من المرجح أن ما نتعامل معه اليوم على أنه حقيقة علمية ثابتة، لن يبقى كذلك في السنوات القادمة. سيأتي أحدهم يومًا ما، ويطرح نظرية تنقض سابقتها، وبناء عليها سيتغير فهمنا للعالم. من هو هذا الشخص وكيف سيفعل ذلك؟ لا أدري، لكن ما أنا متأكد منه أن ذلك لن يكون من خلال تغريدة من ٢٤٠ حرف في تويتر.
مع وجود مواقع التواصل الاجتماعي – بصفتها منصة تتيح لكل الأشخاص باختلاف مستواهم العلمي والفكري الحديث في كل الأمور والمسائل – تضخمت لدينا ظاهرة جديدة تتمثل في قيام أحدهم بطرح رأي شاذ من دون دليل أو برهان، يتبعه تصفيق واحتفاء من مجموعة أشخاص يدعمونه وينشرونه باعتباره خلق حالة من (إثارة الجدل وزعزعة الثوابت). وهذا السلوك أدى بدوره إلى تصعيد (إثارة الجدل) بصفتها قيمة بذاتها. بل وتمادى البعض في وصف هذا السلوك بأنه جوهر الممارسة الفلسفية، واضعين هؤلاء المغردين في موضع مقارنة مع سقراط وهيغل وماركس.
يعرف (الجدل) بأنه: " صناعة تمكن الإنسان من إقامة الحجج المؤلفة من المُسَّلمات أو من ردها حسب الإرادة"[1]. ويهمني من التعريف فكرة (إقامة الحجج) وهي موضع اعتراضنا على هؤلاء. حين نقول مثلًا أن أفلاطون صنع جدلًا حين رفض الشعر، فهو إنما فعل ذلك من خلال عملية بناء معرفي متكاملة، بدءًا بتأسيس نظرية معرفية عامة، انتقالًا إلى ربطها بالسياسة والأخلاق، وصولًا إلى رفض الشعر بحجة تعارضه مع الفضيلة، وجاء ذلك في عملية حوار فلسفية متكاملة استعرض خلالها نماذج من شعر عصره مستخرجًا منها ما يدعم فكرته[2]. والأمر نفسه ينطبق على الجدل الذي صنعته حركة ما بعد الحداثة بعد أن رفضت ما كان متعارفًا عليه في تلك الحقبة بـ (السرديات الكبرى)، وكان هذا الرفض مدعمًا بدراسات معمقة لهذه السرديات وقراءات تفكيكية لخطاباتها؛ أي أنه تم فعليًا إقامة الحجج لصناعة الجدل. وما كان لهذه الآراء أن تكون محترمة – معرفيًا وتاريخيًا - لو كتبت مختزلة بتويتر بتغريدة تقول مثلًا " ايمانويل كانت مفكر ساذج يعيش في عالم مفصول عن الواقع" حتى لو كان ناشر هذه التغريدة فيلسوفًا بحجم جاك دريدا. وهذا الأمر بشكل أو بآخر ينطبق على دعوتهم الثانية وهي (زعزعة الثوابت) أو (تحريك المياه الراكدة) وغيرها من الافيهات المجازية التي يستخدمونها. أولًا هذا الرأي يقوم على مغالطة تعمم نظرة سلبية على الثوابت كافة. ثم إن الثوابت ما صارت ثوابت إلا لرسوخها في التاريخ والوجدان البشري، وهذا لا يعني بالضرورة صحتها، لكن نقضها يتطلب على الأقل احترامها والبحث في جذورها والبنى التي ترتبت عليها. وهذه الثوابت ليست بالضرورة أمورًا مرتبطة بالدين والأعراف الاجتماعية والأيدولوجيات وغيرها، قد تكون الثوابت بمثابة رأي جمالي شبه متفق عليه بين جماعة ما؛ مثل أن يشيع في الأوساط الأدبية بأن دستويفسكي واحد من أهم الروائيين في التاريخ. وشيوع هذا الرأي ما جاء اعتباطًا إنما هو مدعم بمئات الدراسات والقراءات النقدية والبحوث الأكاديمية، ولكي تنقضه تحتاج لتبني حجة تفوق الحجة الأخرى، لا أن تلقي رأيك جزافًا. أعلم بأنني سأتهم هنا بالسلفية وتصنيم الرموز والدعوة لتقديسها. لكن في الواقع إن كل ما أدعو له هو احترام العلم الذي من خلاله حصلت هذه الرموز على مكانتها. فالقول إن آينشتاين من أهم رموز الفيزياء، رأي غير مبني على شخصه، بل نظرياته التي قدمها والتي أكد لنا علماء الفيزياء على أهميتها.
المسألة الأخيرة؛ معظم هذه الآراء التي تدّعي إثارة الجدل هي آراء رجعية ترتد إلى مناطق تم تجاوزها - معرفيًا - في التاريخ، في حين أن المطلوب من الجدل المعرفي هو خلق فكرة جديدة نتقدم من خلالها إلى الأمام. فقد يخرج شخص ويقول بأن الطب اليوم مجرد تجارة وهم ولكي نعالج السرطان يكفينا أن ندهن أصابع أقدامنا بزيت الزيتون. وحين تقول له بأن رأيك تافه سيجيب وهل هذا يعني أن أبقراط الحكيم حين قال هذا الرأي كان تافهًا؟ وهذه مغالطة أخرى تجرد الرأي من سياقه التاريخي، وتتجاهل أن أبقراط قال هذا قبل ٢٥٠٠ سنة، وأن كل جهود العلماء والأطباء من بعده نقضت رأيه الذي كان وقتها محترمًا وبمثابة الشرارة التي أطلقت عنان الفكر. وهذا ليس مثالًا تهكميًا، إذ بالفعل هنالك اليوم من يدعي بأن السرطان كذبة وأن التطعيمات واللقاحات التي قضى العلم قرونًا لتطويرها مجرد مؤامرة رأسمالية، وأن الأرض مسطحة، والآداب والفنون مضيعة للوقت.
كيف انتشرت هذه الأفكار الفلسفية العبقرية التي أثارت الجدل وزعزعت ثوابت البشرية؟ من خلال كتب علمية وبحوث محكمة؟ لا، المسألة أبسط من هذا بكثر؛ ضع جهازًا إلكترونيًا في يد أي شخص يتوهم نفسه عالمًا أو فيلسوفًا، وسترى العجب.