جاك جيلبرت (1925- 2012) شاعرٌ أمريكي احتقر الشهرة والمجد واختار التجوال في أوربا والحياة في كوخ متواضع في الريف اليوناني، مؤمّناً من الدخل ما يكفيه قوت يومه، وتخللت هذا الغياب عن أمريكا الذي استمر عشرين عاماً عزلة طويلة كرسها جاك جلبرت للتأمل وكتابة الشعر، وأثمرت أعمالاً شعرية حققت له شهرة واسعة وحضوراً متفرداً في الشعر الأمريكي المعاصر.
يختلف جاك جيلبرت عن غيره من الشعراء الأمريكيين بأنه شاعر لا يفصل بين الفكر والشعر، فالشعر في منظوره مجرد زخارف غنائية إذا خلا من الفكر وإذا لم يستند إلى تأمل في فحوى الوجود وفي المفاهيم السائدة وفي الثقافة التي ابتكرها المجتمع لنفسه وعاش تحتها كما لو أنها درع سلحفاة.
يمكن تعريف قصيدة جاك جيلبرت بأنها القصيدة التي تتغلغل إلى ما وراء الأشياء والأفكار والمفاهيم كي تشير إلي الفراغ، وإلى المجهول، وإلى عالم مقلق ومخيف، فهناك جسد خلف الجسد، ،حب وراء الحب، ونحتاج إلى أن نعيش بعمق وامتلاء كي نصل إلى هذه المستويات.
ولد جاك جلبرت ونشأ في بيتسبرغ بولاية بنسلفانيا، وبعد دراسته للثانوية عمل بائعاً متجولاً وفي معامل الصلب ومكافحة الحشرات. درس في جامعة بتسبرغ حيث ركز على الشعر. وبعد أن نشر ديوانه الأول ”مناظر الخطر“ في 1962 والذي لفت الأنظار إلى موهبته الشعرية على الفور، سافر إلى أوربا وفرض على نفسه عزلة اختيارية اعتبرها بحثاً روحياً كي يصف اغترابه عن الثقافة الأمريكية السائدة.
في مقال كتبته عنه الروائية الأمريكية المعروفة إليزابث جيلبرت قالت إنه لم يكترث بالشهرة أبداً، و”كان هناك شيء فيه جذب الناس وسحرهم. فقد كان أنيقاً، مشبوب العاطفة، وجذاباً ومتألقاً على خشبة المسرح. وكان قطباً للنساء ووثناً للرجال. ونُشرتْ صوره في مجلة فوغ، وبدا رائعاً ورومانطيقياً. أغرم الناس به. وكان بوسعه أن يصبح أحد نجوم الروك. لكنه اختفى عن الأنظار بدلاً من ذلك. ولم يرد أن يلهيه صخب الشهرة“.
صدر ديوانه الثاني بعنوان ”أحجار المونوليث“ في 1982 وفاز بجائزة ستانلي كونتيز وجائزة أميركان بويتري ريفيو، وصدر ديوانه الثالث ”نيران عظيمة: قصائد 1982-1992، الذي حصل على جائزة لانان. صدر ”رفض الفردوس“ في 2005 وحصل على جائزة دائرة نقاد الكتاب الوطنية.
كان جاك جيلبرت مقلاً في شعره وأصدر خمسة دواوين فقط وكان يميل إلى الاختصار والدقة واعتصار اللغة، وكتابة القصيدة العصارة، المتخلصة من الشوائب ولهذا لقب نفسه بأنه شاعر الضرورة والاختيار والحذف.
النيران العظيمة
الحب مستقلٌّ عن الأشياء كلها.
لا قيمةَ للرغبة والإثارة بالمقارنة معه.
لا يعثرُ الجسد على الحب
بل يقودُنا إليه
لكن ما ليس حباً يُحرّضهُ
وما ليس حباً يُخمده.
يستحوذ الحب على كلّ ما نعرفه.
والأهواء التي تُسمّى حباً
تغيّر أيضاً جميع الأشياء في البداية
وتُضْفي عليها جدةً.
الهيامُ هو الطريق الواضح
لكنه لا يقودنا إلى الحب
بل يفتح قلاع أرواحنا
كي نعثر على الحب الذي
هو لغزٌ مختبئ فيها.
إن الحب أحد النيران العظيمة الكثيرة.
الهيام نار تغذيها أنواع متعددة من الحطب
ولكل منها رائحته الخاصة
وهكذا نستطيع معرفة الأنواع الكثيرة
التي ليست حباً. الهيامُ هو الورقةُ
والأغصانُ التي تُشعل ألسنة اللهب
لكنه لا يستطيع أن يغذيها، ذلك أن الرغبة تهلك
لأنها تحاول أن تكون حباً.
