مثل كل الكوارث والأزمات والإرهاب والحروب المدمّرة التي تثير التفكير وطرح الأسئلة الكبرى حول مصير العالم والحياة البشريّة، فأنّ الجدل الفكريّ والسّياسيّ والفلسفيّ وتبادل الإتهامات، حول تفشي وباء كورونا وما يمكن أن يفرضه من خسائر مؤلمة وتراجعات على العالم وطبيعة الحياة البشريّة، لم ينقطع، بل يتواصل ويتزايد لحظة بعد اخرى. وقد زاد من وتيرته دخول مجموعة من المفكرين والفلاسفة الذين يمتلكون التأثير والحضور القوي في الإعلام والجامعات والمراكز البحثيّة والعلميّة، وكذلك كونهم أصوات مسموعة على الصّعيد الرّسميّ والأكاديميّ والثقافيّ أيضًا، وفي الكتابة والتنظير واقتراح الحلول لما يحدث في العالم ووقائع حياتنا اليوميّة.
من المؤكد، أنّ ثمّة خلافات كثيرة وكبيرة بينهم، تصل مرحلة الصّراع والتقاطع الفكريّ الحاد، لكنّهم يقولون كل شيء عن وقائع عالم اليوم وأزماته المتواصلة، وطبيعة الأنظمة السّياسيّة الحاكمة وممارساتها في مجال الحقوق والحريّات الإنسانيّة. تشومسكي، وآلان باديو، وجورجيو أغامبين، وسلافوي جيجيك، وجان لوك نانسي، وبيون تشول هان، و روبيرتو إسبزيتو، وجوديث بتلر، وجاك أتالي وكارستن ينسن وأسماء اخرى تقدّم تصوّراتها عن العالم الذي يواجه أخطر أزمة في تاريخه المعاصر.
حتى هذه اللحظة، فإنّ مقالات وحوارات هذه المجموعة من المفكرين والفلاسفة حول أزمة وباء كورونا وتعامل الدّول والأنظمة وطبيعة استجاباتها للتحذيرات وطريقة تعاطيها مع بوادرانتشاره وتحوله إلى كارثة صحيّة واجتماعيّة وسياسيّة وإقتصاديّة، تبيّن أنّ العالم الرّأسمالي، بكل أنظمته وحكوماته وممارساته، يواجه أزمة حادّة وعميقة، وأنّ الرّكون إلى سياسات النيوليبراليّة والإصرارعليها يقود العالم نحو أزمات جديدة ومتواصلة حتى لو كان الخطر أقل من وباء بمستوى كورونا! تصوّرات كهذه تحوّلت إلى وقائع وانتقادات يردّدها سكان العالم ضد الحكومات والأنظمة السّياسيّة التي تحكم عالم اليوم، ولافرق في هذا بين أمريكا أو الصّين والعراق ومصر وبريطانيا وفي كل بقعة تفشى فيها وباء كورونا، وممارساتها وانحيازها التّام لصالح الشركات والبنوك وأصحاب رؤوس الأموال على حساب حياة النّاس ومعاناتهم وفقرهم وبطالتهم وصحّتهم. ولعل تردي قطاع الخدمات الصّحيّة الذي فضحه وباء كورونا وعدم توفر الأجهزة الطبيّة والعلاجيّة التي تنقذ حياة المرضى كانّ الحقيقة الأبرز التي فاقمت من حدّة الإنتقادات الموجّهة إلى الحكومات والمؤسّسات الصّحية في العالم.
كان لجوء الأنظمة الحاكمة في العالم الى خطاب الموت والتأكيد الجازم على فقد المئات والآلاف من سكان الدّول، أمرًا مفزعًا ومخيفًا يحمل ملامح قرار هذه الأنظمة بالتخلي عن حياة النّاس وتركهم في مواجهة الموت. لم يتوقّف هذا الخطاب عند محاولة تحويل الموت الجماعي إلى أمر واقع: سيموت الكثير، ستفقدون أحبائكم، سيموت كبار السّن فقط....إلخ، بل تعداه إلى خطاب فاشي ضد كبار السّن والتّعامل مع حياتهم وأرواحهم وحقهم بالعيش بعنصريّة صريحة جدًا، وإنّ عليهم الموت لحماية الإقتصاد، كما صرّح بذلك "جوف دان باتريك" نائب حاكم ولاية تكساس الأمريكيّة، وهو الخطاب الذي لايختلف عن خطاب رئيس وزراء بريطانيا وقبله رئيس وزراء إيطاليا، وهولندا والسّويد أيضًا!
