استهلال نافل
حين أرفع عينيّ عن الشاشة وأنظر إلى اليمين أرى من الشبّاك القسم الأمامي من الجنينة حيث شجيرة الياسمين التي تتسلّق الباب، وحيث الليمونة. صرت أرى جزءًا من الشارع الآن من بين أغصان شجرة الليمون. فعليًا باتت تلك الشجرة هي كلُّ ما أودّ رؤيته من مكاني، وهي أول ما أراه من البيت حين أخرج وأعود. لا أعلم ما ستكون ريح الجنّة ولكنْ لا بدّ من رائحة ليمون حتمًا، أو رائحة زهره بالأحرى. أستدلّ على قربي من البيت حين أشمّ تلك الرائحة اللذيذة الصاعقة وهي تخترق الأنف وتشقّ طريقها إلى الدماغ. رائحة مدوّخة تشبه دوار الانتشاء حين أدخّن سيگارة بعد ساعات من الانقطاع عن التدخين. عبير غامض لا سبيل إلى تفسيره؛ تدركه حين تعايشه. عبير فيه نسبة متساوية من البهجة والجنائزيّة مثل لحنٍ يصلح ليكون لحن بداية أو لحن نهاية، ولادة أو موت. لا تفيدنا اللغة العربيّة لأنّها لا تُفرِد اسمًا خاصًا لتلك الزهرة أو لعبيرها، بل ولا تستفيض في الكلام عن الليمون. ولكن منذ متى ننتظر استفاضة حين يكفينا الإيجاز؟ يقول لنا «تاج العروس»: «كلُّ حلوٍ دواءٌ إلا الليمون، وكلُّ حامضٍ أذًى إلا الليمون». أي لا يكون الليمون ليمونًا إلا حين يكون حامضًا، ولا يكون الحامض حامضًا إلا حين يترافق مع الأذى؛ أذى مفيد ربما، لا يهم! وكأنّ إيجاز العربيّة يعني أنّ الليمون مجازٌ للأذى اللذيذ، للألم المُريح، للحزن الصامت، للحن الولادات الجنائزيّة، ولاداتنا كلّنا. نولد ونعيش ونموت ونحن غارقون في انتشاء الحموضة تلك، ونحن غارقون في دوار تلك الرائحة الصاعقة، ونحن غارقون في ليمون سرمديّ؛ نشمّه، ندخّنه، نشربه، نمسّه، نصوّره، نرسمه، نكتبه، ويكتبنا.
استهلال غير نافل
لعلّ الليمون هو أمس، لعلّ رائحة زهره هي الماضي. لا نجد ذلك المزيج المدهش من البهجة والجنائزيّة إلا في الماضي، إلا في صورتنا عن الماضي لو شئنا الدقة. الماضي ليس إلا زمنًا كغيره من الأزمنة. زمن باهت رتيب كالحاضر، وكما سيكون عليه المستقبل. ولكنّ صورتنا عن الماضي هي ما يمنح للماضي تميّزه وبهاءه، لم يكن أمس أجمل حين عشناه، ولكنّ ذكرياتنا عن الأمس أجمل لأنّنا ننتقي منه ما نشاء ونطرح ما نشاء، نرسم حياتنا التي كانت، حياتنا كما ينبغي لها أن تكون لو عشناها حقًا. وكذا ستكون صورتنا عن اليوم غدًا، سيكون الغد رتيبًا بينما سيبدو اليوم (هذا اليوم الباهت ذاته) جميلًا. تلك هي ألعاب الذاكرة التي لا معنى لحياتنا من دونها. الليمون هو الذاكرة إذن؟ ربما. أو لعلّه صورتنا عن صورتنا، صورتنا عن ذاكرة أمس. ليس من المصادفة ربّما أنّ أقل ما تحتفظ به الذاكرة هو الروائح، ولعلّ الليمون هو تعويض الطبيعة لنا عن عبير الماضي. هذا ما نجده في نوڨيلا زهر الليمون (1987) للمصريّ علاء الديب (1939-2016)، وبالطبع في أغنية شجر الليمون التي كتبها عبد الرحيم منصور وغنّاها محمد منير في ألبوم «شبابيك» (1981).
