آهٍ من هذهِ الأيام كم تُذكرني بتلك التي تجرّعناها علقماً قبل سبعة عشر عاماً. شوارع شبه خالية منَ البشرْ وأبواباً موصدةً يعشعشُ الخوفُ عند أعتابها التي حطّتْ عليها يوماً صواريخ وشظايا ورسائلَ تهديد مظروفة بصحبةِ رصاصاتٍ قتلت مثيلاتها الآلاف من العراقيين العزّل.
[لوحة مرور إرشادية تدل على اتجاه قضاء أبو غريب غرب العاصمة بغداد وتظهر مرصعة بثقوب وشقوق خلفها اشتباك ما على الخط السريع. التقطت الصورة في 17 مارس/اذار 2020]
سبع عشرة سنةٍ مرّت على الليالي الموحشات، على صرخاتِ الأمهات، على الموتِ الكثير، على قنابل "التحرير" التي القتها نفّاثات أمريكا وبريطانيا لتهدنا "عراقاً جديداً" يُطل عليه ملايينُ اللاجئين من شاشات الهواتف والكومبيوتر، ليَبكوا ملايين أخرى من النازحين والمشردين وضحايا الفقرِ والجوع ِ والقنصِ الرّهيب.
ها قد انتهتْ حفلةُ "التحرير" جفّت دموع الأرامل وخفتتْ هلاهل الخونة. تلاشت عناوينُ الحرب مِن نشراتِ الأخبار وما زال الدمُ يسيلُ في سواقي البساتين المُقفرات على ضفاف دجلةَ والفراتْ، والأرواح تُصيرها الرصاصات أرقاماً تفيض بها قوائم ضحايا لا تصلُ غرفَ الأخبار الأمريكية.
[لوحات مرور إرشادية تظهر حاملة آثار العنف الذي عصف بالبلاد منذ الغزو الامريكي للبلاد في 2003،. 18 مارس/اذار 2020]
كبرنا وكبرت تلك الحرب معنا، صارتْ تلعبُ مع الأطفال حافيةً في الشوارع، تغازلُ جدائل الفتيات اليتيمات وتخبزُ مع الجّداتِ في تنانيرِ الطينِ تحت نخلاتٍ يابساتٍ لا سعفاتَ لهُنَ، بينما كوابيسها ما انفكّت تقضُ مضجعنا لتجهض أحلامنا الفقيرات قبل أن نستيقظَ – أو لا نستيقظْ – على واقعٍ مقيتٍ لا يرحمُ ولا يُرحم فيه أحدْ.
كم هي كريمةٌ هذه الحربْ، فقد أنجبتْ لنا أولاداً ينوبونَ عنها في إطفاءِ شمعاتنا الواحدَ تلو الآخر – كلاً بدوره –، وآخرين يسرقون كسرةَ الخُبز قبل أن تدخُلَ فَمنا. سبعة عشر عاماً مضتْ وما زالت السماءُ تمطرُ قذائفاً تهدُ سطوحَ المنازل فوق رؤوس سكناها في الجادرية!
[أولاد من حي في غرب العاصمة بغداد يقفون تحت جسر متفجر. 18 مارس/اذار 2020]
وها أنا – كقطٍ شاردٍ – أضيعُ مع الكاميرا في شوارع المدينة الخربة، تناديني آثارُ الحرب – وما أكثرها! – كملامح حبيبةٍ قديمةٍ من أيام الدراسة: جسور مشاة مكسورة، حيطانٌ ولوحاتِ مرورٍ مرشقةٍ بالشظايا؛ ندوبٌ خلفتها سنين من الدّمِ والخوفِ والرصاص. أقفُ بالقربِ منها، نتبادلُ الصمت ونظرات العتابْ، ألتقط صورةً تذكاريةً وأمضي لألتقط أخرى لأتذكر: بُعيد دخول الغزاة أرض العراق، انطلقت حفلة اِقتتالٍ طائفيٍ حوّلت ضواحي بغداد التي خيّم عليها صمتٌ كانت تغتصبهُ رشقاتِ الرصاص واِنفجاراتِ السيارات المُفخخة مسرحاً للموتِ. ينامُ ويفيقُ السكان فيه على وقع تبادلِ وابل قذائف الهاونْ بين الفرقِ المتناحرة. حصدت سنيّ الطائفية تلك أرواح مئات الآلاف – على الأقل – منَ المدنيين وشردت الملايين منهم.
[ندوب خلفتها القنابل العنقودية التي ألقتها الطائرات الحربية الامريكية على بغداد مازالت ترصع جسر في غرب المدينة بعد 17 عاما على انقضاء الحرب. 18 مارس/اذار 2020]
يُذكرني حظرُ التجول الذي تفرضهُ السلطات اليوم للحد مِن اِنتشارِ فيروس كورونا المُستجد بتلك الأيام الدامية. كُنا نوصد الأبواب قبلَ المغيب، وكانت تشتعلُ منطقتنا التي هُجّرنا منها يوماً بمواجهاتٍ شرسةٍ بين جنود الاحتلال وبين عناصر الفَصائل المُسلحة ليلَ نهارْ. بينما كنتُ أشقُ طريقي إلى المدرسة بصحبة ابن العم، كُنا نمرُ احياناً بجوارِ جثثٍ ملقاة في المزابل ومسلحين يستقلونَ عجلاتٍ رباعية الدفع برشاشاتٍ ثقيلة مُركبةٍ في الخلفْ. أتذكرُ حملاتِ الدهمِ والتفتيش، كانَ الجنودُ المسعورون يَدلفونَ عُنوةً إلى المنازل الآمنة ويهيلون الشتائم على أهلها، خصوصاً بعد أن تتعرض أرتالهم التي كانت تمرُ من الخط الدولي أو من على الجسرِ القريب لكمناء عناصر الفصائل المُسلحة الذين عادةً ما كانوا يتربصونَ بهم في الشوارع الفرعية. في صباح ما مِن صيفٍ مضى عليه عقدٌ او أكثرْ، دخلَ علينا جنودُ مُدججون بالأسلحة بينما كُنا نياماً على السطح وكانوا أكثر تهذيباً هذهِ المرة فقالوا: "good morning" – على الأقلْ بادروا بإلقاءِ التَحية!
[صبية يتجولون قرب مدينة ألعاب قيد الانشاء في غرب العاصمة بغداد ويظهر في الصورة عمود إنارة ذوبه انفجار ما. 18 مارس/اذار 2020]
أذكُر هذه التفاصيل اليوم وفاءاً لعائلتي وجيراني اللذين تجرعوا مرارةَ الخطف والتهجير ودهراً من الضيمِ والقصف المُدوي والاشتباكاتِ العنيفة التي تصمُ الأذُن. أكتبُ وفاءاً لنَخل البصرة، لأطفالٍ يولدونَ في الفلوجة بوجوهٍ ممسوخةٍ أو أطرافاً معوجّة – كم يوجعُ القلب هذا الفسفور الأبيض! –، ولآخرين تُكسرُ ظهورهم في دفع عرباتِ نقل بأجور يوميةٍ وسينامون وعوائلهم جياعاً هذهِ الليلة. أكتبُ لأُذكرَ بالجريمة، وبأن مُرتكبيها – كأسلافهم –، لم يوضعوا خلفَ القُضبان بعدْ، كما الجُندي الذي قنص ذلك البائعَ المتجولَ في حينا في تلك العصرونيةِ البعيدة.
[أب وابنه يعودان لمنزلهم في حي ما غربي مدينة بغداد. 22 مارس/اذار 2020]