حول ترجمة الآداب العربية إلى الفارسية: حوار مع المترجم الإيراني ستار جليلزاده

حول ترجمة الآداب العربية إلى الفارسية: حوار مع المترجم الإيراني ستار جليلزاده

حول ترجمة الآداب العربية إلى الفارسية: حوار مع المترجم الإيراني ستار جليلزاده

By : Jan Dost جان دوست

تعود العلاقة بين الثقافتين العربية والفارسية القديمة إلى ما قبل الإسلام. لكن هذه العلاقة شهدت تطوراً هائلاً بعد دخول الإسلام إلى بلاد فارس وانزياح الثقافة الفارسية لصالح الثقافة العربية التي كان حاملها الأساسي القرآن الكريم بلغته العربية. وقد أحدث الإسلام صدمة كبيرة في المجتمعات الإيرانية، ولكن سرعان ما امتص الإيرانيون هذه الصدمة وتعافت اللغة الفارسية بعد حوالى قرن ونصف بتشجيع مباشر من الغزنويين والسامانيين الذين حكموا إيران حتى حدود الهند وبرزت إلى الوجود لغة فارسية بنكهة عربية. وقد نشطت حركة الترجمة من الفارسية ولكن بنسبة أقل بكثير من الحركة التي شهدتها ساحات الترجمة عن الفلسفة الإغريقية. وفي العصر الحديث زاد الاهتمام المتبادل بين الأدبين العربي والفارسي ثم تضاعف هذه الاهتمام مع بروز ونهوض فن الرواية لدى الإيرانيين والعرب على حد سواء.

في إيران الآن حركة ترجمة حثيثة تقودها طبقة من كبار المترجمين مثل رحيم فروغي، ستار جليلزاده، عظيم طهماسبي وموسى بيدج وغيرهم ممن أقبلوا على الروايات العربية فترجموها إلى لغة حافظ الشيرازي وعمر الخيام. في هذا الحوار يحدثنا المترجم ستار جليلزاده عن هموم الترجمة ومتعها اللانهائية.

ولد ستار جليلزاده في مدینة فلاحیة "شادگان" في محافظة عربستان (خوزستان) في سنة 1956. التحق بمعهد إعداد المعلمین وعکف بعد ذلك علی تدریس اللغتين الفارسیة والعربیة وآدابهما. حصل علی ماجستیر في اللغة والآداب العربیة من الجامعة الحرة في کرج قرب العاصمة الإيرانية طهران.

شارک في مؤتمرات أدبیة کثیرة ومن أهمها مهرجان گلاویژ الثقافي في السلیمانیة بإقلیم کردستان. ترجم الكثير من الروايات العربية إلى الفارسية، كما أصدر مختارات مترجمة من القصائد والقصص العربية القصيرة.

بداية لو تحدثنا عن سر اهتمامك باللغة العربية وآدابها؟ متى بدأ ذلك وما الذي جعلك تنجذب إلى هذا المجال؟

ولدت في مكان اشتهر بأرض النخيل والشعر وغدران المياه، في منطقة الفلاحية أو شادكان من توابع محافظة خوزستان التي يمتاز أهلها بالود والبساطة والطيبة، يمكن القول بكل جرأة إن 95% من أهلها يتحدثون اللغة العربية ولديهم آدابهم الخاصة، هذه المدينة ربت وأنشأت بين جنباتها الكثير من الشعراء الشعبيين، لقد أمضيتُ طفولتي وسط هؤلاء الناس الودودين. ارتدت المدرسة وحصلت على شهادة الدبلوم ومن ثم اضطررت من أجلجل متابعة التعليم إلى ترك المنطقة والتحقت بمعهد إعداد المعلمين، وعكفت على تدريس اللغة الفارسية والعربية وآدابهما في مدن عدة حتى استقر بي المطاف في مدينة كرج، وبسبب ميلي الشديد إلى اللغة العربية وآدابها قررت متابعة تحصيلي العلمي في هذا المجال، فالتحقت بجامعة كرج الحرة، وتعلمت آداب اللغة العربية وأتقنتها أكثر من أي وقت مضى على يد أساتذة خبراء متمرسين. وفي الحقيقة في تلك اللحظات اضطرمت شرارة الترجمة في خلدي وبدأت بالاتقاد، وتمكنت من ترجمة أول مجموعة شعرية تضم بين دفتيها مختارات شعرية لأربعة شعراء عرب مشهورين وهم نزار قباني، أدونيس، غادة السمان، قاسم حداد ونشرت باللغتين معاً. ومنذ ذلك الوقت حتى الآن قمت بترجمة ونشر قرابة 15 أثراً في مجالات مختلفة في الشعر والقصة والرواية ومجموعة مقالات مترجمة.