وفينك؟
بطل نوڨيلا زهر الليمون محكوم بالماضي. منذ الصفحات الأولى يلقي بنا الكاتب في جحيم عالم بطله، حيث الحاضر منفى وهروب من عالم الأمس بكلّ بهجته وجنائزيّته. يتّضح لنا مباشرةً أنّ البطل ليسا ابنًا لهذا الحاضر، ولا لمدينة المنفى في الحاضر (السويس) برغم حبّه لها. هو عابرٌ ضمن أشياء الحاضر، لا يملكها ولا تملكه، لا يكترث لها ولا تكترث له، لا ينحت فيه مكانًا له ولا يترك الحاضر أدنى أثر عليه. بطل نوڨيلا زهر الليمون عبد الخالق المسيري ليس محكومًا بماضٍ واحد، بل بماضيين متوازيين: ماضيه هو معتقلًا شيوعيًا سابقًا، وابنًا لعائلة في القاهرة؛ وماضي زوجته وحبيبته منى المصري المسيحيّة التي هجرته إلى كندا بعد قصة حب عاصفة. يبدو سؤال الأغنية «وفينك؟» وكأنّه بحث عن محبوب رحل، ولكنّ هذا تأويل ظاهريّ فقط، لأنّ النداء الفعليّ نداء للماضي بتفاصيله المتشابكة كلّها، وكذا الأمر بالنّسبة إلى المسيري في زهر الليمون. هنا أيضًا نكاد نظنّ أنّ النداء هو لمنى المصري، حين تتواتر لحظاتهما المشتركة على امتداد الصفحات، ولكن هل القصة قصتهما حقًا، أم قصة المسيري وحده؟ لا نعرف عن منى إلا ما يُنبئنا به المسيري، ولن نستغرب لو كانت منى محض وهم اختلقه ليرسم ماضيًا آخر بعيدًا من ماضيه المشترك مع رفاق المعتقل، أو مع ماضيه المشترك مع عائلته. حين نواصل القراءة أكثر فأكثر يتكشّف لنا أنّ حياة المسيري تتلخّص في الهروب منذ البداية، قبل تعرّفه بمنى وبعده: كان يعيش على الهامش دومًا حتى ضمن عائلته، وضمن رفاقه. لن يتلاشى عذابه لو حذفنا منى من الصورة، ولن تنقص درجة اغترابه أصلًا. ما الذي يبحث عنه المسيري إذن؟
سيجيبنا هنا بطل قصة «ليمون» (1924) لليابانيّ كاجيي موتوجيرو الذي يردّد هذا النداء نفسه، ولكن من دون وجود حبيبة أو رفاق أو أيّة تفاصيل كثيرة عن الماضي باستثناء لمحات سريعة من الطفولة. لا عجب هنا لأنّ بطل القصة صورة أوتوبيوگرافيّة لكاتبها كاجيي: فتى تجاوز العشرين بقليل، مصاب بمرض رئويّ قاتل، ينتظر لحظة موته بعد زمن يطول أو يقصر، ولذا ما من ماضٍ طويل، بل لعلّه ما زال يعيش آثار ماضيه القصير. هذا التداخل بين الماضي وبين الحاضر هو ما يجعل بطل القصة اليابانيّة محهول الاسم بمثابة صورة فتيّة للمسيري قبل الحب والنضال وباقي المراحل العابرة. الماضي مقيمٌ في الحاضر الذي يكاد يبدو زمنًا أبديًا لا خلاص منه، ولذا كان النداء. نداء يبحث عن نسيمٍ يُلطّف لظى الحاضر. حاضر البطلين جهنّم: حمّى المرض في القصة، وجحيم الصيف في النوڨيلا، بينما الماضي ماضي ظلال باردة على الدوام. يحاول البطلان الهرب من اللهب عبر اللجوء إلى الشوارع الخلفيّة البعيدة من الشمس، وإلى الأسواق القديمة التي تبدو رثّة في عيون الحاضر فيما ما تزال تحتفظ بألق جمالها في أعين البطلين. يلتجئ بطل القصة إلى الكريّات الزجاجيّة وإلى ثمار الليمون لأنّها برودتها تُخمد نيران الحمّى التي تُحرقه. حين يقرّب الكريّات الزجاجيّة الصغيرة من شفتيه ولسانه، والليمونة من أنفه، ينداح الماضي ليغيّر المشهد بأكمله. تعود إليه طفولته التي تبدو جميلة وهادئة وباردة، بينما ترسم له الليمونة ماضيًا آخر لم يعشه، وتُدخله إلى حاضره فيتغيّر كل شيء ولو للحظات. ماضي البطل اليابانيّ مرتبط بالشمّ وباللمس، ولا نجد أثرًا كبيرًا للنظر أو التذوّق أو السّمع. نكاد نكون في غابة مظلمة خانقة لا سبيل إلى الخلاص منها إلا بالاعتماد على الأيدي والأنف. غابة المسيري، بالمقابل، غابة ضجيج مرعب، وأضواء ساطعة، لا سبيل إلى الخلاص منها إلا بإغلاق العينين والأذنين والهرب، الهرب إلى أن تنقطع الأصوات. لا يتحرّض ماضي المسيري إلا حين يكون وحيدًا أو في حضرة صديقيه الوحيدين فتحي وأحمد أو في الأماكن الظليلة البعيدة من صخب الشوارع.