وتدمّر الشهوةُ الحب.
لا يدومُ الحب، لكنه مختلف
عن الأهواء التي لا تستمر.
يدوم الحب بعدم استمراره.
قال إشعيا: يسير كل إنسان في نيرانه الخاصة
من أجل ذنوبه. أما الحب فيسمح لنا أن نسير
في الموسيقى العذبة لقلبنا الخاص.
مَزِّقْهُ
لا نعثرُ على القلب إلا إذا هَدمْنا
ما يعرفهُ. حين نعاودُ تعريف الصباح،
نعثر على صباحٍ يأتي بعد الظلمة فحسب.
نستطيع أن نتغلغل في الزواج إلى الزواج.
بإلحاحنا على الحب نُفسده، نتجاوز العاطفة
ونغوص عميقاً في الحب.
يجب أن ننسى الكوكبات كي نرى النجوم.
لكن العودة إلى الخلف، نحو الطفولة، لا تساعدنا.
إن القرية ليست أفضل من بيتسبرغ.
إن بيتسبرغ هي أكثر من بيتسبرغ فحسب
وروما أفضل من روما وعلى نحو مماثل
إن صوت الراكونات التي تلعق
الجدران الداخلية لحاوية القمامة
أكثر من ضجيجها في القمامة القذرة.
ليس الحب كافياً.
نموت ونُدْفَنُ في التراب إلى الأبد.
ينبغي أن نلحّ ما دام ما هناك وقت. ينبغي
أن نفتح طريقنا في براري جسدها الجميل
الممدَّد في سريرنا
كي نصلَ إلى الجسد داخل ذلك الجسد.
جنوب
في البلدات الصغيرة الواقعة على ضفاف النهر
لا شيء يحدث في كل يوم طويل بعد آخر.
أسابيع الصيف تتواصل إلى الأبد،
والزواجات الطويلة تكرر نفسها.
لا يحدث إلا حالات الطوارىء والولادات
وممارسة صيد الأسماك من أجل الإثارة. ثم
تبزغُ سفينةٌ من الضباب. أو تدور
المنعطف بحذرٍ في صباح ممطر،
عابرةً بين أشجار الصنوبر والأدغال.
تصلُ في ليلة حارة يفوح منها الشذى
ثم تنطلق بعد يومين
تاركة الغضب في أعقابها.
البحث عن بيتسبرغ
يدفعُ الثعلب رأسه برفقٍ وبعمىً عبْري في الليل،
بين كبدي ومعدتي. يصلُ إلى القلب
فيتردّد. يفكّر ثم يلتفّ حوله
محاولاً أن يتجنب وداعة عالمنا العنيف.
يذهب إلى أعمق، باحثاً عما تبقى من بيتسبرغ
في داخلي، عن الطواحين العملاقة الصدئة التي تتوضع على
ضفاف ثلاثة أنهار، عن الهيبة التي تفرضها.
الأزقة الرملية التي كنا نلعب فيها كل مساء
ملطخة باللون القرنفلي من الجحيم
الذي يندفع دوماً في السماء،
كما لو أن المسيح والأب كانا ما يزالان يخلقان الأرض.
السيارات تندفع تحت المطر البارد،
إلهية ووحشية في قوتها. وثمة مياه هائلة تتدفق
صباحاً ومساء عبر مدينة محاطة بتسعين جسراً
عريضة الأكتاف، نحيلة الأفخاذ، عنيدة ومهيبة وجامحة.
كلها تحكم وطوفان، امتصاصٌ جبارٌ وجمالٌ عميق الجذور.
يا مدينةَ الآجرّ والخشب المُنْهَك
يا مدينةَ الثيران والأرواح السيدة
يا بيتسبرغ البدائية
في شهرٍ شتائيّ بعد آخر تروينَ قصصاً عن الموت، حيث جمالكِ
يجبرنا بقدر ما تجبرنا قسوتكِ.
تشكلتْ أرواحنا في تلك البراري،
وعُجنتْ عقولنا من ذلك القلب
ومعاً نصنع معنى لأميركا.
راقبني الثعلب أبني بيتسبرغي مرة بعد أخرى.
في أصائل باريس في حديقة بوتس تشاومونت. وفي الجزر اليونانية
بحقولها الحجرية. وفي الأسرّة مع النساء، أحياناً، وسط رقتهنّ.
والآن سيعيش الثعلب في بيتنا المهدم.