ترجمت أعمال عديدة وهامة من العربية إلى الفارسية من أهمها مختارات من الشعر العربي المعاصر كما أخبرتنا في جوابك السابق وكذلك مختارات من القصة وروايات عديدة لأهم الروائيين العرب، كيف تختار هذه الأعمال؟

اختيار أثر ما مرتبط بعوامل عديدة منها هدف المترجم من ترجمة النص، المتلقي أو قارئ النص، نوع وأسلوب وسياق النص، وعليه أبذل جهدي آخذاً مجموع هذه العوامل بعين الاعتبار كي أوجد الأثر ذاته في القارئ أو أخلق المتعة والتأثير ذاته الذي خبره قارئ النص الأساسي.

نعم صدرت مجموعة تحمل عنوان "عالمٌ خالٍ من عيون مترقبة" (جهان از چشم‌های منتظر خالی‌ست) وفي الحقيقة هو عبارة عن أنطولوجيا للشعر العربي المعاصر، يقع في 950 صفحة ويتضمن بين دفتيه 104 شعراء عرب من 17 دولة عربية ومقتطفات مختصرة ومفيدة حول حياتهم وآثارهم إلى جانب نماذج من أشعارهم.

[غلاف كتاب لنزار قباني بالفارسية]

فيما يتعلق بالمجموعة القصصية أشير إلى أن هذه المجموعة تقع في 450 صفحة وتحمل عنوان "رماد فوق الجرح" (خاکستر روی زخم) وتشمل خمسين قصة قصيرة لخمسين كاتباً عربياً معاصراً من تسع دول عربية وهي (الجزائر، المغرب، تونس، ليبيا، مصر، سورية، العراق، فلسطين، الكويت) وأعمل حالياً على إعداد مجموعة ثانية منها تتضمن كُتّاباً من دول عربية أخرى، كما ترجمت مجموعة مقالات للدكتور هاشم صالح تحمل عنوان "العبقرية والجنون" (نبوغ وجنون) وتتضمن سبع مقالات له. بعدها ترجمت رواية "الضوء الأزرق" (نور آبی) لحسين جميل البرغوثي وهو روائي فلسطيني، كما نشرت أيضاً مجموعات شعرية عدة لشعراء عرب معاصرين باللغتين. "أيام العشق" (دوران عاشقی) مختارات من أشعار غادة السمان و"كوني من أبجديتي" (از حروف الفبایم باش) مختارات من أشعار نزار قباني وكتاب "والرفض إنجيلي" (و انکار انجیل من است) مختارات من أشعار أدونيس. كما ترجمت كتاب "اعترافات أبو نواس" للكاتب المصري كامل الشناوي وكتاب "حبيبي داعشي" (داعشی خاطر خواه) للكاتبة المصرية هاجر عبد الصمد وكتاب "عاشقة تحت المطر" (زنی عاشق زیر باران) مختارات من أشعار غادة السمان وكتاب "حرب الكلب الثانية" (جنگ دوم سگ) للكاتب المشهور إبراهيم نصرالله الحائز على جائزة البوكر العربية عام 2018، وكتاب "بابا سارتر" للكاتب العراقي علي بدر، وفي الوقت الراهن هناك آثار عديدة مترجمة قيد الطباعة.

كيف تنظر إلى الترجمة كفعل معرفي حضاري؟ هل يمكن التعويل عليها في التقريب بين الشعوب في خضم هذه الحروب والنزاعات التي نشهدها؟

الإنسان كائن اجتماعي وبناءً على التجارب التاريخية فهو يمتلك مع نفسه وفي نفسه خلفية غنية تراكمية من أنواع الثقافات. لا يوجد إنسان أو ثقافة بإمكانها اعتبار نفسها بغنى عن تجارب الآخرين، لهذا السبب فإن تأثر الثقافات بعضها ببعض له أثر بالغ في ازدهار المجتمعات وتقدمها، وهنا لا يمكن إنكار دور الترجمة في نقل العناصر الثقافية. تعتبر الترجمة إحدى صلات الوصل الثقافية بين الأمم التي لا تجمعها لغة مشتركة كما تسهم في نقل الأفكار والعقائد والحكايات والفنون من لغة إلى لغة أخرى.

