الحرب الأهلية اللبنانية .. لماذا اندلعت ومتى بدأت حقاً؟

الحرب الأهلية اللبنانية .. لماذا اندلعت ومتى بدأت حقاً؟

الحرب الأهلية اللبنانية .. لماذا اندلعت ومتى بدأت حقاً؟

By : Saqr Abu Fakhr صقر أبو فخر

لم تبدأ الحرب الأهلية اللبنانية في 13/4/1975 كما اصطُلح اتفاقاً؛ ففي ذلك اليوم المشؤوم اندلع القتال في بيروت، ولم يتوقف نهائياً إلا في أواخر سنة 1990 بعدما امتد، على مراحل متنقلة، إلى معظم المناطق اللبنانية. أما مقدّمات الحرب فتعود جذورها إلى سنة 1968، أي إلى ما بعد هزيمة مصر وسورية في حرب 5/6/1967. آنذاك، انحسر الحضور الفاعل للعروبة الناصرية والبعثية في لبنان، وتصوّرَ اليمين اللبناني أن الأوان قد حان لتغيير موازين القوى الداخلية، والتخلص من بقايا مرحلة الرئيس فؤاد شهاب، فبادر  إلى تأسيس الحلف الثلاثي (كميل شمعون وبيار الجميّل وريمون إدّة)، وهو حلف طائفي ماروني خالص. وجاءت الانتخابات النيابية في تلك السنة، لتمهد الطريق أمام انقسام أهلي جديد على قاعدة طائفية متجدّدة، ولتطلق حمّى التسلح؛ فأسس بطرس خوند في سنة 1968 أولى فرق الكوماندوز في حزب الكتائب، ثم ظهرت، في السنة نفسها، "فرقة الصخرة" بقيادة فؤاد الشرتوني. وازدادت شهوة التسلح بعد توقيع اتفاق القاهرة بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة اللبنانية في 3/11/1969، وبدأ التدريب العسكري المنظم في حزب الكتائب في 1973، وظهرت في 1975 "فرقة البي جين" (أي بيار الجميل) التي كان أفرادها يتدرّبون يومين في الأسبوع في الأديرة التي كانت تتحول خلال الإجازات وعطل نهاية الأسبوع  ثكنات مكتظة (أنظر: جوزف سعادة، أنا الضحية والجلاد أنا، بيروت: دار الجديد، 2005، ص 111 و 112)، وتولى سامي خويري رئاسة فرقة البي جين، فيما تولى شقيقه فادي مهمات التدريب. واستمرت الحال على هذا المنوال إلى أن أُنشئت الثكنات المركزية في 1976. وفي عام 1977 أُنشئت فرقة المغاوير بقيادة جو إدّة الذي خلفه في قيادتها إبراهيم ضاهر ثم إبراهيم حدّاد ثم يوسف بعقليني (راجع: جورج فريحة، مع بشير:ذكريات ومذكرات، بيروت: دار سائر المشرق، 2019، ص 170.)

حمل العام 1968 معه مشكلات جمّة للنظام اللبناني الذي لم يكن قد استفاق بعدُ من الأزمة المالية الكبيرة التي خلفها تحطيم الأوليغارشية المركنتلية اللبنانية بنك إنترا الذي أسّسه الفلسطيني يوسف بيدس، ففي 26/12/1968 أطلق فدائيون فلسطينيون ينتمون إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين النار في مطار أثينا على طائرة تابعة لشركة إلعال الإسرائيلية، كانت تستعد للإقلاع إلى نيويورك، فقُتل ضابط إسرائيلي متقاعد وجُرح آخر. وتذرّعت إسرائيل بتلك العملية للإغارة على مطار بيروت الدولي، فدمّرت 13 طائرة مدنية على أرضه من دون أن يتصدّى لها أحد. وفي إثر عملية الكوماندوس الإسرائيلي تلك، ظهر الانقسام اللبناني مجدّداً في شأن الموقف من العمل الفدائي. وشن حزب الكتائب حملة على ما سُميّت "تجاوزات" الفدائيين الذين كانوا، حتى ذلك الوقت، مجرد مجموعات صغيرة متمركزة على سفوح جبل الشيخ الجليدية في منطقة العرقوب على الحدود مع فلسطين المحتلة. ودأب رئيس حزب الكتائب، بيار الجميل، بصورة مستغربة، على الدعوة إلى ضبط العمل الفدائي الذي كانت سمعتُه مشرّفة وعالية جداً بعد معركة الكرامة في 21/3/1968. وهنا بدأ الجيش اللبناني يضيّق الخناق على الفدائيين في العرقوب، فانفجرت التظاهرات اللبنانية اليسارية والقومية المؤيدة للعمل الفدائي في 23 أبريل/ نيسان 1969، وسقط قتلى وجرحى، الأمر الذي أدّى إلى اعتكاف رئيس الوزراء، رشيد كرامي، في 24/4/1969، بعدما اكتشف أن القرارات الأمنية تُتخذ بمعزلٍ عنه. ودخلت البلاد في أزمة حكومية لم تنتهِ إلا بتدخل الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، والتوصل إلى اتفاق القاهرة الذي وقعته منظمة التحرير الفلسطينية والدولة اللبنانية في 3/11/1969. وتخلل تلك الحقبة انتفاضة المخيمات الفلسطينية ضد مخافر الدرك ومظالمها في 22/10/1969، ثم بات ما بعد هذا التاريخ تاريخاً، وما قبله تاريخاً آخر. آنذاك بدأت الاستعدادات الخفية والمستورة للانقضاض على الفدائيين الفلسطينيين الذين حماهم الشعب اللبناني، خصوصاً أحزاب اليسار والأحزاب القومية، من عُسف المخابرات العسكرية اللبنانية، ومن العمليات الأمنية السرّية التي كانت تسعى  إلى إلصاق صفة التخريب بالمنظمات الفدائية، كإلقاء متفجرة على صحيفة النهار، ومتفجرتين على كنيستين مارونيتين، وعبوات على مكاتب لحركة فتح. وتبين أن المخابرات الأردنية هي من نفذت أعمال التفجير تلك ("النهار"، 21/11/1972)، وأنها أرسلت في سنة 1972 أحد أفرادها، المدعو محمد عامر بدر، إلى بيروت لغاية محدّدة هي الإساءة إلى المقاومة الفلسطينية وإشاعة الفوضى وإلصاق ذلك بالفدائيين. وفي السياق نفسهن قبضت السلطات اللبنانية في السنة نفسها على هشام لطفي يوسف، مساعد الملحق العسكري الأردني في لبنان، متلبّساً بتنفيذ مهمات تخريبية، غرضها تحميل العمل الفدائي المسؤولية عن ذلك. ولاحقاً نُشرت معلومات عن أن رائداً سابقاً في الجيش الأردني، يدعى رفيق نعيم الحميدي، نفذ عدة عمليات تخريبية في منطقة رأس بيروت في سنة 1973 في محاولة لإلقاء المسؤولية على المنظمات الفدائية.