دبلان على أرضه
متى يظهر العنصر الذي يشكّل العنوان الجوهريّ للنص؟ متى نرى ذلك الماضي المتغلغل في الحاضر، الماضي الذي «ينكش نفسه، ... ولم يبتكر أحد بعد طريقةً للخلاص منه» كما يردّد المسيري؟ يقدّمه تشيخوف لنا منذ الفصل الأول في مسرحيّته العظيمة بستان الكرز، حيث الماضي، الماضي كلّه، متجذّر في ذلك البستان الذي تبدأ به الأحداث وتنتهي به، بل ونسمع حفيف أغصان أشجاره طوال الوقت إلى أن تُقطَع الأشجار ويُختطَف الماضي. ويقدّمه لنا تنِسي وليمز منذ البداية أيضًا في مسرحيّته العذبة عربة تُسمّى الرغبة، حيث يخيّم اللون الأبيض في اسم البطلة «بلانش» وفي ثيابها وسط تفاصيل الحاضر الكالحة. بياض هذا الماضي، الذي يومئ إلى الصفاء وإلى الموت في آن، يُظلّل مشاهد المسرحيّة كلّها وصولًا إلى لحظة الجنون والرحيل التي تُسدل ستار النهاية على ذلك الماضي الجميل. ولكنّ علاء الديب فضَّل الخيار الآخر: أن يؤجّل إدخال العنصر الجوهريّ للماضي إلى الثلث الأخير من النوڨيلا حيث ترد مفردة الليمون للمرة الأولى مترافقة مع ماء الكولونيا الذي تفضّله أمّه، ومن ثمّ نرى شجرة الليمون وزهرها حيث كانت تلك الشجرة وذلك الزهر هو ما يمنح للحيّ جماله، وما يمنح للماضي معناه. وكأنّ كلَّ ما جرى في حياة عبد الخالق المسيري ماضيًا وحاضرًا تمهيدٌ لظهور الماضي الحقيقيّ؛ لا الحبيبة، ولا المعتقل، ولا الرفاق، ولا الشّباب، ولا الشّعر ما يجعل الماضي ماضيًا في حياة المسيري، بل هي تلك الشجرة وزهرها. تظهر شخصيّة رضا، صديق الطفولة، في لمحات خاطفة، في ما يشبه «قصة ومضة» مستقلّة داخل النوڨيلا: هو ابن صاحبة الشجرة، وهو ضابط إيقاع ألعاب الطفولة، وهو الخالق الذي يُحوِّل خردة الحديد إلى طيور، وهو الذي يعبث بالقنبلة فتنفجر وتُطيح به وبالشجرة وبالماضي، الماضي بأكمله.
