تعود العلاقة بين الثقافتين العربية والفارسية القديمة إلى ما قبل الإسلام. لكن هذه العلاقة شهدت تطوراً هائلاً بعد دخول الإسلام إلى بلاد فارس وانزياح الثقافة الفارسية لصالح الثقافة العربية التي كان حاملها الأساسي القرآن الكريم بلغته العربية. وقد أحدث الإسلام صدمة كبيرة في المجتمعات الإيرانية، ولكن سرعان ما امتص الإيرانيون هذه الصدمة وتعافت اللغة الفارسية بعد حوالى قرن ونصف بتشجيع مباشر من الغزنويين والسامانيين الذين حكموا إيران حتى حدود الهند وبرزت إلى الوجود لغة فارسية بنكهة عربية. وقد نشطت حركة الترجمة من الفارسية ولكن بنسبة أقل بكثير من الحركة التي شهدتها ساحات الترجمة عن الفلسفة الإغريقية. وفي العصر الحديث زاد الاهتمام المتبادل بين الأدبين العربي والفارسي ثم تضاعف هذه الاهتمام مع بروز ونهوض فن الرواية لدى الإيرانيين والعرب على حد سواء.
في إيران الآن حركة ترجمة حثيثة تقودها طبقة من كبار المترجمين مثل رحيم فروغي، ستار جليلزاده، عظيم طهماسبي وموسى بيدج وغيرهم ممن أقبلوا على الروايات العربية فترجموها إلى لغة حافظ الشيرازي وعمر الخيام. في هذا الحوار يحدثنا المترجم ستار جليلزاده عن هموم الترجمة ومتعها اللانهائية.
ولد ستار جليلزاده في مدینة فلاحیة "شادگان" في محافظة عربستان (خوزستان) في سنة 1956. التحق بمعهد إعداد المعلمین وعکف بعد ذلك علی تدریس اللغتين الفارسیة والعربیة وآدابهما. حصل علی ماجستیر في اللغة والآداب العربیة من الجامعة الحرة في کرج قرب العاصمة الإيرانية طهران.
شارک في مؤتمرات أدبیة کثیرة ومن أهمها مهرجان گلاویژ الثقافي في السلیمانیة بإقلیم کردستان. ترجم الكثير من الروايات العربية إلى الفارسية، كما أصدر مختارات مترجمة من القصائد والقصص العربية القصيرة.
بداية لو تحدثنا عن سر اهتمامك باللغة العربية وآدابها؟ متى بدأ ذلك وما الذي جعلك تنجذب إلى هذا المجال؟
ولدت في مكان اشتهر بأرض النخيل والشعر وغدران المياه، في منطقة الفلاحية أو شادكان من توابع محافظة خوزستان التي يمتاز أهلها بالود والبساطة والطيبة، يمكن القول بكل جرأة إن 95% من أهلها يتحدثون اللغة العربية ولديهم آدابهم الخاصة، هذه المدينة ربت وأنشأت بين جنباتها الكثير من الشعراء الشعبيين، لقد أمضيتُ طفولتي وسط هؤلاء الناس الودودين. ارتدت المدرسة وحصلت على شهادة الدبلوم ومن ثم اضطررت من أجلجل متابعة التعليم إلى ترك المنطقة والتحقت بمعهد إعداد المعلمين، وعكفت على تدريس اللغة الفارسية والعربية وآدابهما في مدن عدة حتى استقر بي المطاف في مدينة كرج، وبسبب ميلي الشديد إلى اللغة العربية وآدابها قررت متابعة تحصيلي العلمي في هذا المجال، فالتحقت بجامعة كرج الحرة، وتعلمت آداب اللغة العربية وأتقنتها أكثر من أي وقت مضى على يد أساتذة خبراء متمرسين. وفي الحقيقة في تلك اللحظات اضطرمت شرارة الترجمة في خلدي وبدأت بالاتقاد، وتمكنت من ترجمة أول مجموعة شعرية تضم بين دفتيها مختارات شعرية لأربعة شعراء عرب مشهورين وهم نزار قباني، أدونيس، غادة السمان، قاسم حداد ونشرت باللغتين معاً. ومنذ ذلك الوقت حتى الآن قمت بترجمة ونشر قرابة 15 أثراً في مجالات مختلفة في الشعر والقصة والرواية ومجموعة مقالات مترجمة.
ترجمت أعمال عديدة وهامة من العربية إلى الفارسية من أهمها مختارات من الشعر العربي المعاصر كما أخبرتنا في جوابك السابق وكذلك مختارات من القصة وروايات عديدة لأهم الروائيين العرب، كيف تختار هذه الأعمال؟
اختيار أثر ما مرتبط بعوامل عديدة منها هدف المترجم من ترجمة النص، المتلقي أو قارئ النص، نوع وأسلوب وسياق النص، وعليه أبذل جهدي آخذاً مجموع هذه العوامل بعين الاعتبار كي أوجد الأثر ذاته في القارئ أو أخلق المتعة والتأثير ذاته الذي خبره قارئ النص الأساسي.
