مع أزمة انتشار وباء COVID-19، كورونا، ينتشر ويتداول مصطلح "صراع البقاء" كعلامة على المرحلة الفاصلة والمصيرية التي يخوضها الإنسان المعاصر. تحمل مفردة البقاء دلالة الثبات والاستمرارية والمواصلة. بينما تحمل مفردة الصراع دلالة المنافسة والقتال والخلاف. تعود مفردة البقاء بالاستدلال على الذات، بينما تشكلّت مفردة الصراع موجهة ناحية الآخر. غير أن "صراع البقاء" كمصطلح تقني دارويني، يعيد الذاكرة إلى رحلة الإنسان الطويلة منذ نزوله من على الأشجار حتى هبوطه على سطح المريخ، وخوضه مغامرة جسديّة ومعرفية لا يمكن التنبؤ بنتائجها القادمة، فضلاً عن نهايتها، المحتومة بالضرورة.
وفي الحديث عن النهايات في أزمة الوباء الحالية، يتداول البعض من المثقفين العرب، ومعجبيهم، جملاً مثل " نهاية الرأسمالية الغربية" أو " نهاية السيطرة الغربية" أو " نهاية المنظومة الرأسمالية" وغيرها من " النهايات" والخلاصات المتسرعة والمقدمة بلا تحليل ولا قراءة تتناول المشهد الغربي، فضلاً عنه المشهد العالمي. كأن حماسة الأفكار اليسارية التقليدية، والقومية، من ستينات وسبعينات القرن الماضي، بما تحمله من بروبغاندا قدمتها المنظومات الإعلامية للاتحاد السوفيتي وحلفائه، إضافة إلى بروبغاندا الأيديولوجيا الأمريكية المضادة آن ذاك، عادت لتنتعش في العالم الحديث، الذي يختلف بطبيعته عن طبيعة البيئة التي خرجت منها تلك الأفكار.
غير أن هذا البعض لم يتوقف عند تقديم " النهايات" كوجبة سريعة حتى تحدّث عن بدايات عالمية جديدة، مع إحالة هذه البدايات إلى الصين وإمكانيات نظامها الحالي، الذي بوجهة نظر البعض، سيكتب تاريخاً جديداً.
ويتضح من بداية انتشار الأزمة عالمياً، سقوط هذا النوع من المثقفين، مع جماهيرهم، في فخ البروبغاندا المتصارعة، دون التأني في قراءة المشهد والتمهّل في تحليل المعلومات والبيانات، والوثائق، الغير متوفرة حالياً، والقيام بتتبع تدريجي للتغطيات الإعلامية المقدمّة من يناير الماضي. كأن ما كان يدعو له المثقف من تأني وتمعن في قراءة الكتب، بقي محصوراً في الكتب، وانساق بعجلة المغتر يلقي أحكاماً تتناسب مع تحيّزاته، المعلنة حيناً وغير المعلنة حيناً آخر، وإبراز ما تراكم من قراءات وأمنيات في ذهنية العداء للمستعمر والمتحكم الغربي.
في كتابهما " البروبغاندا والإقناع" يعرّف كل من جارث جويت وفيكتوريا أودونل البروبغاندا بأنّها " عملية منهجية تسعى إلى تشكيل تصوّرات معيّنة، عن طريق التلاعب في الإدراك والسلوك المباشر لتحقيق استجابة تعزز الهدف المنشود لصانع البروبغاندا.". إذ يصب كل هذا في استثارة النزعة الأيديولوجية، أو خلقها، عند الملتقي، كي يعمل كآلة آيديولوجية تفعّل العمل الذي يهدف له صانع البروبغاندا، دون حاجة من هذ الصانع إلى استثمار دعائي أو بذل مجهود أكبر، بعد ذلك. فالأثر المتراكم سيقوم بإعادة برمجة المنظومة الفكرية، أو المحفزات الداخلية، لدى المتلقي.
فاستعادة الصراع الغربي الشرقي، الأمريكي السوفيتي / الروسي، الرأسمالي الاشتراكي، ليس مصادفة عابرة أو استرجاعاً لتاريخ سابق، بهدف إعادة قراءة تاريخية، أو مقارنة. فالأثر المتراكم من صراعات ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي أنتجته الحملات الدعائية وصدام السياسات المتصارعة على السيطرة العالمية، إضافة إلى ما أنتجته السينما والآداب والفنون والأطروحات الفلسفية والقنوات الإعلامية، ما زال يفعل فعله في دواخل الكائن البشري. فالصدامات التاريخية لا تنتهي حتى تورّث ما بعدها.