قد يتمكن العالم من احتواء هذه الأزمة والتّعامل مع الوباء، لكنّه سيفقد الكثير، لأنّ للأزمة تبعات كبيرة ومرهقة على الصّعيد الإقتصادي والإجتماعي. ربّما سنكون إزاء نظام عالميّ جديد وإنّ عالم ما بعد كورونا لن يكون كما كان قبله، كما يذهب وزير الخارجيّة الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، وقبله الكثير من الذين استشرفوا مخاطر كورونا والتبعات المحتملة التي سيتركها على العالم. وفي نفس الوقت سيترك تأثيراته المباشرة والصّريحة على طبيعة علاقة الأفراد بالنّظام الرأسمالي وقدرتهم على الثقة به كضامن لحياتهم من عدمه.
إنّ الحديث عن إنهيار النّظام الرّأسمالي كنتيجة مباشرة لأزمة وباء كورونا لايعدو أن يكون محض خيال، لايعادله سوى إطلاق الخيال لعودة الشيوعيّة وفق تصورات جيجيك، أو إمكانية تحوّلها إلى بديل سياسي وإجتماعي مغاير، وكرد فعل على مايحدث في عالم اليوم من فقر وبطالة وأمراض وإنعدام العدالة واللامساواة..إلخ.
من المؤكد أنّ الرّأسمالية وأنظمتها لن تسقط أو تنهار بالسّهولة التي يتم الحديث بها، وقد تكون أزمة كورونا أسوة بأزمات اخرى سابقة لكنّها لم تُسقط الرأسمالية، بل كشفت عن سياسات وممارسات الأنظمة الحاكمة وإنحيازها لصالح جزء من المجتمع على حساب الجزء الأعظم. فهذا- إسقاط الرأسماليّة- لن يتحقّق إلا بوجود قوى سياسيّة وإجتماعيّة ثوريّة ترتقي بفكرها وممارساتها إلى مستوى التوقعات بإمكانية إنبثاق عالم جديد، حر ومرفه ينحاز للإنسان وآماله وحرياته، وما أحدثته التّطورات التقنيّة والمعلوماتيّة والإتصالات من تغيرات كبرى على العالم وعلى حياة البشر وتصوّراتهم عن كل مايحدث، بل وحتّى على نمط تفكيرهم وعلاقاتهم الإجتماعيّة والتّغييرات التي حدثت في سوق العمل وبروز وظائف جديدة...إلخ، لتتمكن من تجاوز الرّأسماليّة في قضايا كثيرة كالحقوق والحريّات والرّفاه والعدالة والمساواة. عندما يكون العالم في حالة حرب، يمكن للقوى الإجتماعيّة والطبقيّة والسّياسيّة الثوريّة أن تستغل هذا الواقع وتفرض بديلها الثوري. وثمّة تجارب سابقة عديدة في تاريخ الأقرب والأبعد، لكنّ العالم، الآن، كله، مهزوم. الحكومات والأفراد والمؤسّسات والأنظمة الصّحية، والكل يبحث عن ملاذ آمن من الوباء والعدوى والإصابة بالفايروس المرعب، حتّى الذين يطالبون بمواجهة الأنظمة الرّأسماليّة وإسقاطها!
