«إذا هجم على البلاد، وغمَّ النفوس وأذاب الأكباد... وتقدَّم بعساكر المنايا، ودهم بكبائر المنايا، وألقى الرعب في قلوب البرايا.. إن دخل بيتا كان آخر أهله خروجا، وإن عدل إلى فناء أججَّ نار الفناء تأجيجا. فقصم عند ذاك الآمال، وكثرت لديه الأعمال"
لا أعرف من قال إن الحاجة أم الاختراع، ربما الإنكليز، وربما غيرهم، في النهاية صارت المقولة صيغة عالمية يرد ذكرها دائما في سياق مغالبة أمر ما يصعب تحققه. عندي أن الأمر مختلف قليل في حالة ابن حجر العسقلاني (852 هـ) كانت المحنة هي أم الكتاب، كتابه هو وليس أي كتاب. مع أنه يذكر في مقدمة كتابه إن سبب تأليف الكتاب هو كثرة سؤال «طلب» الإخوان له أن يجمع أخبار الطاعون فكان كتابه هذا نتيجة الطلب – السؤال. فكان كتاب هو، وكما يدلُّ عنوان، فائدة بل هو مجموعة فوائد تحصل عليها العسقلاني جراء تفشي الطاعون بين الناس. وفي الحقيقة أن الطاعون قد ضرب العالم في القرن التاسع الهجري (الرابع عشر الميلادي)، ووصل ذروته عام 833 هـ، وكان العسقلاني قد خسر ابنتيه فاطمة وعالية في سنة واحدة «819»، وتوجت كبرى بناته زين خاتون خساراته. هل كانت محنته هي دافعه لتأليف كتابه «بذل الماعون في فضل الطاعون» ربما؛ فمن غير البلاء والمحن ما يدفع الناس للمقاومة أو الاستسلام يأسا وخذلانا؟ فهل يمكن تصنيف كتاب فضل بذل الماعون في باب مقاومة الوباء العالمي الفاتك؟
الكتاب مؤلف من خمسة أبواب وخاتمة وفصل قصير كما يكتب محققه في مقدمته للكتاب. وتغلب على الكتاب صيغ الأخبار المتصلة بأقوال منقولة عن مصنفات سابقة لفقهاء مسلمين وتتخللها حكايات وأشعار ورد فيها ذكر للطواعين. في الباب الأول، مثلا، يُظهر ابن حجر انحيازه الذي لا نرى له أي موجب، فهو يعتقد أن الطاعون «رجس – عذاب» على الأمم السابقة الكافرة، وهو رحمة لهذه الأمة «أمتـ»ـه. وطبعا لا تعليل سوى أنه يعتقد ضمنا بأفضلية العرب المسلمين على أمم سابقة ومعاصرة له، مع أن الطاعون وقتذاك قد ضرب العالم كله، فكيف يكون عذابا في زمن أو مكان آخر، ويكون رحمة لأمة المسلمين؟. ثم إنه يعقد الباب الثالث لتسويغ فرضية أن الطاعون هو شهادة للمسلمين؛ فالمسلم المقتول – الميت بالطاعون شهيد. وفي الباب الرابع يناقش فرضية الخروج من البلد الذي يضربه الطاعون. وهو يستكره الخروج أو اعتزال الناس. وفي الباب الخامس يشرع أبن حجر بالبحث فيما يفعله الناس عندما يهج عليه الطاعون، وعنده أن الإكثار من الدعاء بالنجاة هو السبيل الأفضل والأسلم. وهذا ليس بالقليل على أية حال، شأن أغلب المؤلفات العربية، لاسيّما ما صدر عن فقهاء لكن أن تفكر بالكتابة بعد محنة شخصية وعامة هو منطق المقاومة الإنسانية الخافي في تأليف كتب من هذا النوع.
وفي الحقيقية إن كتاب أبن حجر العسقلاني هو استمرار لنمط آخر من التأليف العربي، نمط جرى إهماله ونسيانه، وهو مما يمكن أن نسميه بـ «سرديات الطاعون». فهذا محقق كتب العسقلاني السيد أحمد عصام عبد القادر الكاتب يورد في تقديمه لكتاب «بذل الماعون في فضل الطاعون» ثلاثة وثلاثين كتابا ومصنفا، أغلبها لم يصل إلينا، وقد جرى ذكرها في مصنفات عربية كبرى في الطليعة منها كتاب «الفهرست» لأبن النديم. يبدأها بـ «كتاب الطواعين» لأبن أبي الدنيا ويختمها بكتاب «جواب الوزير في حرمة امتناع الحاج عن دخول مكة عند الوباء الكبير» وهو من تأليف عبد الحميد الخربوتي.
وفي الحقيقة نحن نقرأ ونتعجب لتنوع وتعدد بل اختلاف مصادر فيلسوف أوروبي «عظيم» مثل فوكو، وهو ينقل في كتبه الممتازة، لاسيّما كتابه «مولد السجن» و«تاريخ الجنون» أيضا، عن كتب أوروبية، فرنسية غالبا، توسَّعت كثيرا في توصيف الأمراض والحجر وقتذاك، وكيف تولَّدت أفكار أوروبية رئيسة عن العزل والتصنيف بسبب منها. وهي مبذولة عندنا، وبتصانيف مختلفة. فوكو قرأ نصوص الأمراض وما اتصل بها من سرديات، وطبعا العبرة دائما في عقل فوكو العظيم المختلف، وفي كونه امتدادا لأصول فكرية كبرى في أوروبا. مع ذلك، فإننا عندما أردنا أن نطبق منهج فوكو لم نفكر بما لدينا من سرديات تتصل وتقوم على الوباء والطاعون، إنما توسلنا في تطبيق أفكار فوكو بنصوص ضعيفة، وبعضها مختلق.