الأزرار الحُمر

كانت الحياة السياسية في لبنان متلاطمة جداً بعد هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967، وكان اليسار اللبناني على رأس المشهد السياسي، سيما بعد أن تحولت "جبهة الأحزاب والشخصيات الوطنية اللبنانية" التي ظهرت في 1965، برئاسة الزعيم كمال جنبلاط، إلى قوام سياسي جديد هو "الحركة الوطنية اللبنانية" التي قادت النضالات العمالية والفلاحية والطالبية. ففي 1/11/1972 اندلعت تظاهرات عمّال معمل غندور، وسقط فيها العاملان يوسف العطار وفاطمة الخواجة برصاص السلطة اليمينية. وفي 22/12/1973 انطلقت تظاهرات مزارعي التبغ ضد مؤسسة حصر التبغ والتنباك (الريجي) في النبطية. وفي 24/12/1973 اصطدم المتظاهرون بالدرك اللبناني الذي أمطر المحتجّين بالرصاص، فسقط نعيم درويش وحسن الحايك. وكانت "الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية" قد أُعلن تأسيسها في دمشق في 27/11/1972، وتولى كمال جنبلاط رئاستها. وتَداخلَ النضال الفلسطيني بنضال اليسار اللبناني، وتشابك معه في الموقف السياسي، ووجدت منظمة التحرير الفلسطينية في اليسار اللبناني والقوى الوطنية الأخرى حامياً لظهر المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي كان مفقوداً في تجربة الأردن، وسهّل عملية القضاء على الوجود الفدائي في الأردن في عامي 1970 و1971. وكانت تظاهرات الطلبة في الجامعة اللبنانية لا تهدأ، إما دفاعاً عن الجامعة ومطالب الطلاب، أو تضامناً مع الحريات ومع الشعب الفلسطيني. وظهر كأن النظام السياسي اللبناني يفقد، بالتدريج، سلطته على الحياة السياسية. وفي خضم ذلك الحراك، وقعت عملية اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة (كمال عدوان ومحمد يوسف النجار وكمال ناصر) في شارع فردان، في قلب مدينة بيروت، في ليل 9/4/1973؛ تلك العملية التي قادها من غرفة العمليات الإسرائيلية أمنون شاحاك، وشارك فيها إيهود باراك، وقادها ميدانياً العقيد عوزي يئير الذي قتله الفدائيون في عملية سافوي في 6/3/1975. وكان من بين المشاركين فيها جوناثان نتنياهو (يونا) شقيق بنيامين نتنياهو، والذي قَتَل بيده محمد يوسف النجار، وقتله الفدائيون لاحقاً في عملية عنتيبي في 4/7/1976.

[كمال جنبلاط يلقي كلمة في مقاتلين من الحركة الوطنية اللبنانية ( 25/7/1976 Getty)] 