وحول القضايا المتعلقة بالنزاعات والحروب التي أشرت لها، فاليوم تتجلى أهمية الترجمة أكثر من أي وقت مضى. نحن نحتاج إلى إقامة اتصال وتفاعل مع الآخر، وكلما كان هذا التعامل والتفاعل أكثر عمقاً وثباتاً غدت الوشائج والعلاقات أكثر عمقاً وأشد رسوخاً. في الحقيقة الترجمة امتلكت هذه المقدرة وما تزال، فقد أزالت الحدود بين الدول ووسعت آفاق اتصال المجتمعات مع بعضها.

تشهد حركة الترجمة من العربية إلى الفارسية تصاعداً مستمراً لا سيما في مجال الرواية خاصة بعد ظهور جوائز روائية مشهورة في العالم العربي، كيف ترون استقبال القارئ الإيراني لترجماتكم وترجمات زملائكم الآخرين من المترجمين؟

في الواقع بما يتعلق بمجال ترجمة الآداب العربية المعاصرة سواء رواية أو قصة أو شعر قياساً باللغات الأخرى المترجمة إلى اللغة الفارسية مثل اللغة الإنكليزية والفرنسية والألمانية وغيرها، فإن حصة اللغة العربية لم تكن كبيرة وما تزال، على الرغم من أن حصة ترجمة الشعر أكبر من حصة بقية الأجناس الأدبية مثل الرواية والقصة والمسرحية، ويمكن القول بصراحة إنه تمت ترجمة ونشر أكثر من مائة أثر لشعراء عرب معاصرين، كان أبرزهم نزار قباني، غادة السمان، محمود درويش، وأدونيس.

[غلاف كتاب لغادة السمان بالفارسية]

إذا أردنا التطرق لمجال القصة، يتعين علينا العودة قليلاً إلى الوراء إلى مسير الترجمة من العربية إلى الفارسية إلى أواخر العهد القاجاري والبهلوي الأول والثاني، ولن نجد في ما تُرجم من رواية وقصة باستثناء الروايات التاريخية لجرجي زيدان وبضعة آثار أخرى مثل "الأيام" لطه حسين أو ترجمة مسرحيات توفيق الحكيم، ترجمات جدية حقيقة، واستمر الأمر على هذا المنوال حتى حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب، هذه الجائزة لفتت أنظار المترجمين أكثر من ذي قبل إلى روايات نجيب محفوظ والروايات الأخرى للكتاب العرب المعاصرين، وفي العقد الأول الذي أعقب الثورة في إیران بتنا نلحظ ترجمات لروايات نجيب محفوظ والروائيين الآخرين مثل غسان كنفاني. لكن سرعة هذا المسير تعاظمت بشدة خلال العقد الأخير، وأحد أهم أسباب ذلك يرجع إلى ظهور جائزة البوكر للرواية العربية التي جذبت الكثير من المترجمين ومن بينهم أنا أيضاً. وحتى الآن تمت ترجمة آثار جيدة والتي بدورها باتت تحجز مكانها شيئاً فشيئاً وسط القراء الإيرانيين. على الرغم من أننا لن نصل إلى النقطة المثالية بيد أنني أقيم الأوضاع بنظرة متفائلة وأنا متأكد أن الرواية العربية مثل بقية الروايات الأخرى المترجمة عن الآداب الغربية ستكون موضع ترحيب أيضاً.

تعيش العلاقات السياسية بين إيران وبعض الدول العربية مرحلة حرجة قوامها التوتر وحتى حالات من العداء، برأيك هل يستطيع الأدب لعب دور ما في تخفيف التوتر السياسي لصالح شعوب المنطقة؟

العلاقات السياسية بين إيران والدول العربية مثل كافة العلاقات السياسية القائمة مع العالم، لا أحللها بمعزل عن بعضها.  

