سبق وحاولت فلسطين الاستنجاد بالمحكمة الجنائية الدولية عام 2009 أثناء العدوان على غزة، لكن ردت عليها المحكمة بعد ثلاث سنوات رافضة النظر بالقضية مشيرة إلى أولوية البت في الموضوع في الدوائر السياسية بما أن المجتمع الدولي لم يعترف بفلسطين كدولة آنذاك. لحِق اعتراف الجمعية العامة في الأمم المتحدة عام 2012 بفلسطين كدولة، انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية عام 2015. بحكم إنضمامها للمحكمة أعطت الدولة الفلسطينية المحكمة الإذن بالتحقيق في أي جرائم حرب أو جرائم ضد الانسانية أو جرائم عداء وقعت على الأراضي الفلسطينية وملاحقة الأشخاص المسؤولين عن هذه الجرائم. بالتالي، فور انضمام فلسطين فتح مكتب الإدعاء العام في المحكمة تحقيقاً أولياً لتحديد ما إذا كانت هناك أسس مقنعة لفتح تحقيق رسمي يتعلق بجرائم حرب ارتكبت على الأراضي الفلسطينية. نظراً للقيود الزمانية في القانون المؤسس للمحكمة (قانون روما)، لا يستطيع مكتب الإدعاء البحث في قضايا سابقة لتاريخ 14حزيران 2014. بشكل رئيسي يقع ضمن هذا الحيز الزماني: العدوان الاسرائيلي على غزة عام 2014، الانتهاكات المرتكبة ضد الفلسطينين في سياق مظاهرات جمعة العودة، وجريمة المستوطنات التي تعد جريمة مستمرة. بالمقابل، أكد مكتب الادعاء انه سيحقق أيضاً في الجرائم المرتكبة من قبل حماس وأي جماعات مسلحة أخرى.
يعد القانون الجنائي الدولي أحد فروع القانون الدولي التي تُعنى بالمسؤولية الجزائية الشخصية للمسؤولين عن الجرائم المرتكبة أثناء الحروب. غالباً ما ترتبط جرائم الحروب بالتعسف في استخدام السلطة، وإلحاق معاناة غير مبررة حسب معايير الحاجة العسكرية، خاصة بالمدنين. فبالتالي هي كالمحكمة الجنائية المحلية لكن مختصة بالجرائم الكبرى ذات الأبعاد شديدة الدموية والعنف. تكتسب المحكمة القدرة على التحقيق في دولة ما عند توقعيها على اتفاقية روما. في هذا السياق لم توقع اسرائيل على إتفاقية روما وبالتالي تخرج أي جرائم ارتكبت على الأراضي "الإسرائيلية" عن اختصاص المحكمة.
قرار فتح التحقيق وشكوك حول السيادة الفلسطينية
في نهاية العام الماضي نشر مكتب الإدعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية تقريره السنوي. وأثارالمحتوى المتعلق بفلسطين خيبة أمل واسعة ما بين أعضاء المجتمع المدني الحقوقي. إذ كانت السردية المتعلقة بالقضية ناقصة، فيبدو للقارئ كما لو كان الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي سواسية. مع هذا فقد تضمن التقرير نقطة ايجابية واحدة: اعتراف المكتب أنه، وبعد خمس سنوات من التأمل، لابد من إنهاء المرحلة الأولية للتحقيق قريباً. تلى ذلك بعدة أسابيع إعلان مكتب الإدعاء العام نية فتح تحقيق رسمي في القضية، وبينت رئيسة الإدعاء العام فاتو بنسودا أن لديها معلومات كافية تشير إلى احتمالية وقوع جرائم حرب على الأراضي الفلسطينية، وأن فتح التحقيق يتوائم واحتياجات العدالة. في هذا السياق يبين الإعلان أن مكتب الإدعاء العام لم يحدد بعد أشخاصاً معينين، لكن سيقع التركيز على ممثلي الحكومة الإسرائيلية، وسيتم التحقيق بالمستوطنات على أنها جريمة حرب. لكن، قبل البدء بالتحقيقات الرسمية قررت رئيسة الادعاء إحالة سؤال للمحكمة حول ماهية الاختصاص المكاني للمحكمة الجنائية الدولية في السياق الفلسطيني.