سار في جنازة القادة الثلاثة ألوف اللبنانيين والفلسطينيين، وقدّرتهم صحيفة النهار، اليمينية الليبرالية، بنحو 250 ألفاً، معظمهم من اللبنانيين الذين أرادوا الاحتجاج على تقصير الجيش اللبناني في التصدّي للكوماندوز الإسرائيلي، وإعلان تضامنهم مع المقاومة الفلسطينية (راجع "النهار"، 13/4/1973). ورأى كثيرون أن المقاومة الفلسطينية صارت قوة سياسية لبنانية مهمّة، جرّاء تحالفها مع الحركة الوطنية اللبنانية، والتفاف مجموعاتٍ لبنانية كثيرة حولها، ولهذا أُضيئت الأزرار الحمر في غرف عمليات الاستخبارات. ومثلما أُضيئت الأزرار الحمر في قصر الحُمّر في عمان، بعد الجنازة الحاشدة التي خرجت لوداع عبد الفتاح حمود (أبو صلاح) الذي استُشهد في 28/2/1968، أُضيئت مصابيح الإنذار في محطة الاستخبارات الأميركية في بيروت أيضاً. و"كان السفير الأميركي في عمّان، دين براون، ينصح الحكومة الأميركية بحثّ الحكومة اللبنانية على تقليد المثال الأردني في قتال الفدائيين"  (راجع: أسعد أبو خليل، أميركا أشعلت حرب لبنان، بيروت: دار الفرات، 2017، ص 58).أما جوناثان راندل فيؤكد أن الإدارة الأميركية ضغطت على الرئيس سليمان فرنجية للقضاء على المقاومة الفلسطينية في لبنان بسرعة، وقبل أن يتفاقم أمرها (أنظر: جوناثان راندل، حرب الألف سنة حتى آخر مسيحي، بيروت: د.ن.، 1984). وهكذا سارت الأمور نحو صدامات 2/5/1973 بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية، وكان هدفها الأول والأخير إنهاء الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان. ولكن حسابات اليمين اللبناني جاءت خائبة، فسورية ومصر كانتا تستعدان لحرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وكان العد العكسي قد بدأ في فبراير/ شباط 1973. والباحثون يدركون ما معنى عبارة "العد العكسي"؛  فهو ليس العد بالمقلوب، بل وضع روزمانة دقيقة لتفريغ أهراءات القمح مثلاً، ونقل المخزون إلى مستودعاتٍ آمنة، وتفريغ خزانات الوقود وإخفاؤها في أمكنة بديلة، وتحريك مستودعات الذخيرة إلى مواقع خفية، ووضع هياكل زائفة ومموّهة للطائرات والدبابات... إلخ. المهم أن سورية خشيتْ من فتح مشكلة عويصة في خاصرتها تطيح استعداد الدولتين للحرب، فأرسل الرئيس السوري حافظ الأسد وزير الخارجية عبد الحليم خدّام إلى بيروت في 5/5/1973 للتوسّط في شأن وقف القتال، لكن الأميركيين أفشلوا المهمة، وعاد القتال إلى الاندلاع في 7/5/1973. وعند هذا الحد، وجّه الرئيس الأسد إنذاراً شديداً إلى الرئيس اللبناني سليمان فرنجية، وأغلق الحدود مع لبنان، ثم تلقى فرنجية إنذاراً مماثلاً من الرئيس المصري، أنور السادات. وعند ذلك توقفت الاشتباكات.

بعد نحو شهرين على حوادث 2 مايو/ أيار 1973، دعا كميل شمعون وبيار الجميل إلى اجتماع في القصر الجمهوري في بعبدا بحضور الرئيس فرنجية، وانضم إليه قائد الجيش العماد إسكندر غانم، والمدّعي العام التمييزي ميشال طعمة، ومدير الأمن العام العقيد أنطوان الدحداح، ورئيس الشعبة الثانية، أي المخابرات العسكرية، العقيد جول البستاني، ورئيس قسم الأمن القومي الرائد نبيه الهبر. وانتهى المجتمعون إلى اتخاذ قرار مشترك، يقضي بتسليح الأحزاب المسيحية اليمينية في مواجهة اليسار اللبناني والمقاومة الفلسطينية، واتُخذ هذا القرار بناء على نصائح أميركية. وينقل أسعد أبو خليل في كتابه أميركا أشعلت حرب لبنان (مصدر سبق ذكره، ص 73) نقلاً عن جيمس ستوكر أن الرئيس سليمان فرنجية، بعد فشل حملة مايو/ أيار 1973 ضد الفدائيين الفلسطينيين، أوكل إلى الجيش اللبناني، والاستخبارات بالتحديد، تسليح ميليشيات حزب الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار وجيش التحرير الزغرتاوي (لمزيد من التفصيل يمكن الرجوع إلى: جيمس ستوكر، ميادين التدخل: السياسة الخارجية الأميركية وانهيار لبنان، إيثاكا – نيويورك: مطبعة جامعة كورنيل، 2016). ويعترف مارون مشعلاني، وهو أحد أقذر مجرمي الحرب اللبنانية، بأن "قرار تسليح الميليشيات المسيحية اتُخذ بسرية تامة، وكان السلاح يُنقل بحراً إلى مرفأ الكسليك في جونية، ويُخزّن في أقبية دير الكسليك التي حوّلتها الرهبانية المارونية إلى غرف محصّنة تحت الأرض" (أنظر: كبريال الجميّل، مارون مشعلاني: صليب الحرب، بيروت: د.ن.، 2018، ص 28). ويضيف مشعلاني أن التدريب على السلاح كان يتم في دير مار شليطا في بلدة غوسطا (المصدر السابق نفسه، ص 24)؛ فالرهبانيات في عهد الأباتي شربل قسيس جمعت المال لشراء السلاح، وحوّلت أديرة العبادة إلى مستودعات أسلحة.

 

[صائب سلام (يمين) وبيار الجميل (يسار) في بيروت (1975/ Getty)]