ولكي نحدد إلى أي مدى بإمكان الأدب وبمعزل عن التوترات أن يقّرب الشعوب بعضها إلى بعض، يتعين علينا أن نخوض غمار بحث في مجال علم الاجتماع الأدبي. أقول باختصار شديد إننا إذا اتفقنا على اعتبار الأدب محصلة الحياة الاجتماعية والمفاهيم الذهنية والمشاعر والأفكار البشرية، سنخلص إلى نتيجه مفادها أن الأدب ولا سيما "الرواية" بإمكانها أن تقّرب الشعوب بعضها من بعض من جوانب عدة.

هل هناك تنسيق بين المترجمين الإيرانيين في ضبط حركة الترجمة؟ أم أن المترجمين يعملون بشكل فردي؟ ما هي مشاكل الترجمة من العربية باختصار؟

طبعاً أمر يدعو للأسف القول إن كل المترجمين في مجال الأدب سواء أولئك الذين يترجمون من اللغة العربية أو سائر اللغات الأخرى، ليس بينهم أي تعاون إطلاقاً ويعملون بشكل فردي. ربما تحدث بعض الاستشارات من منطلق الصداقة، لكن فيما يتعلق بموضوع العمل المؤسساتي والجماعي  أستطيع أن أقول إنه لا يوجد شيء من هذا القبيل على الإطلاق.

أما عن الشق الآخر من السؤال، فالجواب أنه لدينا مترجمون محترفون ومتمرسون من بينهم: محمد جواهر کلام، رضا عامری، محمد رضا مرعشی، موسی بیدج، محمد حزبایی، کاظم آل یاسین، رحیم فروغی، محمد حمادی، عظیم طهماسبی، صادق دارابی، مریم حیدري، نرگس قندیل زاده، یداله ملایری، کریم پور زبید ومترجمون آخرون. وتتم دراسة الكثير من الأعمال المترجمة في الجامعات الإيرانية من خلال الأساتذة والطلاب في الأطروحات الجامعية، لكن الأمر الذي نعاني منه كمترجمين هو عدم وجود مرجع نقدي محترف للأعمال المترجمة.

المترجم الإيراني عظيم طهماسبي اشتكى في حوار سابق من قلة الاهتمام بترجماتكم؟ هل توافقه الرأي؟ ولماذا؟

لقد قرأت حوار زميلي المحترم عظيم طهماسبي بعناية واهتمام بالغ وسعدت به كثيراً، لكن بإيجاز أقول: أنا متفائل كثيراً بالتصاعد المتعاظم لترجمة الرواية العربية ومكانتها بين القراء الإيرانيين.

أنا متأكد من أن الرواية العربية ستكون موضع ترحيب كبقية الروايات الأخرى المترجمة عن الآداب الغربية. لم يمض سوى عقدين من الزمن على اهتمام المترجمين بالرواية العربية ويتعين الانتظار قليلاً، وأجزم أن هناك نتائج جيدة سوف تتحقق في هذا الصدد.

[أجرى الحوار: جان دوست]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • كتب: اللاهي

      كتب: اللاهي

      "لدت فكرة الرواية من خلال التأمل في نصوص قرأتها سابقاً وعلى فترات متباعدة جداً ابتداءً من بداية شبابي إلى الآن. وفاءً لقراءاتي الكثيرة اخترت نصوصاً بعينها أعجبتني واشتغلت عليها."

    • حوار مع الفنان التشكيلي محمد سيدا

      حوار مع الفنان التشكيلي محمد سيدا

      في مستهل الألفية الثالثة، غادر الشاب محمد سيدا بلدته الصغيرة عامودا هاربًا بأنامله وخياله وحقيبة صغيرة تحمل ما تبقى من عطر تلك البلاد إلى شمال الدنيا.

    • الفنان الكردي مجو كندش: كثيرة هي الأوطان التي تحولت إلى منافي دائمة لمواطنيها

      الفنان الكردي مجو كندش: كثيرة هي الأوطان التي تحولت إلى منافي دائمة لمواطنيها

      ولد الفنان الكردي السوري مجو كندش في بلدة كوباني عام 1966، وهو مغني وملحن وعازف بزق عصامي. اهتم بالموسيقى منذ صغره وبرزت مواهبه في المدرسة وهو في العاشرة من العمر. انتقل مع زوجته الفرنسية عام 1999 إلى مدينة نيوشاتل في سويسرا واستقر هناك.