بيّن طلب مكتب الإدعاء للمحكمة أنه وبالرغم من إيمان رئيسة الإدعاء بعدم وجود أي لبس يتعلق بماهية الأراضي التي للمحكمة سلطة التحري فيها، فالأراضي الفلسطينية تشمل الضفة الغربية، والقدس الشرقية وقطاع غزة وفقاً لقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن في الأمم المتحدة عام 1967، يطالب مكتب الادعاء المحكمة بالبت حول حدود الأراضي التي تقع تحت السيادة الفلسطينية وبالتالي تحت اختصاص المحكمة، إتقاءاً لأي تعقيدات قانونية قد تتبلور في مراحل التقاضي اللاحقة.
يأتي هذا الطلب رداً على تقرير مكتب الإدعاء الجزائي الإسرائيلي الذي يشكك بشكل رئيسي بفلسطين كدولة وبالتالي وجود أي شكل من أشكال السيادة. يجادل الجانب الاسرائيلي أنه وفقاً لاتفاقية أوسلو الثانية فقد تخلت فلسطين عن اختصاصها الجزائي في منطقة ج التي تقع فيها أغلب المستوطنات، وبالتالي لا سلطة لها بتوكيل المحكمة الجنائية الدولية في النظر بالجرائم المرتكبة على هذه الأراضي (قدم هذا الجدل المستوطن والمستشار القانوني لمنظمة NGO monitor المعروفة بملاحقتها للحقوقيين الفلسطينيين يوجين كونتوروفيتش) ، ويعد أي تحقيق انتهاكاً للسيادة "الإسرائيلية". يشير التقرير أيضاً أنه وبحكم السيطرة الفعالة لاسرائيل على فلسطين كدولة احتلال، تفتقر فلسطين لأسس السيادة التي تتيح لها توكيل المحكمة الجنائية الدولية، فتعد أراضيها "أراض متنازع عليها"، وأن فلسطين بالأصل لم تكن دولة عام 1967 وبتالي فإن سلطة اسرائيل على أراضيها لا تعد من قبيل ضم الأراضي بالغصب.
يرتكن جدل الجانب الاسرائيلي على تفسير وضعي وضيق للقانون الجنائي الدولي سيؤدي إلى تناقض قانوني لا رجعة بعده في حال اعتمدته المحكمة. إذ يحمل هذا التفسير في قلبه مغالطات فادحة في أسس القانون الدولي. فتتناسى "إسرائيل" أنها دولة محتلة، وأن سلطتها في فلسطين هي سلطة ترتكن على هذا الاحتلال، وبتالي فأي تقليل للسيادة الفلسطينية هو نداء مبطن للاعتراف بضم الأراضي الفلسطينية لـ"اسرائيل" ويعد هذا العمل انتهاكاً مباشراً للقانون المؤسس للأمم المتحدة الذي يُحرّم أخذ الأراضي التابعة لدولة أخرى بالغصب. مع التأكيد أن أوسلو لا تعد تخلياً عن السيادة الفلسطينية، ولا تسمو على حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، وأن الاشارة لها من قبل الجانب الإسرائيلي أقرب الى السخرية نظراً للانتهاكات الصارخة التي ارتكبها الجانب الاسرائيلي لأوسلو. بالإضافة إلى ضعفها الشديد في حماية حقوق الشعب الفلسطيني الذي لم يحظ بتمثيل ملائم في أي من مراحل المفاوضات. أما التشكيك بوجود فلسطين كدولة عام 1967 (بالرغم من أن فكرة ماهية الدولة ترتكن على قوانين متوائمة بشكل شبه حصري مع مفاهيم ومصالح الدول الأروبية وفقاً لمعاهدة ويستفاليا، وبتالي ليست معياراً عادلاً لتحديد حقوق الشعب الفلسطيني) فتشير الوثائق التاريخية من معاهدة لويسيان عام 1923 التي تم توقيعها مابين الدولة العثمانية وبين دول التحالف، إلى تخلي العثمانيين عن سيادة الدول العربية وتشكيل دول عربية مستقلة منها دولة فلسطين. فيما يخص هذه النقطة بالتحديد يبين التقرير الصادر عن مكتب الإدعاء أنه لا يشكك فيما كانت فلسطين دولة أم لا، بل مدى امتداد سيادة هذه الدولة.
