءت في سياق حالة الذعر وغريزة البقاء التي تمكن الناس من استساغة أي إجراء يبرر بحمايتهم، أو في سياق ارتفاع بعض السلطات التي نجحت في إدارة الأزمة بنجاح ما يمكنها استثمار شعبيتها في اتخاذ قرارات صعبة لغير مصلحة الشعوب.
خاتمة
في خضم الإدارة العالمية السيئة لأزمة كورونا، وانكفاء الدول على أنفسها، وتحويل مشاعر وأعصاب مليارات البشر إلى حلبة منافسة من خلال التلاعب بالمشاعر بإعلانات تبرز كل يوم من هذه الدولة وتلك لعلاج مرتقب للفايروس، في حين أن منظمة الصحة العالمية تقول إن استخدام أي عقار طبي قد يحتاج عامًا كاملًا، وفي إطار كافة التداعيات المذكورة أعلاه، من المهم إبقاء العيون مفتوحة ونقد عمليات عسكرة المجتمعات، والدفاع عن حقوق العمال والطبقات الفقيرة والفئات الهشة في مجتمعاتنا، وتعزيز التضامن العالمي، والتفكير في ملامح نظام أكثر عدلًا وخدمةً للبشرية والبيئة، لأن ثروات وإمكانيات العالم لو وضعت في المكان الصحيح وأديرت بشكل صحيح في إطار تعاون دولي جدي يمكني مجابهة أعتى التحديات العالمية.