كتب: عمر فوده: بيرة مصر: ستيلا، الهوية والدولة الحديثة

عمر فوده: بيرة مصر: ستيلا والهوية والدولة الحديثة (دار نشر جامعة تكساس، ٢٠١٩)

جدلية: ما الذي دفعك إلى تأليف الكتاب؟

ع ف: بدأ المشروع كمشروع شخصي. كنت أفكر بعدة مواضيع لأطروحة الماجستير، لكنني لم أستطع اختيار واحد. فقررت أن أفعل شيئاً مختلفاً بشكل كامل، وأن أحاول أن أعرف ما أقدر عليه عن زمن جدي الذي عمل في أضخم شركة لإنتاج البيرة في مصر، والتي دعتها أسرتي ”ستيلا“ فحسب. ما اعتقدت أنه سيكون إلهاء فكرياً سريعاً قبل أن أعثر على موضوع أطروحتي ”الحقيقي“ صار شيئاً أكثر من ذلك.  إن تاريخ الشركة، المتواصل إلى الآن تحت اسم شركة الأهرام للمشروبات، يمكن تعقبه إلى نهاية القرن التاسع عشر.  وقبل أن تصبح شركة الأهرام، كانت شركتين، وكانتا أحياناً متنافستين وأحياناً متعاونتين، وهما مصنعا ”التاج“  و“الأهرام“ للجعة. ومن قاعدتيهما في الإسكندرية (بيرة التاج) والقاهرة (الأهرام) ضمت هاتان الشركتان أشخاصاً وأفكاراً من بريطانيا وبلجيكا وهولندا وسويسرا والسودان وتركيا وأبعد من ذلك بكثير مما تحدى فهمي  حول ما هو ”الأجنبي“ و“المحلي“  حين تعلق الأمر بمصر واقتصادها. بالإضافة إلى ذلك، كانت الشركتان محطتي توليد ماليتين في البلاد لفترة من الزمن.  وحتى حين خرجتا من صفوف شركات البلاد الأكثر ربحاً، حظيتا بأكثر من قرن من النجاح الذي لا يُدحض. والأكثر أهمية أنهما كانتا شركتين تبيعان الكحول في سياق الغالبية المسلمة في مصر. وبالنسبة لكثيرين، بما فيه المرتبكين أو المهانين من فكرة ثقافات الشرب في البلدان ذات الغالبية الإسلامية، كان يجب ألا توجدا. أما كونهما لم توجدا فحسب، بل ازدهرتا أيضاً، فقد كان هذا مثيراً للاستكشاف أكثر.

جدلية: أية موضوعات معينة، ومسائل وأدبيات يعالج الكتاب؟

ع ف: بالرغم من أن هذا الكتاب هو عن شركتيْ التاج والهرم إلا أن موضوعه الرئيسي هو المُنتج الذي باعتاه بشكل مشترك، وأعني بيرة ستيلا.  وكي أروي قصة صعود ستيلا كبيرة مصرية وصراعها من أجل فرض حضورها في مصر المعاصرة، اعتمدت على تاريخ مهجن. وبدلاً من فصل المسألتين الاقتصادية والسياسية عن بعضهما، بينت أن المجالين لا يمتلكان معنى إلا حين يُنظر إليهما معاً.  إن الحاجة لربط الاقتصادي بالثقافي ملحة خاصة في حقل البضائع الاستهلاكية، حيث يتوقف نجاح أو فشل شركة على قدرتها على قبول أو رفض أو حتى تغيير الأعراف والممارسات الثقافية. وهكذا فإن كتابي يبحث في كل من مسائل الاقتصاد الكلي (الاندماج الاقتصادي العالمي والإمبريالية الاقتصادية) ومسائل الاقتصاد الجزئي (الأسعار والاستهلاك والتوزيع) مع المسائل الاجتماعية والثقافية، بما فيه تطور طبقة وسطى، وظهور ثقافة الشباب، وتسييس الدين، والمفاهيم المتغيرة للتسلية في الحياة اليومية.