في هذا الميدان، أوعز رئيس المخابرات العسكرية، جول البستاني، إلى أجهزته الأمنية بتدريب مجموعة تُدعى "التنظيم" في أراضٍ تابعة للرهبانية المارونية اللبنانية. ومجموعة "التنظيم" هذه كانت تُعتبر الجناح العسكري للرابطة المارونية، وفي الوقت نفسه، إحدى محظيات المخابرات العسكرية اللبنانية التي أسّست في الجنوب اللبناني فرقةً على غرارها تُدعى "أنصار الجيش"، أي مجموعة مارونية ومجموعة شيعية (راجع: نقولا ناصيف، المكتب الثانيحاكم في الظل، بيروت: دار مختارات، 2005، ص 488). أما العقيد جوني عبده ومساعده نبيه فرحات، ومعهما العقيد قاسم سبليني، فقد درّبوا حركة أمل في ما بعد، وسلّحوها لمواجهة المقاومة الفلسطينية. وكان للمخابرات الأميركية شأن في ذلك، من خلال علاقة أحد ضباطها الذي كان يعمل في إطار القوات الدولية في بلدة كفردونين الجنوبية بداود داود أحد قادة حركة أمل الذي اغتيل في 22/9/1988 (راجع: العميد وليد سكرية في برنامج "بين زمنين"، محطة الجديد التلفزيونية، 31/7/2017). ويروي وليد عون في مقابلة مع مجلة الشراع اللبنانية (28/11/2005) أن أقارب لرئيس تحرير صحيفة النهار، ميشال أبو جودة، تجمّع للاحتجاج على اختطافه يوم 4/7/1974، واندس بينهم أشخاص راحوا يحرّضونهم على مهاجمة مخيمي تل الزعتر وضبية. وبالفعل خُطف آنذاك نحو مائتي عامل فلسطيني، في وقت كانت المخابرات العسكرية توزّع السلاح على الأحزاب اليمينية، وتحرّض الناس على قطع طريق بيروت - طرابلس. وكانت تلك الحوادث تمريناً على إشعال  الحرب بين الفلسطينيين وبعض الأحزاب المسيحية اليمينية.

شراء الأسلحة

السلاح هو الأداة الحاسمة في أي  حربٍ أهلية، ومن المُحال دفع الأمور نحو الحرب قبل الاستعداد لها. وأهم الاستعدادات هو شراء الأسلحة، والتدرّب على استعمالها، وتخزينها، ووضع الخطط الملائمة. وهذه الأمور كلها بدأت، عملياً، بعد فشل الهجوم على مواقع الفدائيين الفلسطينيين في 2/5/1973 الذي سَبَقَ تفاقم الانقسام الداخلي، بعد استقالة رئيس الحكومة صائب سلام احتجاجاً على عدم إقالة قائد الجيش. وقائد الجيش آنذاك هو المسؤول الأول عن تقاعس الجيش اللبناني، وعدم التصدي للكوماندوس الإسرائيلي الذي جال في بيروت بحرّية تامة، وقتل القادة الفلسطينيين الثلاثة، ونسف أكثر من موقع، وغادر من دون أن يعترضه أحد. ولم يتمكّن الرئيس أمين الحافظ من الإقلاع بحكومته خلفاً لصائب سلام، فازداد الطين بلّة.

يؤكّد  السفير الأميركي، روبرت أوكلي، أن الحكومة الأميركية أمدّت المليشيات المارونية بالسلاح والمال حتى قبل العام 1973 (جيمس ستوكر "ميادين التدخل"، في: أسعد أبو خليل، أميركا أشعلت حرب لبنان، مصدر سبق ذكره، ص 74). وتولّى سركيس سوغانليان تزويد المليشيات اليمينية بالسلاح بتكليف من الإستخبارات الأميركية. واعترف سوغانليان بأن أول شحنة سلاح للمليشيات في لبنان شُحنت في عام 1973 بالتنسيق مع CIA ومع وكالة استخبارات وزارة الدفاع الأميركية (المصدر السابق، ص 76). وموّل بطرس الخوري وناصيف جبور شحنة أسلحة أخرى، نقلها سوغانليان إلى لبنان، بعدما اشتراها من بلغاريا، وهي سبعة آلاف قطعة متنوعة (أنظر: نقولا ناصيف، المكتب الثاني، مصدر سبق ذكره، ص 486). وطلب مدير المخابرات العسكرية، جول البستاني، من السفارة الأميركية في بيروت تزويده أسلحة مجاناً في صورة مساعدة عسكرية أميركية. وأرسل الطلب إلى الملحق العسكري الأميركي في السفارة الكولونيل فروست هانت، مع التأكيد على أن السلاح المطلوب هو للشعبة الثانية في الجيش اللبناني. وحدد البستاني حاجته إلى عشرة آلاف قطعة سلاح ومدافع وهواوين. وأرسلت الولايات المتحدة الأميركية بالفعل خمس طائرات نقل من طراز  سي 130 محمّلة بالسلاح إلى مطار بيروت في مطلع 1974، ووُضع السلاح في مخازن الشعبة الثانية، ليجري توزيعه لاحقاً على الأحزاب اليمينية المسيحية التي عملت على تخزينه في أديرة الرهبانيات المارونية، مثل دير مار روكز في مراح المير على طريق بكفيا – القليعات. كما وُزّع السلاح على المناصرين للمكتب الثاني، أمثال المحامي محسن سليم (نقولا ناصيف، المكتب الثاني، المصدر السابق، ص 484 و485). ويروي العميد هشام جابر أنه تلقى في 1974، وكان برتبة نقيب، أمراً بتأمين دورية شرطة عسكرية لمواكبة قافلة شاحنات سعودية من نقطة المصنع عند الحدود اللبنانية -السورية، تحمل ذخائر للجيش اللبناني، فنفذ النقيب هشام جابر ما طُلب منه، لكنه علم أن تلك القافلة لم تفرّغ حمولتها في المخازن الرسمية للجيش اللبناني في بلدة بمريم أو في منطقة اللويزة، بل في مستودع سلاح لحزب الكتائب في بلدة سن الفيل (هشام جابر، وجوه وأسرار من الحرب اللبنانية (شهادة)، إعداد نبيل المقدم، بيروت: دار نلسن، 2016، ص 323 و324). وثمّة وثيقة في الأرشيف الوطني الأميركي تؤكد أن الملك حسين قدّم إلى المليشيات اليمينية اللبنانية 400 طن من السلاح والذخيرة (أسعد أبو خليل، أميركا أشعلت حرب لبنان، مصدر سبق ذكره). وورد في إحدى وثائق الأرشيف البريطاني لعام 1977 اعتراف لداني شمعون بأن مصر زودت "الجبهة اللبنانية" بقنابل مدفعية من مخزونها العسكري.  و"الجبهة اللبنانية" هذه هي نفسها "جبهة الحرية والإنسان" التي ظهرت في 31/1/1976، وكانت مؤلفة من كميل شمعون وبيار الجميّل وسليمان فرنجية الذي انسحب منها في سنة 1978، بعدما اكتشف علاقتها بالموساد، الأمر الذي كان أحد أسباب اغتيال ندله طوني فرنجية. وعلاوة على هؤلاء، ضمت الجبهة شارل مالك وفؤاد أفرام البستاني وشاكر أبو سليمان وإدوار حنين وجواد بولس وفؤاد الشمالي وسعيد عقل والأباتي شربل قسيس الذي خلفه الأباتي بولس نعمان. وبحسب ويلبر كرين إيفلاند في كتابه "حبال من رمال" (بيروت: دار المروج، 1985)، كان كميل شمعون وشارل مالك وجواد بولس عملاء لوكالة المخابرات المركزية الأميركية.