نعم صدرت مجموعة تحمل عنوان "عالمٌ خالٍ من عيون مترقبة" (جهان از چشمهای منتظر خالیست) وفي الحقيقة هو عبارة عن أنطولوجيا للشعر العربي المعاصر، يقع في 950 صفحة ويتضمن بين دفتيه 104 شعراء عرب من 17 دولة عربية ومقتطفات مختصرة ومفيدة حول حياتهم وآثارهم إلى جانب نماذج من أشعارهم.
[غلاف كتاب لنزار قباني بالفارسية]
فيما يتعلق بالمجموعة القصصية أشير إلى أن هذه المجموعة تقع في 450 صفحة وتحمل عنوان "رماد فوق الجرح" (خاکستر روی زخم) وتشمل خمسين قصة قصيرة لخمسين كاتباً عربياً معاصراً من تسع دول عربية وهي (الجزائر، المغرب، تونس، ليبيا، مصر، سورية، العراق، فلسطين، الكويت) وأعمل حالياً على إعداد مجموعة ثانية منها تتضمن كُتّاباً من دول عربية أخرى، كما ترجمت مجموعة مقالات للدكتور هاشم صالح تحمل عنوان "العبقرية والجنون" (نبوغ وجنون) وتتضمن سبع مقالات له. بعدها ترجمت رواية "الضوء الأزرق" (نور آبی) لحسين جميل البرغوثي وهو روائي فلسطيني، كما نشرت أيضاً مجموعات شعرية عدة لشعراء عرب معاصرين باللغتين. "أيام العشق" (دوران عاشقی) مختارات من أشعار غادة السمان و"كوني من أبجديتي" (از حروف الفبایم باش) مختارات من أشعار نزار قباني وكتاب "والرفض إنجيلي" (و انکار انجیل من است) مختارات من أشعار أدونيس. كما ترجمت كتاب "اعترافات أبو نواس" للكاتب المصري كامل الشناوي وكتاب "حبيبي داعشي" (داعشی خاطر خواه) للكاتبة المصرية هاجر عبد الصمد وكتاب "عاشقة تحت المطر" (زنی عاشق زیر باران) مختارات من أشعار غادة السمان وكتاب "حرب الكلب الثانية" (جنگ دوم سگ) للكاتب المشهور إبراهيم نصرالله الحائز على جائزة البوكر العربية عام 2018، وكتاب "بابا سارتر" للكاتب العراقي علي بدر، وفي الوقت الراهن هناك آثار عديدة مترجمة قيد الطباعة.
كيف تنظر إلى الترجمة كفعل معرفي حضاري؟ هل يمكن التعويل عليها في التقريب بين الشعوب في خضم هذه الحروب والنزاعات التي نشهدها؟
الإنسان كائن اجتماعي وبناءً على التجارب التاريخية فهو يمتلك مع نفسه وفي نفسه خلفية غنية تراكمية من أنواع الثقافات. لا يوجد إنسان أو ثقافة بإمكانها اعتبار نفسها بغنى عن تجارب الآخرين، لهذا السبب فإن تأثر الثقافات بعضها ببعض له أثر بالغ في ازدهار المجتمعات وتقدمها، وهنا لا يمكن إنكار دور الترجمة في نقل العناصر الثقافية. تعتبر الترجمة إحدى صلات الوصل الثقافية بين الأمم التي لا تجمعها لغة مشتركة كما تسهم في نقل الأفكار والعقائد والحكايات والفنون من لغة إلى لغة أخرى.
وحول القضايا المتعلقة بالنزاعات والحروب التي أشرت لها، فاليوم تتجلى أهمية الترجمة أكثر من أي وقت مضى. نحن نحتاج إلى إقامة اتصال وتفاعل مع الآخر، وكلما كان هذا التعامل والتفاعل أكثر عمقاً وثباتاً غدت الوشائج والعلاقات أكثر عمقاً وأشد رسوخاً. في الحقيقة الترجمة امتلكت هذه المقدرة وما تزال، فقد أزالت الحدود بين الدول ووسعت آفاق اتصال المجتمعات مع بعضها.
تشهد حركة الترجمة من العربية إلى الفارسية تصاعداً مستمراً لا سيما في مجال الرواية خاصة بعد ظهور جوائز روائية مشهورة في العالم العربي، كيف ترون استقبال القارئ الإيراني لترجماتكم وترجمات زملائكم الآخرين من المترجمين؟
في الواقع بما يتعلق بمجال ترجمة الآداب العربية المعاصرة سواء رواية أو قصة أو شعر قياساً باللغات الأخرى المترجمة إلى اللغة الفارسية مثل اللغة الإنكليزية والفرنسية والألمانية وغيرها، فإن حصة اللغة العربية لم تكن كبيرة وما تزال، على الرغم من أن حصة ترجمة الشعر أكبر من حصة بقية الأجناس الأدبية مثل الرواية والقصة والمسرحية، ويمكن القول بصراحة إنه تمت ترجمة ونشر أكثر من مائة أثر لشعراء عرب معاصرين، كان أبرزهم نزار قباني، غادة السمان، محمود درويش، وأدونيس.