في قصة «ليمون» اليابانيّة، يتخلّى البطل عن عنصر المؤاساة الوحيد في حاضره المؤلم، يتخلّى عن الليمونة ليستعيد لحظات عبث طفوليّة جميلة. يرتّب كتب الفنّ التي كان يعشقها في المكتبة القديمة التي كان يعشقها وفقًا للألوان التي كان يعشقها، ويضع الليمونة لتتوّج هرم الكتب الملوّن هذا ويخرج من المكتبة مبتسمًا وهو يتخيّل أنّها قنبلة ستطوّح بكل شيء. قنبلة ليمون تنسف الحاضر كلّه في انفجار بهيّ. قنبلة النوڨيلا قنبلة حقيقيّة، نسفت الماضي وصاغت خيوط الحاضر. ندرك فجأة أنّ ماضي عبد الخالق المسيري انتهى بنهاية ماضي رضا وشجرة الليمون، وكأنّه ما يزال يهرب من ذلك الانفجار الذي قلب عالمه كليًا، وكأنّ الورطات التي وقع فيها ما هي إلا محاولات عبثيّة للفرار من ذلك الانفجار: انغماسه في أفكار سياسيّة يدرك عبثيّتها، وغرقه في قصة حب عاصفة يدرك هشاشتها، وتوغّله في صداقات موقّتة كي يُلهي نفسه عن ألمه القديم، وأخيرًا يفرّ إلى منفى رثّ ليعمل في وظيفة رثّة ويسكن غرفةً رثّة يخفّف من وطأته في رحلات حج شبه شهريّة إلى قاهرة الطفولة مع حرصه على الابتعاد من حيّه ما أمكن كيلا يرى أطلال شجرة الليمون التي كان موتها بداية لحياته الجديدة الباهتة، إذ كان قد مات حين مات رضا، وبات الآن طيفًا من أطياف الماضي يحاول التأقلم عبثًا في حاضرٍ لا يعترف بالأطياف.
والدنيا دي رحايَ
تتجلّى تراجيديا دون كيخوته في كونه ابنًا لزمن مختلف لا يسعى – مثل «العقلاء» - إلى التأقلم مع اختلاف الزمن بل يقاتل عبثًا من أجل تغيير الزمن الحاليّ ليصبح شبيهًا بزمنه القديم. ولم «يَتُبْ» إلا بعد أن ورّط سانتشو في هذه الرحلة العبثيّة بحيث يكمل ما بدأه الدون، بعد أن كان سانتشو رمزًا للناس العاديّين الذين يحاولون التأقلم ما في وسعهم كيلا يجنّوا من فرط الاختلاف. لم يكن عبد الخالق المسيري كيخوته آخر، أو ربّما كان كيخوته في نهاياته، حين بدأ يضعف ويستفيق ويهرم، ولكنّه أدرك أنّ التعايش المستحيل مع الحاضر لا يكون إلا من خلال الالتصاق بسانتشوات عديدين حاولوا التأقلم بعد أن تناسوا وجود زمنٍ آخر. حاضر المسيري ليس إلا مثلّثًا يشكّل ضلعه الأول عائلته: أمه، وأخوه، وابن أخيه؛ والضلع الثاني صديقه فتحي؛ والضلع الثالث صديقه أحمد. ليس للمسيري حاضر إلا في القاهرة، التي هي – للمفارقة – مدينة الماضي. ولكنّ التراجيديا هي أنّ هؤلاء السانتشوات ليسوا سانتشوات كاملين، بل هم سانتشو بعد أن أصابتهم لعنة كيخوته؛ الماضي لا براء منه، ولا مفر، أيًا تكن درجة تأقلمك مع الحاضر، لأنّ لحظة الانفجار قادمة لا محالة. هذا ما بات يدركه المسيري متأخرًا بعد أن كان يظنّ أنّ هذا المثلّث سيشكّل صخرة صلبة في بحر رمال الحاضر المتحرّكة التي لا تقبل بأنصاف الحلول: إما أن تكون ابنًا للحاضر بكلّيّتك أو ستُهزَم. جمال نوڨيلا زهر الليمون في أنّها أجّلت لحظة الانكشاف تلك إلى ما بعد ظهور شجرة الليمون. بقينا طوال ثلثي النوڨيلا نعيش حياة كهلٍ مهزومٍ واحد في دنيا الحاضر التي تمكّن الآخرون من النّجاة فيها. ولكنْ بعد أن تفجّر عبير زهر الليمون انكشفت تلك الصّدوع في الصخور التي تبدو صلبة. الآخرون كلّهم يعيشون مثل المسيري، كلّهم يعيشون في برزخ هشّ. لم يبق من العائلة إلا أمّ هرمة تعيش لحظات انكسارها قبل الرحيل، وأخ يختنق في متاهة الرتابة بعد أن ظنّ أن العزلة حل جيّد، وابن أخ يكره الحاضر والماضي ويظنّ أن بوسعه رسم مستقبل ورديّ من دون إدراك أنّ المستقبل لن يكون إلا حاضرًا آخر. بيت فتحي الذي كان بمثابة فردوس وسط الجحيم ليس فردوسًا في نهاية المطاف، إذ بدأت الشّقوق تتّضح حين قرّبنا زاوية النّظر إلى اللوحة الجميلة، إلى درجة أنّ تلك الشّقوق دفعت المسيري إلى الفرار من الفردوس الذي سيتحوّل إلى جحيم قريبًا. أما أحمد، نديم السهرات الجميلة، الذي ظنّ أنّ الهرب من الواقع وعيش مغامرات عابرة ستنجيه من الفخ الذي يبتلع الجميع، فقد بوغت بانكسارات الجسد الذي لا يقوى على تحدّي الزمن. ولذا انغلقت دائرة الحكاية بحيث لم يعد أمام المسيري إلا الانكفاء إلى لحظات البداية حيث كان يذوي وحيدًا بصمت مديد لا تقطعه إلا همهماته التي لا يفهمها أحد سواه.