حطّت في 8/7/1975 طائرة بوينغ 707 يملكها سوغانليان في مطار بيروت، وأفرغت حمولة جديدة من السلاح قوامها بنادق كلاشنيكوف اشتراها من وارسو، وشُحنت إلى بيروت عبر مدريد لمصلحة مليشيا حزب الكتائب (أسعد أبو خليل، مصدر سابق، ص 94). ويقول ويلبر كرين إيفلاند إن محطتي المخابرات الأميركية في أثينا وروما، والإسرائيليين أيضاً، أرسلوا أسلحة إلى المليشيات المسيحية، وأن داني شمعون اعترف بتلقي أسلحة بملايين الدولارات بين عامي 1974 و1975 (إيفلاند، حبال من رمال، مصدر سابق). والمعروف أن داني شمعون كان يبيع الفدائيين الفلسطينيين جزءاً من السلاح الذي يتلقاه من إسرائيل بذريعة حاجته إلى المال (أنظر: زئيف شيف وإيهود يعاري، حرب الظلال، بيروت د.ن.، 1985، ص 55). ويقول إيفلاند إن كمال جنبلاط كشف أن المخابرات المركزية الأميركية وإسرائيل دفعتا 250 مليون دولار للمليشيات المسيحية في سنة 1975 وحدها. وذكر السيناتور الأميركي، اللبناني الأصل، جيمس أبو رزق أن CIA  دفعت للإسرائيليين 80 مليون دولار ثمناً لأسلحةٍ أُرسلت إلى تلك المليشيات (إيفلاند، مصدر سابق). وفي 6/11/1975، حين  كانت الحرب الأهلية في بداياتها، وتحت السيطرة إلى حد ما، أُبلغ رئيس الحكومة، رشيد كرامي، أن باخرةً محمّلةً أسلحةً رست قبالة منتجع الأكوامارينا البحري الذي يملكه تاجر الأسلحة، بطرس الخوري، فأوعز رئيس الحكومة إلى قائد الجيش، حنا سعيد، بتوقيف الباخرة ومصادرة حمولتها، فرفض قائد الجيش تنفيذ الإيعاز. وإزاء هذه المشكلة السياسية والدستورية، اتفق رئيس الجمهورية سليمان فرنجية وكميل شمعون ورئيس الشعبة الثانية جول البستاني على أن تبادر الشعبة الثانية إلى مصادرة الحمولة، منعاً لإحراج رئيس الحكومة، ثم تسلّم الأسلحة إلى الأحزاب المسيحية، غير أن كميل شمعون سارع إلى إرسال مقاتليه إلى منتجع الأكوامارينا، فاستولوا على الباخرة، وأفرغوا حمولتها لمصلحتهم (نقولا ناصيف، المكتب الثاني، مصدر سابق، ص 509). وفي حمّى التسلح راح الجميع يتسلح. ومن البدهي أن السلاح يجب أن يُستعمل. وهكذا سارت الأمور نحو انفجار الحرب الأهلية.

[الرئيس اللبناني سليمان فرنجية في استعراض عسكري للجيش اللبناني في بيروت ( 1/8/1975 Getty)]