التشكيك بشرعية المحكمة الجنائية الدولية
وكما يتوقع المتابع للتكتيكات السياسية الإسرائيلية ، فلقد شن نتينياهو هجوماً ضد شرعية المحكمة الجنائية الدولية وصل إلى حد إتهامها بمعاداة السامية، وانتهاك السيادة "الإسرائيلية". رافقت هذا الهجوم جهود حثيثة لضم أصوات الدول الكبرى لصوت إسرائيل، فحتى الآن قدم عدد من الدول بما فيها ألمانيا والبرازيل وكندا إفادات قانونية للمحكمة الجنائية الدولية مساندة للموقف الإسرائيلي حول غياب السيادة الفلسطينية وبالتالي اختصاص المحكمة. على صعيد آخر، تتركز الجهود الإسرائيلية على المواجهة الشخصية مع الحقوقين الممارسين والأكاديميين القائمين على توفير الخبرات الازمة لدعم الموقف الفلسطيني في المحكمة، بغض النظر عن جنسياتهم وموقعهم الجغرافي (مع التركيز على الحقوقيين في الضفة الغربية). وتشمل هذه المواجهات وضع عراقيل قانونية على حركتهم، وضع عراقيل في المنظمات والجامعات للتشكيك في مناصبهم، وحتى تهديدهم جسدياً وملاحقتهم قانونياً في بعض الحالات.
عند النظر الى هذه الأساليب عن بعد، لامفر من ملاحظة السخرية الكامنة في تجميع هذا الكم من الجهود والآراء الدولية لمنع محكمة اكتسبت شرعيتها من ذات الدول المتقدمة (وبالأخص إسرائيل التي اعتمدت على هذه المنظومة وطورتها لمحاكمة إيخمان أحد موظفي الحكومة النازية عام 1961، والولايات المتحدة التي لاحقت المتورطين في المحرقة في محاكمات نورمبيرغ ) وتحرص كل إجراءاتها الموضوعية في التحقيق على الحيادية التامة عند النظر في جرائم حرب شديدة الدموية يستلزم اثباتها سنوات من التقاضي. فأي موقف مساند للمحاولات الإسرائيلية لصد إختصاص المحكمة هو حماية مباشرة لمجرمي حرب في الحكومة الإسرائيلية، ولبطش الإحتلال الاسرائيلي. وبالتالي فهو تعبير عن رأي يقلل من إنسانية الشعب الفلسطيني، وصفعة مباشرة للنظام القضائي الدولي الذي ترتكز عليه هذه الدول ذاتها لشرعنة مكانتها الدولية. وهو ليس بجديد، بل مجرد إضافة إلىمدى خبث الموقف الدولي حول القضية الفلسطينية بشكل خاص، وقضايا الدول الـ"مشحّرة" (المعروفة بدول العالم الثالث لغياب أي مصطلح أفضل) بشكل عام.