بندهلك
لم نكن في حاجة إلى المشهد الذي يبحث فيه المسيري عن نفسه في حقيبته القديمة لندرك أنّه لن يجد إلا التراب، فقد كان التراب موجودًا منذ البداية. تمتمات المسيري وهمهماته المتلعثمة المضطربة الخافتة التي شكّلت أولى كلماته المنطوقة في النوڨيلا ليست إلا أصداء لهمهمات أمه التي حُشرت في عزلة مرضها وركنت إلى الإيماءات والهمهمة في خليط من الذكريات والشكاوى والدعاء. ولكنّ تلك الهمهمات الخافتة هي النداء الأخير للماضي الذي لن يعود. لا يفتح أخوه الشيخ سعيد نوافذه كيلا تدخل الضوضاء والغبار مع أنّه يدرك أنّهما قد تسللّا ببطء إلى عزلته وسيغطّيان كل شيء؛ ضوء بيت فتحي الشّحيح وسط مستنقع العشوائيّات الملعونة بالتلفزيون وولادة أجيال متماثلة سيخفت شيئًا فشيئًا إلى أن ينطفئ أو يرحل سكّانه إلى جحيم أرحم؛ ابتسامة أحمد التي تلتمع كالفضة المصقولة التي يتقن تنظيفها ستبهت مع مرور الأيام وصولًا إلى السيگارة الأخيرة التي سيدخّنها مدركًا أنّ نفثة الدخان تلك ستكون آخر ما يبقى منه.
ندرك أنّ «الندهة» الأخيرة ستبقى داخليّة خافتة لا تكاد تُسمَع أو تُفهَم من أيّ أحد سوانا. تودّ رانيڨسكايا وجاييف لو ينسيان الماضي عبر اللهو والمزاح الصاخب، ولكنّهما حين يُتركان وحيدين على الخشبة يتعانقان وينتحبان نحيبًا مكتومًا كيلا يسمعهما أحد لندرك نهاية بستان الكرز قبل أن تُقطع أيّة شجرة. بطل قصة «ليمون» يترك مكتبته الأثيرة ويمضي بصمت إلى «الشارع الذي يضجّ بإعلانات الأفلام» مستشعرًا عودة الورم في حنجرته ورئتيه. بلانش في عربة تُسمّى الرغبة تشمّ رائحة البحر قبل أن تذهب إلى المصحّ، ولكنّها – ونحن معها أيضًا – تدرك أنّ نهايتها قد حانت حين سمعت نداء البائعة التي تبيع أزهارًا للموتى: «flores para los muertos»، ولكنّنا ندرك متأخّرين أنّ كلمة muerte (الموت) قريبةٌ في اللفظ من كلمة suerte (الحظ أو النصيب)، بحيث تكاد الكلمتان تبدوان مترافقتين دومًا في كل أغنية وكل قصيدة وكلّ همهمة، فتتّحد صرخاتنا جميعًا في نداء بلانش: «حريق! حريق! حريق!»، وفي نداء منير: «يا ترى بتسمعني؟».