التفجير الكبير

في 4/6/1974 جال الأمين العام للأمم المتحدة، كورت فالدهايم، في بعض دول المنطقة العربية. وفي أثناء تلك الجولة، التقى رئيس تحرير صحيفة النهار اللبنانية، ميشال أبو جودة، وقال له: إن لبنان سيتعرّض لمؤامرة كبيرة، وأن أميركا وإسرائيل ضالعتان بها، وهما تريدان خلق فوضى في لبنان (راجع المقابلة مع وليد عون، إبن شقيقة ميشال أبو جودة، في مجلة الشراع، اللبنانية، 28/11/2005). أما لماذا تريد الولايات المتحدة الأميركية إحداث فوضى في لبنان، فالسبب أنها كانت غارقة في فضيحة ووترغيت، وفي عقابيل الانسحاب المذل من فيتنام، والإخفاق في أنغولا. وكانت تركيا اجتاحت قبرص، ولم تستطيع الولايات المتحدة الأميركية أن تفعل شيئاً، وظهرت لحلفائها عاجزةً تماماً. وفي هذه الأجواء، كانت تريد أن تفعل شيئاً يعيد إليها الهيبة في الشرق الأوسط، وتقضي، في الوقت نفسه، على منظمة التحرير الفلسطينية (أنظر: جوناثان راندل، حرب الألف سنة حتى آخر مسيحي، مصدر سبق ذكره). ويقول ويلبر كرين إيفلاند: "في الثلاثين من إبريل/ نيسان 1975 أعلن الرئيس الأميركي جيرالد فورد انسحاب بلاده من فيتنام. وتبعاً لسياسة هنري كيسنجر بإلهاء العالم عن مشكلات أميركا، وبدافع من الرغبة في السيطرة على الأزمات الاقتصادية وأزمة الطاقة التي خلّفتها حرب عام 1973، بدأ كيسنجر ينفذ سياسة جديدة أَمِل منها أن تؤدي إلى تبخّر الفلسطينيين" (حبال من رمال، مصدر سبق ذكره، ص 223). ومع اندلاع الرصاصات الأولى في الحرب الأهلية اللبنانية، وجّه رئيس حزب الكتائب اللبنانية اليميني، بيار الجميّل، نداء إلى الرؤساء والملوك العرب في 14/4/1975 يطلب منهم النجدة. وعلى الفور، تجاوب الرئيس المصري، أنور السادات، مع هذا النداء، وأرسل سكرتيره للشؤون الخارجية، أشرف مروان، إلى لبنان في 19/4/1975 ليسلم رسالة في هذا الأمر إلى الرئيس سليمان فرنجية، غير أن وزير الخارجية الأميركي، كيسنجر، أفصح عما يدور في رأسه في 25/5/1975، قائلاً إن الوضع في لبنان قد ينفجر، ويتحول إلى حرب أهلية كالتي وقعت في الأردن في سبتمبر/ أيلول 1970، مع أن المصادمات المسلحة كانت، حتى تلك المرحلة، بسيطة ومحدودة، ويمكن إخمادها  في مهدها لو لم تدفع الولايات المتحدة الأمور نحو مزيد من الاشتعال. وكانت "اتفاقية سيناء" بين مصر واسرائيل تلوح في الأفق، بل باتت على الأبواب، وكانت سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية تعارضان تلك الاتفاقية التي أدارت ظهر مصر لسورية وفلسطين الشريكين في حرب 1973. وقبيل توقيع "اتفاقية سيناء" في 1/9/1975 وصل كيسنجر إلى المنطقة العربية، لينذر مَن يجب إنذاره بضرورة عدم معارضة تلك الاتفاقية. وشرب السادات حليب السباع، فوجّه إنذاراً إلى منظمة التحرير، وهدّدها بأنها ستواجه المشكلات في لبنان، إذا لم تنسجم مع اتجاهه السياسي الجديد. وفي 7/9/1975، تلقى الرئيس سليمان فرنجية رسالة من الرئيس السوري حافظ الأسد، يدعوه فيها إلى رفض اتفاقية سيناء. ومع تصاعد الاشتباكات، صرّح وزير الخارجية السوري، عبد الحليم خدّام، في 27/9/1975 إن الملاحق السرّية في اتفاقية سيناء بدأت تظهر في بيروت.

قبيل انفجار الحرب في 13/4/1975، أطلق الرقيب في الجيش اللبناني، مارون داود، النار على النائب اللبناني، معروف سعد، الذي كان في يوم 26/2/1975 على رأس تظاهرة احتجاجية لصيادي الأسماك في مدينة صيدا، فأصابه إصابة بالغة، ثم توفي في 6/3/1975. وكانت تلك الحادثة الشرارة التي أشعلت براميل البارود المعدّة سلفاً. وفي 13 نيسان/ إبريل 1975، وكانت الأجواء مشبعة بالغضب جراء وفاة معروف سعد، وبينما كان بيار الجميّل يدشن كنيسة سيدة النجاة في منطقة عين الرمانة، مرّت سيارة فيها المواطن اللبناني منتصر أحمد ناصر (عضو في جبهة التحرير العربية الموالية للبعث العراقي)، فمنعه رجال السير من المرور في المكان، فأبى الإذعان وتابع سيره، فعمد جوزف أبو عاصي، وهو مرافق بيار الجميّل، إلى إطلاق النار عليه، فأصابه في كفّه، ونقل إلى مستشفى القدس في منطقة الحازمية. وبعد أقل من ساعة مرّت سيارة أخرى أطلقت النار على المجموعة الكتائبية، فقُتل جوزف أبو عاصي نفسه ومعه أنطوان الحسيني، ورد الكتائبيون بالنار على المجموعة المهاجمة فقُتل شابٌّ وجُرح اثنان. وفي هذا الجو العاصف، وصل باص إلى المكان، فيه نحو 56 شخصاً مدنياً كانوا عائدين من احتفال في الذكرى الأولى لعملية الخالصة (كريات شمونة) جرى في سينما بيروت، ولم يكن ركاب الباص أو سائقه يعلمون أي شيء عمّا كان يحدث في عين الرمانة. ومع ذلك، أطلق المسلحون اليمينيون النار بغزارة على ركاب الباص، فسقط 27 شهيداً و29 جريحاً. وكانت هذه المجزرة فاتحة لحربٍ أهليةٍ مديدة.