فضلاً عن ذلك، يضيف  هذا الكتاب إلى الأدب المتنامي حول تاريخ التكنولوجيا. ويفحص على نحو محدد كيف أن التقدم التكنولوجي (كالتقنيات الجديدة في إنتاج الجعة والتبريد والنقل) لم  تدعم فحسب الاتجاهات والتطورات في مبيعات ستيلا، بل صاغت أيضاً النماذج الاستهلاكية وبدلت المفاهيم الثقافية للطعام والشراب والتغذية. وتوضح هذه الدراسة أيضاً كيف أن بيرة ستيلا، والشركتين اللتين كانتا تبيعانها، نجحوا لأنهم استخدموا تكنولوجيا جديدة، كمثل التبريد، لاستغلال الميز الكامنة للسياق المصري، بما فيه توفر المياه، وقوة العمالة الرخيصة، وعدد السكان الكبير. وهكذا، إن تاريخ التكنولوجيا يخدم كأداة أخرى يدمج الكتاب من خلالها الاقتصادي والثقافي.

جدلية: كيف يرتبط هذا الكتاب مع كتبك السابقة أو ينفصل عنها؟

ع ف: إن كتاب ”بيرة مصر“ تتويج للعمل الذي بدأته حين شرعت بتحضير أطروحتي للماجستير، والتي ركزتْ على تاريخ البيرة في مصر.  وتواصل الأمر مع أطروحتي والتي كانت نظرة موسعة إلى صناعة البيرة في مصر.

ويختلف هذا الكتاب عن تلك الأعمال، وأعمال أخرى كتبتها، في أنه يركز على المنتج نفسه، ستيلا. ما تزال التاج والهرم وهاينكين والحكومة المصرية شخصيات في هذه الحكاية لكن ستيلا هي النجم، إن شئتم. ولقد ساعدني التركيز على البيرة على تركيز انتباهي على الأسئلة الكبيرة التي كنت أسعى إلى الإجابة عليها.

جدلية: من تأمل أن يقرأ كتابك؟ وأي نوع من التأثير تحب أن يحدثه؟

ع ف: هل يُسمح لي أن أقول: الجميع؟ واقعياً، ثمة خمسة أنواع من الجمهور كانت في ذهني حين ألفت الكتاب.

المختصون بالدراسات المصرية: إن رد فعل هذه المجموعة الإيجابي بشكل كبير على أطروحتي في الماجستير هو الذي دفعني إلى متابعة هذا الموضوع. إن ستيلا، سواء كانت جيدة أو سيئة، هي شركة في مصر، لكنني لا أعتقد أن أحداً، بمن فيهم أنا، أدرك كم هي متشابكة بعمق مع تاريخ البلاد. وهذا ينطبق حتى على التاريخ المجاور لمصر. مثلاً، إن الفرعون الأميركي، آخر حصان فاز بسباق التريبل كراون (سباق التاج الثلاثي)، كان يمتلكه أحمد زيات.  احذروا كيف جمع المال الذي احتاج إليه لشراء اصطبل؟ ستيلا.  اشترى شركة الأهرام في 1997 وباعها لهاينكين في 2003.

الأخصائيون في الشرق الأوسط: يضيف هذا الكتاب إلى الاتجاه المتنامي لدراسات الاستهلاك حول الشرق الأوسط. وبما أن المنطقة مسيسة، على الأرض وفي الدراسات الأكاديمية، يمكن أن يكون من السهل عدم اعتبار كتابي كتاباً يعالج مسائل ”واقعية“ في المنطقة.  لن أنكر أن هناك مسائل جدية تواجه الشرق الأوسط، لكنني سأقول إن دراسات استهلاك جيدة يمكن أن تقدم نافذة رائعة ومفتوحة (وهذا أكثر أهمية) على التطور التاريخي  لكثير من هذه المسائل. مثلاً، تقدم الدراسة التاريخية لاستهلاك الكحول في الشرق الأوسط وجهة نظر فريدة حول التاريخ الديني للمنطقة.