كانت ثمار الطماطم التي زرعتها تنمو وتنضج بين الأعشاب
وصوت المياه.
في ذلك المكان السعيد الذي صنعه قلبي بصدق.
أمطار
فجأةً هذه الهزيمة.
هذه الأمطار.
صارت ألحان البلوز رمادية
صارت الألوان البنية رمادية
والصفراء كهرماناً مريعاً.
وفي الشوارع الباردة
جسدكِ الدافئ.
وفي أيما غرفة
جسدك الدافئ.
بين الناس
غيابكِ
الناس الذين هم دوماً
ليسوا أنت.
كنتُ مرتاحاً مع الأشجار
لوقت طويل.
كنت أعرف الجبال جيداً.
وكانت المتعة عادة.
الآن
فجأةً
هذه الأمطار.
صورة في صيف نيويوركي
أسيرُ معها إلى منزلها بعد العمل
نشتري الورود ونتحدث عن البيانوهات الألمانية.
كانت مليئة بالحيوية.
غرفتها الصغيرة حارة جداً
وليس فيها نوافذ.
تتعرى من كل شيء عدا بنطلونها
تنزع الدبابيس من شعرها
وترميها على الأرض
مصدرة ضجيجاً عالياً.
وكما حدث في ”كريت“
لا نمارس الحب.
تصعد إلى السرير
بحلمتيها الناتئتين
نستلقي متعرقين
ونتحدث عن صديقي المفضل.
كانا عاشقين.
وحين أهدأ
تشغّل موسيقى دي بوسي
ثم، وهي متكئة على الأضلاع الصغيرة
تعضّني بقسوة.
خيولٌ في منتصف ليل بلا قمر
يتجول قلبنا ضائعاً في الغابات المظلمة.
يصارع حلمنا في قلعةِ شكّ.
لكنّ في داخلنا موسيقى. يُدْفَع الأمل إلى أسفل
فيطيرُ الملاك مرة ثانية ويأخذنا معه.
تبدأ صباحات الصيف بوصة بوصة
بينما ننام، وتستيقظ معنا فيما بعد
كحسناء بساقين طويلتين عبر
الشوارع القذرة. ليس مفاجئاً
أن الخطر والمعاناة يحيطان بنا.
ما يُدهش هو الغناء.
نعرفُ أن الخيول هي هناك في المرج المظلم
لأننا نستطيع أن نشمّ رائحتها،
نستطيع أن نسمع تنفسها.
تستمر روحنا كرجل يصارع
عبر الوادي المتجمد
والذي يستنشق فجأة عطر أزهار
ويدرك أن الثلوج بدأت بالذوبان
خارج البصر على قمة الجبل،
ويعرف أن الربيع قد بدأ.
رسالة دفاع
الأحزانُ منتشرة في جميع الأمكنة. القتلُ يحدثُ في كل مكان. وإذا لم يكن الأطفال
يتضوّرون جوعاً في مكانٍ ما، فهم يموتون من الجوع في مكان آخر،
والذباب يغفّ على فتحات أنوفهم.
لكننا نستمتع بحياتنا، لأن هذه مشيئة الله.
وإلا لما جُعلت الصباحات التي سبقت مجيء الصيف بهذه
الروعة. ولما حيكَ النمر البنغالي بهذا الجمال كما لو بمعجزة.
وعند النبع تضحك النساء الفقيرات معاً رغم معاناتهن
والمستقبل البغيض الذي ينتظرهن، يبْتسمن ويضْحكن بينما أحدٌ ما
في القرية مريضٌ جداً.
ويتعالى الضحك كل يوم في شوارع كلكتا المريعة،
وتقهقه النساء في أقفاص بومبي.
إذا أنكرنا سعادتنا، وقاومنا رضانا،
سنقلّل من أهمية حرمانهنّ.
يجب أن نخاطر من أجل الفرح. نستطيع أن نعيش بلا لذة،
ولكن ليس بلا فرح. ليس بلا استمتاع. يجب
أن نكون عنيدين كي نقبل سعادتنا في فرن
هذا العالم الظالم.
وإذا ما جعلنا الظلم مقياساً وحيداً لانتباهنا
فهذا يعني أننا نمدح الشيطان.
وإذا ما دهستنا قاطرةُ الخالق
ينبغي أن نكون شاكرين لأن للنهاية هيبة.
ينبغي الاعتراف أنه ستكون هناك موسيقى بالرغم من كلّ شيء.