 

[بشير الجميل  مع عناصر مسلحة من مليشيا الكتائب  (1975/Getty)] 

تولّى التحقيق في جريمة عين الرمانة القاضي محمد علي صادق، وتوصل إلى استنتاج مضمونه أن عناصر حزب الوطنيين الأحرار الذي يرئسه كميل شمعون هم الذين ارتكبوا الجريمة (أنظر: صحيفة "السفير" اللبنانية، 11/4/2007). أما صلاح خلف (أبو إياد) فيقول في كتابه فلسطيني بلا هوية (عمّان: دار الجليل، 1996، ص 183) إن ضباطاً لبنانيين من المكتب الثاني اللبناني (المخابرات العسكرية) وضعوا بين يديه في سنة 1976 وثائق تُظهر أن مجزرة عين الرمانة نفذها، بصورة مشتركة، المكتب الثاني الذي كان يرئسه جول البستاني وحزب الوطنيين الأحرار. ويضيف أبو إياد إن الاستخبارات السورية زوّدته لاحقاً بمعلومات تؤكد هذه الرواية كانت حصلت عليها من ضباط لبنانيين انشقوا على الجيش. وكانت المليشيات اليمينية تأمل، بعد تفجيرها الحرب الأهلية في سنة 1975، أن تستدرج تدخلاً خارجياً [أميركياً وفرنسياً بالدرجة الأولى]، وأن تضمن وقوف الجيش إلى جانبها (أسعد أبو خليل، أميركا أشعلت حرب لبنان، مصدر سبق ذكره، ص 196). ولعل شارل مالك هو الذي زيّن لبقية قادة اليمين، وبالتحديد كميل شمعون وبيار الجميّل، أن المارينز (مشاة البحرية الأميركية) سينزلون على الشواطيء اللبنانية متى أراد، وأين يريد. ولمّا مرّت الشهور من غير أن يأتي المارينز لنجدة المليشيات اليمينية قال: إنهم يتهيأون للمجيء، ولكنهم سيأتون بالتأكيد (جوناثان راندل، حرب الألف سنة، مصدر سبق ذكره، ص 143). وشارل مالك القصير النظر جداً على المستوى الاستراتيجي، بحسب جوناثان راندل، اختير رئيساً لإحدى دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة (دورة 1958) بتوصيةٍ من رجل الإستخبارات الأميركية، ويلبر كرين إيفلاند، أرسلها إلى وزير الخارجية في أميركا، جون فوستر دالاس، وإلى أخيه ألين دالاس مدير CIA آنذاك. وعلى غراره، كان كميل شمعون الذي قال عنه أنور السادات، في أثناء مفاوضات كامب دييفيد في سنة 1978، حين راح رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه، بيغين، يتفاخر بالمعونات التي ترسلها إسرائيل إلى المسيحيين في لبنان: ما لكم ولشمعون؟ هو منحط؛ كان عميلاً بريطانياً ثم عميلاً فرنسياً ثم عميلاً أميركياً ثم عميلاً سورياً، والآن هو عميل لكم (زئيف شيف وإيهود يعاري، حرب الظلال، مصدر سبق ذكره، ص 52). ويقول سامي شرف مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر أن بيار الجميّل كان عميلاً إسرائيلياً (راجع: نقولا ناصيف، حوار مع سامي شرف، صحيفة "الأخبار" اللبنانية، 1/11/2007).

الفلسطينيون في أتون الحرب

لم تنخرط منظمة التحرير الفلسطينية، بفصائلها المختلفة، جدّياً في الحرب الأهلية إلا في أوائل سنة 1976؛ فقد أرغمتها تطورات الميدان العسكري وتحولاته على زجّ قواتها العسكرية في القتال، بعد سقوط مخيم ضبية ومخيم جسر الباشا، وبعد سقوط بعض التجمعات الفلسطينية في حي الكرنتينا وفي حي المسلخ اللبنانييَن، ثم بدء حصار مخيم تل الزعتر. وكان ياسر عرفات يحاول جاهداً أن يتجنب الإنزلاق إلى الحرب الأهلية، لأنه كان يعرف جيداً المخاطر الكبيرة التي ستنجم عنها، ومنها انصراف دول العالم عن دعم قضية فلسطين، وغرق المنظمات الفلسطينية في وحول الحرب الأهلية، والحيلولة دون تحقيق إنجازات سياسية في المجال العالمي بعد خطبته في الأمم المتحدة في 13/11/1974، وكذلك في الميدان العربي، خصوصاً بعد اعتراف المؤتمر السابع للقمة العربية في الرباط في 26/10/1974 بمنظمة  التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. وجهد عرفات كثيراً في تطمين اللبنانيين، وعلى الخصوص المسيحيين، إلى أنه لا يرغب في أي وطن بديل من فلسطين، وأنه لا يريد أن يكون حليفاً لأي طرفٍ لبنانيٍّ في مواجهة طرف آخر. ولهذه الغاية، أقام علاقات مكشوفة مع الرئيس سليمان فرنجية، ثم مع كميل شمعون وبيار الجميّل وغيرهما من الأقطاب المسيحيين، وأقام أقنية سرية وعلنية للتواصل مع هؤلاء جميعاً، وكلّف مًن يثق بهم لهذا الغرض، أمثال علي سلامة (أبو حسن) ونزار عمّار (نزيه حلمي المباشر) وأبو الزعيم (عطا الله عطا الله)، فضلاً عن لبنانيين عملوا على خط التفاهم بينه وبين قادة اليمين اللبناني. وعلى سبيل المثال، قرّر عرفات، بعد عملية اغتيال القادة الفلسطينيين  الثلاثة في شارع فردان في بيروت (ليل 9 - 10/4/1973) أن يزور بيار الجميل في منزله، ليشكر له مشاركته في تشييع كمال ناصر وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار. وبعد انتهاء الزيارة، صعد إلى سيارة كريم بقرادوني، وطلب إليه التجول في منطقة الأشرفية. ورآه الناس وراحوا يتجمّعون حوله، وانصرف هو إلى تحية المارّة الذين نظروا إليه غير مصدّقين. ويقول الرئيس العام للرهبانية المارونية اللبنانية، الأباتي بولس نعمان، بعد لقاء مع ياسر عرفات في منزل حسيب صباغ في 15 يونيو/ حزيران 1975: "كان واضحاً لجميع الحاضرين أن الهمّ الأول لياسر عرفات التأكيد لنا أنْ لا رغبة لديه أبداً في محاربة  أي طرف لبناني لأن ذلك يشكل إشغالاً  غير مجدٍ للقضية الفلسطينية" (أنظر: مذكّرات الأباتي بولس نعمان، إعداد أنطوان سعد، بيروت: دار سائر المشرق، 2009، ص  77). أما الذين حضروا اللقاء فهم: وليد الخالدي، حسيب صباغ، هاني سلام، الأباتي بطرس قزي، سميح العلمي، الأباتي بولس نعمان، ياسر عرفات، صلاح خلف.