مؤرخو الأعمال: كان هذا التخصص الفرعي مركِّزاً على الغرب، وصحح كتابي هذا قليلاً، خاصة أن بيرة ستيلا هي موضوع دراسة ساحر لفهم نجاح العمل من خلال أطر الاستعمار والأنظمة الاقتصادية اللارأسمالية. وكان دمج مصر في سوق عالمي يهيمن عليه الغرب جوهرياً للمشروع الاستعماري البريطاني. مع ذلك، احتوى نموذج عمل بيرة ستيلا على المعاني الحافة والمحيطة التي تتجاوز كونه استغلالاً غربياً للسكان المحليين. وعلى نحو مشابه، إن نظرتي المعمقة في أنشطة شركتيْ (التاج والهرم) اللتين كانتا تبيعان بيرة ستيلا بين 1950 و1980 يمكن أن تساعد في فهم كيف قامت الشركتان بنجاح بالانتقال بين النظامين الرأسمالي واللارأسمالي.

قراء التاريخ ذوو الاهتمامات العامة: بما أن بيرة ستيلا شركة لها جذور تاريخية وثقافية عميقة في مصر، أعتقد أن الكتاب يقدم مدخلاً مهماً إلى تاريخ البلاد.  ويقدم تحول المنتج الذي بطول قرن مرآة رائعة للتاريخ المصري في فترة زمنية متقلبة.

محبو البيرة: أخيراً، في وقت تشهد فيه صناعة البيرة في الولايات المتحدة وفي الخارج انبعاثاً شعبياً، يقدم هذا الكتاب قصة ممتعة حول صانعي بيرة يقاتلون كي ينتجوا بيرة عالية الجودة في بلاد أغلبية سكانها من المسلمين.  وسيروق هذا الكتاب لأي صانع بيرة منزلي أو متحمس للبيرة.

جدلية: ما المشاريع الأخرى التي تعمل عليها الآن؟

ع ف: إن مشروعي التالي هو ”هل من أجل طعمها فقط؟ الصودا والصراع على الأمْركة في مصر“.  أستخدم في هذا الكتاب الصودا (المشروبات الغازية المحلاة)  لرصد علاقة مصر مع أميركا في القرن العشرين. ورغم أن الشركتين الكبيرتين (كوكا- كولا وبيبسي كولا) دخلتا مصر في الثلاثينيات لم تصبحا مشروعين رابحين إلا في الثمانينيات.  إن هذه الانطلاقة المتأخرة (والنمو الانفجاري منذ الثمانينيات) غريبة بشكل خاص إذا أخذنا بالاعتبار حب مصر للسكر والمشروبات المحلاة. لكن شركتي الكولا العملاقتين هاتين لم تتمكنا من الاستفادة من الميزات المتضمنة للسوق لعدد من الأسباب الثقافية والسياسية والدينية والتكنولوجية المختلفة. إن شرح ما الذي عرقل إمبراطوريتيْ الكولا هاتين لسنوات كثيرة، وما الذي مهد الطريق في النهاية لنجاحهما الجامح، يلقي الضوء على العلاقة المشحونة تاريخياً بين مصر وأميركا.

جدلية: هل لبيرة ستيلا المصرية علاقة ببيرة ستيلا أروتواز البلجيكية؟

ع ف: كان هذا على الأرجح السؤال الذي طُرح علي أكثر من غيره.  وجوابي الأولي هو على الأرجح كلا.  أما الجواب النهائي فغير جاهز لأنني لم أتمكن من العثور على أي مصدر كي أؤكد أو أنفي هذه الصلة.  تمتلك الستيلا المصرية جذوراً بلجيكية. تأسست التاج والهرم من قبل بلجيكيين في مصر، لكن بعد أن اشترى البلجيكيون جاءت التاج والهرم بعرضهما الاستثنائي، ستيلا. هل ألهمتهما ستيلا أرتواز؟ لن يفاجئني هذا بما أن كلتيهما بيرة ممتازة. لكنني في الحقيقة لا أمتلك الجواب. إن المشكلة الرئيسية هي أنني لا أمتلك تاريخاً دقيقاً حول متى بدأ مصنع أرتواز للجعة باستخدام اسم ستيلا. وبشكل شخصي أكثر، أنا لا أبحث عن جواب لأنني أمضيت حياتي كلها وأنا أردد:“كلا….كلا ليس تلك الستيلا“.

[لقراءة المقال بالانجيليزية، اضغط/ي هنا]

[ترجمة: أسامة إسبر]