يقول البروفيسور البريطاني نيكولس أوشونيسي " تتضمن البروبغاندا، بشكل عام، نقل رسالة واضحة ... ناقلٌ معقّد للحلول البسيطة.". العمل الذي يقوم به هذا الناقل، البروبغاندا، للرسالة الواضحة تقنياً أكثر تعقيداً، وربّما خطراً، من الرسالة نفسها. مثال ذلك، العمليات الإعلامية والدعائية التي قامت بها إدارة جورش بوش بعد أحداث 11 سبتمبر ورفعها لشعار " الحرب على الإرهاب"، بقدر ما أوقد وحشد حماسة الشباب الأمريكي وقوى جيش الولايات المتحدة، ووجّه إصبع الإدانة إلى إرهاب طالبان، بقدر ما أوجد إيديولوجية إرهابية أخرى منتزعة من الإنسانية باسم الحرب لأجل تخليص الإنسانية من الإرهاب. والتي ما زالت آثارها في المجتمع الأمريكي وخطابه الثقافي. ذات العامل الذي نقل الكثير من الشباب العربي عام 2011 في سوريا وليبيا والعراق من عملية المطالبات الحقوقية والانتفاضة السلمية إلى الانضمام إلى جيوش داعش، التي تحارب الطاغية، والتحوّل إلى طغاة أشد وحشيةً وفتكا.
من هنا يمكن النظر إلى ما تقوم به المؤسسات الصينية، وحلفاؤها، في الوقت الحالي، من توجيه النظرات والتساؤلات والمطالبات بإجابات واضحة وصريحة عن حقيقة ما حدث قبل شيوع خبر انتشار وباء كورونا، وكيفية تعامل الحكومة الصينية، ومدة اكتشافها لوجود الفايروس، قبل اتخاذ إجراءات الحجر واتباع توصيات منظمة الصحة العالمية، ونقلها إلى اتهام القوات الأمريكية بفعل نشر الفايروس. وهذا ما حرّض الكثير من الرافضين للسياسات الأمريكية الخارجية إلى إذاعة وجود حرب بيولوجية خفيّة.
تناول الكثير من العرب والمسلمين، وبعض المثقفين بشكل خاص، ما أعلنته الصين، المؤسسات التي تساند منهجها، على أنه الجواب الأرجح، إن لم يكن الحقيقة، لما سبب انتشار الفايروس. من ذات المنطلق، قام البعض باستعادة الحس الأيديولوجي ضد الرأسمالية التقليدية ليسقطها على المنظومة الاقتصادية الحالية من جانب، والمؤسسات السياسية الغربية من جانب آخر. كما حرّض ذلك الكثير من المتدينين على بدء الإعلان عن هشاشة العالم المادي وقوة العالم الروحي. وكأنّ الجميع اكتشف وأدرك ما حدث، وتنبأ بما سيحدث، خلال فترة وجيزة!
وهذا ينطبق على بعض مؤسسات الإعلام العربية التي بدأت بالدخول في ميدان نشر البروبغاندا لا الخبر، خصوصاً تلك التي تتخذ موقفاً إيديولوجياً من الغرب عامة والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص. فبدلاً من نشر ما يحدث عالمياً استناداً على الدلائل والمعلومات المؤكدة والمتاحة، عملت هذه المؤسسات على صنع بعض الأخبار وتوجيهها إلى الجانب الذي يعزز المعاداة ضد كل ما هو غربي وأمريكي، والذي يحتم بالضرورة إظهار الحكومة الصينية بأنقى الصور.
يشير كل من جارث جويت وفيكتوريا أودونل إلى أنّ البروبغاندا عنصر مهم في عمليات السياسات الخارجية للحكومات، خصوصاً عندما يحين موعد " حرب الكلمات". ما يحدث الآن ما بين الصين والولايات المتحدة عبارة عن حرب كلمات واتهامات لا تعمل فقط في صنع عوامل ضغط أو إدانة سياسية بقدر ما تعمل على تأسيس قاعدة أيديولوجية ينطلق المتلقون من خلالها للاصطفاف وتفضيل طرف على طرف آخر. قد أوافق من يقول بأن هذه المرحلة ستنقل العالم إلى مرحلة جديدة، ولكن ليس بالطريقة الدرامية المصوّرة، وليس على المستويين الاقتصادي والسياسي فقط، أي كما يدعي البعض بأن قوى جديدة ستفرض سيطرتها على العالم، بل سننتقل جميعاً إلى مرحلة جديدة على مستوى التواصل ونقل المعلومات، وتأمين المنظمات السياسية والاقتصادية من السقوط، لا بشكلها الصوري الحالي بل بقواعد قوامها التأسيسية الحالية. فالخوف الذي يسكن الإنسان المعاصر ويحركّه للنجاة بأي طريقة ممكنة، إضافة إلى التقنيات والمعارف والمؤسسات المعرفية الثقافية القائمة، لا تستطيع ولا تحتمل الانتقال إلى شكل جديد مختلف، هذا إن وجد ما يشكّل ملامح بنيان هذا الجديد، أو يرسم بداية مسار، من الأساس. كما أن الرجوع إلى تشكلات النظم القديمة، كالاشتراكية المركزية، ليس سوى ضرب من الوهم. خصوصاً مع اعتمادنا التام على عوالم الخوارزميات وتقنياتها، في جميع الحقول، من الإنتاج الزراعي حتى الاستثمار في عوالم الفضاء الخارجي. وأيضاً، لارتباط الهيكلة التأسيسية للشركات التي تدير هذه العوالم ارتباطاً مباشراً بالمنظمات السياسية والاقتصادية الحالية. ليس هذا فقط، بل وساهمت هذه الشركات في تطوير المنظمات القائمة ونقلها من مستوى إلى مستوى أكثر تقدماً.