[غلاف كتاب لغادة السمان بالفارسية]
إذا أردنا التطرق لمجال القصة، يتعين علينا العودة قليلاً إلى الوراء إلى مسير الترجمة من العربية إلى الفارسية إلى أواخر العهد القاجاري والبهلوي الأول والثاني، ولن نجد في ما تُرجم من رواية وقصة باستثناء الروايات التاريخية لجرجي زيدان وبضعة آثار أخرى مثل "الأيام" لطه حسين أو ترجمة مسرحيات توفيق الحكيم، ترجمات جدية حقيقة، واستمر الأمر على هذا المنوال حتى حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب، هذه الجائزة لفتت أنظار المترجمين أكثر من ذي قبل إلى روايات نجيب محفوظ والروايات الأخرى للكتاب العرب المعاصرين، وفي العقد الأول الذي أعقب الثورة في إیران بتنا نلحظ ترجمات لروايات نجيب محفوظ والروائيين الآخرين مثل غسان كنفاني. لكن سرعة هذا المسير تعاظمت بشدة خلال العقد الأخير، وأحد أهم أسباب ذلك يرجع إلى ظهور جائزة البوكر للرواية العربية التي جذبت الكثير من المترجمين ومن بينهم أنا أيضاً. وحتى الآن تمت ترجمة آثار جيدة والتي بدورها باتت تحجز مكانها شيئاً فشيئاً وسط القراء الإيرانيين. على الرغم من أننا لن نصل إلى النقطة المثالية بيد أنني أقيم الأوضاع بنظرة متفائلة وأنا متأكد أن الرواية العربية مثل بقية الروايات الأخرى المترجمة عن الآداب الغربية ستكون موضع ترحيب أيضاً.
تعيش العلاقات السياسية بين إيران وبعض الدول العربية مرحلة حرجة قوامها التوتر وحتى حالات من العداء، برأيك هل يستطيع الأدب لعب دور ما في تخفيف التوتر السياسي لصالح شعوب المنطقة؟
العلاقات السياسية بين إيران والدول العربية مثل كافة العلاقات السياسية القائمة مع العالم، لا أحللها بمعزل عن بعضها.
ولكي نحدد إلى أي مدى بإمكان الأدب وبمعزل عن التوترات أن يقّرب الشعوب بعضها إلى بعض، يتعين علينا أن نخوض غمار بحث في مجال علم الاجتماع الأدبي. أقول باختصار شديد إننا إذا اتفقنا على اعتبار الأدب محصلة الحياة الاجتماعية والمفاهيم الذهنية والمشاعر والأفكار البشرية، سنخلص إلى نتيجه مفادها أن الأدب ولا سيما "الرواية" بإمكانها أن تقّرب الشعوب بعضها من بعض من جوانب عدة.
هل هناك تنسيق بين المترجمين الإيرانيين في ضبط حركة الترجمة؟ أم أن المترجمين يعملون بشكل فردي؟ ما هي مشاكل الترجمة من العربية باختصار؟
طبعاً أمر يدعو للأسف القول إن كل المترجمين في مجال الأدب سواء أولئك الذين يترجمون من اللغة العربية أو سائر اللغات الأخرى، ليس بينهم أي تعاون إطلاقاً ويعملون بشكل فردي. ربما تحدث بعض الاستشارات من منطلق الصداقة، لكن فيما يتعلق بموضوع العمل المؤسساتي والجماعي أستطيع أن أقول إنه لا يوجد شيء من هذا القبيل على الإطلاق.
أما عن الشق الآخر من السؤال، فالجواب أنه لدينا مترجمون محترفون ومتمرسون من بينهم: محمد جواهر کلام، رضا عامری، محمد رضا مرعشی، موسی بیدج، محمد حزبایی، کاظم آل یاسین، رحیم فروغی، محمد حمادی، عظیم طهماسبی، صادق دارابی، مریم حیدري، نرگس قندیل زاده، یداله ملایری، کریم پور زبید ومترجمون آخرون. وتتم دراسة الكثير من الأعمال المترجمة في الجامعات الإيرانية من خلال الأساتذة والطلاب في الأطروحات الجامعية، لكن الأمر الذي نعاني منه كمترجمين هو عدم وجود مرجع نقدي محترف للأعمال المترجمة.
المترجم الإيراني عظيم طهماسبي اشتكى في حوار سابق من قلة الاهتمام بترجماتكم؟ هل توافقه الرأي؟ ولماذا؟
لقد قرأت حوار زميلي المحترم عظيم طهماسبي بعناية واهتمام بالغ وسعدت به كثيراً، لكن بإيجاز أقول: أنا متفائل كثيراً بالتصاعد المتعاظم لترجمة الرواية العربية ومكانتها بين القراء الإيرانيين.
أنا متأكد من أن الرواية العربية ستكون موضع ترحيب كبقية الروايات الأخرى المترجمة عن الآداب الغربية. لم يمض سوى عقدين من الزمن على اهتمام المترجمين بالرواية العربية ويتعين الانتظار قليلاً، وأجزم أن هناك نتائج جيدة سوف تتحقق في هذا الصدد.
[أجرى الحوار: جان دوست]