نقفُ ثانيةً في قيدوم سفينةٍ صغيرة
رستْ في وقت متأخر من الليل في مرفأ صغير
ناظرين إلى الجزيرة الصغيرة:
الواجهة المائية ثلاثة مقاه مغلقة وضوءٌ وحيد عار متوهج.
إن سماعنا لصوت المجاذيف الخافت في الليل فيما يخرج زورق
ببطء ثم يعود يعوّض عن كل سنوات الأسى القادمة.
الفشل والطيران
ينسى الجميع أن إيكاروس طارَ أيضاً،
الأمر مماثلٌ حين ينتهي الحب،
أو يفشل الزواج ويقول الناس إنهم
كانوا يعرفون أن هذا خطأ،
وإن الجميع قالوا إن الأمر لن يعمل أبداً،
وإنها ناضجة بما يكفي كي تعرف ذلك.
لكن أي شيء يستحق الفعل يجب أن يُفعل بإخلاص
مثلما كنتَ هناك قرب بحر الصيف ذاك
على الجانب الآخر من الجزيرة بينما
كان الحب يتلاشى منها، والنجوم
تتوهج بشكل مفرط في تلك الليالي بحيث
يستطيع أي شخص أن يقول لك إنها لن تستمر طويلاً.
كل صباح، وهي نائمة في سريري
كطيف زائر، كانت رقيقةً كظبي
يقف في ضباب الفجر.
كنت أراقبها كل صباح وهي تعود
عبر الحقل الحجري الحار بعد السباحة،
وهج البحر خلفها والسماء الشاسعة
في الجانب الآخر.
كنت أصغي إليها حين نتناول الغداء.
كيف يقولون إن الزواج
فشل؟ كمثل الأشخاص
الذين عادوا من بروفانس (حين كانت بروفانس)
وقالوا إنها كانت جميلة لكن الطعام مدهن.
أعتقد أن إيكاروس لم يفشل حين سقط
بل وصل إلى نهاية انتصاره فحسب.
ما الذي يمكن قوله
مفكراً
بتلك القفزة بين التوحش
والعاطفة
حيث يوجد كل شيء.
ما الذي هناك كي أقوله
ما الذي يقولونه في كل صباح جديد في الفردوس؟
سيملّون من شخصٍ يُنشد
دوماً كم هي خضراء الأشجار
في الفردوس.
أكيد أنه سيبدو تقليداً
وعاطفة
أن تغتبط كل مرة
تمرّ فيها هيلين، بما
أنها ستمر كل يوم.
ما الذي أستطيع قوله إذا في كلّ مرةٍ
توهّج بياضكِ وتجسّد في ذلك الظلام؟
إذا في كل مرة تفتّح صوتك
قريباً في ذلك الجديد المظلم؟
ما الذي أستطيع قوله كل صباح
بعد ذلك ستصدقينه؟ لكن
هناك ذلك الغناء الريفي
العنيد في داخلي
آه كل مرة.
اللهجة المنسية للقلب
كم هو مدهشٌ أن اللغة يمكن تقريباً أن تعني،
وكم هو مخيف أنها لا تفعل هذا تماماً.
نقول: الحبّ، نقول الله، نكتبُ روما وميتشيكو،
فتعبّر الكلمات عن ذلك كله بشكل خاطئ.
نقول خبزاً فتعني بحسب كل أمة.
لا يمتلك الفرنسيون كلمة لمنزل،
لا نملك كلمة للمتعة الصارمة.
شعب في شمال الهند بدأ يختفي
لأن لغته القديمة ليس فيها كلمات للتحبب.
ربما تستطيع النصوص الإتروسكية أن تشرح في النهاية
لماذا الأزواج في قبورهم يبتسمون. وربما لا.
حين تُرجمت آلاف من الألواح السومرية الغامضة بدت سجلات أعمال.
لكن ماذا لو كانت قصائد ومزامير؟
إن متعتي هي مثل اثنتا عشرة عنزة إثيوبية تقف صامتة في ضوء الصباح.
آه يا إلهي، أنتَ ألواحٌ من الملح وسبائك من النحاس.
مهيبٌ كما يميل الشعير الناضج حين تهب الريح.
ثدياها ستة ثيران بيضاء محملة بقطن مصري طويل الألياف.
حبي مائة إبريق من العسل.
حمولات سفن من خشب شجر الحياة هي ما يريد أن يقوله جسدي لجسدكِ.
زرافاتٌ هي هذه الرغبة في الليل.
ربما النص اللولبي المينويّ ليس لغة بل خريطة.
ما نشعر به لا اسم له إلا الجمر والرماة والقرفة والأحصنة والطيور.
[ترجمة: أسامة إسبر]