ما يخيف في الأزمة الحالية، التي تواجهها البشرية، ليس عدم القدرة على الحد من انتشار الوباء بأسرع ما يمكن، فقط، بل عدم القدرة على مواجهة السيل الهائل من البروبغاندا والمعلومات الخاطئة والإحصائيات التي توضع في غير محلها، إذ يمكن استغلال الإحصائية الصحيحة في نقل الرسالة والمعلومة الخاطئة. ما يخيف في عملية نشر المعلومات الكترونياً ليس نشر الأكاذيب، بل نشر المعلومات الصحيحة في السياق الخاطئ.
يذكر البروفيسور والمفكر الأمريكي شارلز سيف في كتابه Virtual Unreality ، " المعلومات الرقمية هي أكثر الأمراض المعدية الآن على كوكب الأرض.". لا يبالغ شارلز في وصفه أبداً. بل يمكن القول بأنه أدق وصف يصوّر لنا الوضع الذي نعيشه الآن. ولأن الإنسان يريد البقاء، بشكل أو بآخر، في منطقة آمنة داخلياً، توفّر له البروبغاندا التي تنعش تحيّزاته وتوجهها هذه المنطقة. كما تعطيه وفرة المعلومات وتدفقها، العشوائي، شعوراً بتمكنّه من الوصول إلى الإجابات المنشودة.
وقوع الكثير من المثقفين في فخ البروبغاندا الحديثة لا يتوقف عند استرجاع وتحفيز أثر المتراكم فقط، فعامل سهولة وصول الناس إلى المعلومات، وسهولة إرسال المعلومات إلى الناس، يشكّل خطورة في توجيه الناس من خلال المعلومات، وخطورة عملهم كفاعل في توجيه وتشويه المعلومات من ناحية أخرى، أكثر منه تهديداً للأنظمة السياسية القائمة. من هنا يشير شارلز سيف إلى أنّ " ظهور نسخ رقمية معلوماتية رخيصة ومثالية أدى إلى تدمير الطريقة التي نفكر بها كبشر بشأن المعلومات.". لم تعد عدم وفرة المعلومات للإنسان هي المشكلة اليوم، بل فيضانها الذي غيّر طريقة التفكير والتركيز. فكأنما قرر الإنسان خوض السباق مع المعلومات وسرعتها بتناولها والتفاعل السريع معها وأهمل أدوات القراءة، ومنها التدقيق والفحص والتأكد والتفكير والتأمل.
بقدر ما تحتاج هذه المرحلة إلى الانعزال عن المجتمع واتباع تعليمات المنظمات الصحية والانتظار، تحتاج أيضاً إلى التأني في قراءتها والنفاذ إلى ما وراء المشهد. فخوض سباق مع الكم الهائل من المعلومات هو سباق خاسر بالضرورة. في مثل هذه الظروف يتبين دور المثقف الفعلي وكفاءته. يقول جورج أورويل في مقدمة مزرعة الحيوان، " يمكن إسكات الأفكار غير المرغوبة، والتعتيم على الحقائق غير الملائمة دون الحاجة إلى حظر رسمي ... لأن هناك اتفاقاً ضمنياً عاماً على عدم ذكر هذه الحقيقة."، في سياقنا الحالي، هذا ما تفعله البروبغاندا عن طريق من وقع في شراكها. وفي ذكر الحقائق والوقائع، هناك حقيقة وحدة في الوقت الحالي، وهي أننا لا نعرف الكثير عما حدث، ولا نعرف ما يخبئه المستقبل القريب، والبعيد.