بالمقابل، يرى العديد من خبراء القانون الدولي أن هذه التحقيقات هي فرصة أخيرة لإثبات شرعية المحكمة الجنائية الدولية. فالمحكمة، برأيهم، مازالت سجينة الإنحيازات التاريخية المتمثلة بعدالة المنتصر (أي استخدام القانون لمحاسبة قادة الدولة المهزومة وتناسي الجرائم المرتكبة من قبل الجانب المنتصر) من أهمها محاكمات نوريمبورغ التي أقامتها دول التحالف في الحرب العالمية الثانية لمحاسبة أعضاء النظام النازي، والتي استمدت معاهدة روما من قراراتها أسس القانون الدولي الجنائي. ناهيك عن الأصل الأروبي البحت لمفاهيمها القانونية الجزائية المشبعة بالفكر الليبرال وإقصائها التام للفكر الجزائي والإجتماعي في المجتمعات الأخرى. لحق هذا الإرث المحكمة منذ تأسيسها متمثلاً بتوسع ثقافة عدالة المنتصر في العولمة. فحتى اليوم مازال تركيز المحكمة شبه حصري على صراعات ما بعد الاستعمار في أفريقيا، مما دعى اتحاد الدول الافريقية الى إدانة المحكمة مراراً وتكراراً. امتد تركيزها مؤخراً ليشمل قادة في دول "عالم ثالث" أخرى، لكن مازالت عمياء تماماً إزاء لانتهاكات المرتكبة من قبل القادة في الدول المتقدمة إقتصادياً. أي أن المحكمة مازالت تمثل الفكر الاستعماري فـ "عدالة العالم الأول بمنطق وتشريع العالم الأول كمحل للحضارة، على العالم الثالث كمحل للهمجية". في هذا السياق، قد يكون تحيز المحكمة ضد فلسطين الضربة القاضية لشرعية المحكمة من وجهة نظر العدالة. وقد حرص الخبراء على تأكيد مدى أهمية هذا القرار لمستقبل المحكمة وشرعيتها في الاستشارات المقدمة للمحكمة حسب اضطلاع الكاتبة.
المعضلة الفلسطينية
يعد المفكر جايسون بيكيت، أستاذ القانون الدولي في الجامعة الأمريكية في القاهرة، علاقة الشعب الفلسطيني مع القانون الدولي مثالاً ممتازاً لإثبات التناقضات البنيوية في القانون الدولي. إذ أن القانون الدولي يُستخدم أحياناً لمساندة المطالب الشرعية للشعب الفلسطيني. في حين يمكن استخدام ذات القانون لكبتها عند تبني تفسيرات وضعية تفضل حرفية القانون على تحكيمه في سياقه السياسي والإقتصادي كما هي عادة الحقوقين المؤيدين للموقف الاسرائيلي. وبناءاً على هذا النقد يبيبن بيكيت أنه لا صحة في ادعاء العدالة كأساس القانون الدولي، بل إن القانون الدولي يعمل كدرع أساسي للحفاظ على حال النظام الدولي مستخدماً اسم العدالة لشرعنة سيادته.
يصف نقد بيكيت حال فلسطين مع المحكمة الجنائية الدولية بدقة. من جانب، نظراً لقيامها على مبادئ جزائية واضحة واستخدامها لغة تستند في شرعيتها على العدالة، تمثل المحكمة شكلاً من أشكال المسؤولية للجانب الإسرائيلي، وسيستقي الملايين بصيصاً من الأمل عند رؤية مسؤولين أسرائيلين في المحكمة رغماً عن أنف المعارضة الصهيو-أمريكية (ان اتبعت المحكمة الرأي القانوني السليم واستكملت التحقيقات في كل من الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة). لكن من ناحية أخرى، هذه المسؤولية واهية في سياق الاستبداد الإسرائيلي على مر الزمان، فهذا النظام القانوني هو الذي امتنع عن النظر في الانتهاكات السابقة لإسرائيل وهو الذي علق حقوق الفلسطينين على معايير قانونية وضعية متأصلة في الانحيازات السياسية الدولية. مما يجبر فلسطين على الارتكاء على هذه المؤسسة الليبرالية التي قد تخدم فلسطين على سياق مصغر لكنها وجدت ضمن سياق صراع قوة أكبر يعمل على تطبيع مختلف أشكال الظلم في التاريخ.