ومن المعروف أنّ القوى الإجتماعيّة والطبقيّة التي يعوّل عليها في مواجهة النّظام الرّأسماليّ، حكومات وشركات وأنظمة سياسيّة وإجتماعيّة وثقافيّة، أي الطبقة العاملة، باتت تواجه تحديات كثيرة بفعل التّطور الصّناعي والتكنولوجي الذي غيّر وجه العالم. وفرض حالة التشتيت المتواصل الذي قلّص قوى العمّال بفعل تسريح الملايين منهم في المعامل والشركات التي تحوّلت إلى الصّناعات الرّقميّة والتقنيّة الحديثة ودفع العمّال إلى أرصفة البطالة أو ليمارسوا أعمالاً متعدّدة وغير ثابتة تتغيّر بفعل الدّخل الذي يحصلون عليه جراء ممارستهم لهذه الأعمال وقدرته على سد جوع عوائلهم. الأمر الذي أشاع ما عُرف بالعمالة الهشّة، وكذلك بروز قطاعات خدميّة وتجاريّة جديدة حوّلت الإنترنيت إلى أداة تسويق ومنافسة. كل ذلك ترك آثاره على الطبقة العاملة وتكوينها وبنيتها الطبقيّة وعلى طبيعة تفكيرها ومهمّاتها القادمة. إنّ الآثار التي تركتها التّحولات الصّناعيّة والتكنولوجيّة على الطبقة العاملة، لاتختلف عن تلك الآثار التي تركتها الحروب وتدمير البلدان وماترتب عليها من هجرة وبطالة وفقر.
إنّ الإضرابات العماليّة التي اندلعت في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وأمريكا جاءت للرّد على سياسات الحكومات ودفاعها عن الشركات وأصحاب رؤوس الأموال بعد أن تم إستثناء المصانع والشركات من قرار الإغلاق، ودفع ملايين العمّال لمواصلة العمل رغم عدم توفر شروط السّلامة الصّحيّة وانعدام وسائل الحماية والوقاية في مصانع مزدحمة ممّا يهدّد بتفشي الوباء بين العمّال وسهولة إنتقاله في الأماكن المغلقة، نجاح هذه الإضرابات في تعطيل الشركات والإبقاء على خطوط الإنتاج الضروريّة عزّز من إمكانية نجاح العمّال في الدّفاع عن وجودهم والإحتجاج على الاستغلال الذين يتعرّضون له في أحلك الظروف، كما يحدث الآن، مع وباء كورونا. وربّما سيفتح لهم الطريق نحو تحركات أكثر فاعليّة بعد كورونا، ولعل تصفية حساباتهم مع النقابات الانتهازية والقيادات التي تتاجر بالعمّال ومصالحهم وكذلك تحيد أفقهم السياسي والطبقي الذي يحدد مهامهم ومطالبهم وقدرتهم على التنظيم والمواجهة، مِن أبرز خطواتهم المقبلة في عالم مابعد كورونا.
إذا كان ثمّة شيء تحقّق حتّى الآن، وأفرزته أزمة وباء كورونا بشكل جلي، فهو الإقرار بأنّ النيوليبراليّة وسياساتها قد وصلت إلى النّهاية ولم يعد لديها ماتقدّمه سوى صورتها اللصوصيّة والمهيمنة والمتحكّمة في صناعة القرار السّياسي. قد نشهد نهاية عهد سلطة البنوك والشركات الكبرى أو تحجيمها مقابل العودة إلى الدّولة المسؤولة عن حياة الأفراد وسلامتهم وصحّتهم وتعليمهم وضمان حياتهم وبطالتهم..إلخ. ليس نظام رأسماليّة الدّولة، لكنّ الدّولة التي توازن مابين العام والخاص، الطريق الثالث أو الدّيمقراطيّة الإجتماعيّة الذي كان سائدًا في الكثير من الدّول الأوربيّة. ولعل النّموذج الإسكندنافي هو النّموذج الأكثر بروزًا آنذاك لكنّه أصيب بتراجعات كبيرة بحكم توجّهات الليبراليّة الجديدة التي سادت العالم، وبروز قوى اليمين المتطرّف، وكانت تأثيراتها واضحة في دول كثيرة، وحيث جاءت سياسة تقليص الإنفاق العام في مجالات الصّحة والضّمانات الإجتماعيّة والتربية والتّعليم والخدمات والثقافة لتكون الممارسة الأبرز لليبراليّة الجديدة التي أوصلت الجميع إلى التهلكة.