 

[ياسر عرفات  مع مقاتلين منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت ( 12/7/1982 Getty)] 

كان عرفات يريد لبنان قاعدة سياسية وإعلامية وعسكرية، تمنحه أوراقاً قوية عندما يحين موعد تسوية القضية الفلسطينية، ولم يكن يرغب ألبتة في إشعال لبنان، لأن من شأن ذلك أن يخسّره كثيراً من رصيده وأوراقه. ولم يكن يرغب قط في أن تتطوّر الحرب الأهلية، وهي  في بداياتها، إلى حريق شامل. ولذلك حين وصلت أول شحنة سلاح إلى زعيم الحركة الوطنية اللبنانية، كمال جنبلاط، من ليبيا احتجزها، وراح تحت إلحاح جنبلاط واحتجاجه يسلّمه السلاح دفعة وراء دفعة، والهدف كان السيطرة بقدر الإمكان على تطوّرات الميدان. وعندما صدرت الوثيقة الدستورية في 14/2/1976 رفضها كمال جنبلاط لأنها أدنى بكثير من طموحاته السياسية، وأدنى من تطلعات اليسار اللبناني. أما ياسر عرفات فتردّد في الموافقة عليها، لا لأنه معنيٌّ بأنها جيدة أم غير جيدة، بل لأنه كان يريد معرفة حصّة السوريين فيها؛ فهو يخشى سيطرة سورية على قراره. وفي جميع الأحوال، لم يكن مطلوباً منه الموافقة عليها، لأنها وثيقة خاصة باللبنانيين وبمستقبل النظام السياسي اللبناني، بل كان المطلوب منه عدم معارضتها واعتراضها. والمشهور أن كمال جنبلاط كان يتطلّع إلى كسر المعادلة اللبنانية التي صيغت في سنة 1943، وإلى إعادة بناء لبنان على أُسس جديدة، تأخذ في الحسبان مطالب جنبلاط السياسية والاجتماعية، وكذلك مطالب اليسار والقوى التقدّمية اللبنانية، أما عرفات فكان يريد الاستفادة من وجوده في لبنان المفعم بالتناقضات المتعدّدة من غير أن تنفجر تلك التناقضات في وجهه. وكان يتطلع، بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وبعد خطبته في الأمم المتحدة في 1974، إلى أن يحجز لنفسه مقعداً في المؤتمر الدولي للسلام الذي كان الحديث عنه آنذاك لا يتوقف. ولهذا راح يتقرّب من الأميركيين بأي وسيلة، وجعل علي حسن سلامة (أبو حسن) قناته السرّية إلى الأميركيين، بيد أن كمال جنبلاط كان في موقع مختلف؛ كان يريد توسيع الحرب في لبنان، وتحقيق انتصار يتيح له تغيير المعادلة السياسية اللبنانية الراسخة. وفي أي حال، لم يكن عرفات مقتنعاً بمشروع جنبلاط هذا، وتغيير نسب القوى في لبنان. ولكن، هيهات لعرفات أن يتمكّن من تجنّب الحرب؛ فهنري كيسنجر كان يفكر بطريقة مخالفة، وهو الذي شجّع اليمين اللبناني على تفجير الحرب، ودعَمَها بوسائطه المعروفة: السلاح والسياسة والاستخبارات. ومن الأمثلة ذات الدلالة أن الرائد سامي الشدياق أخبر زميله جوني عبده أن جول البستاني كلفه مراراً نقل مدفع هاون عيار 60 من حي إلى حي، وإطلاق القذائف منه كلما جرى التوصل إلى هدنةٍ بين فريقي القتال، والهدف إفشال أي هدنة أو أي وقف للنار (راجع: نقولا ناصيف، المكتب الثاني، مصدر سبق ذكره، ص 569). ومعروفٌ أن جول البستاني كان يأتمر بأوامر الاستخبارات الأميركية، أما سامي الشدياق فقد انضم إلى حزب الكتائب بعد تفكك الجيش اللبناني، ثم التحق بقوات الرائد سعد حداد في جيش لبنان الجنوبي التي كانت إسرائيل تحرّكه وتشرف عليه، وعاش بعد ذلك في إسرائيل، فيما صار جوني عبده، الفلسطيني الأصل والمتحدّر من قرية آبل القمح، مديراً للمخابرات العسكرية اللبنانية، ومرشّح رفيق الحريري لرئاسة الجمهورية اللبنانية.

أميركا والدخول السوري إلى لبنان

ما إن اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية حتى بدأت سورية "الحنجلة" استعداداً للرقصة الجديدة، أي التدخل في ما يجري. وهذا بدهي؛ فمن الخبال أن تقف سورية موقف اللامبالاة أمام ما يحدث في خاصرتها اللبنانية. وحين تشتعل النار في منزل جيرانك لا يمكنك إدارة الظهر لها، فستمتد لتحرق منزلك أيضاً، والجميع سيهبّ لها كلّ بحسب مصلحته: يريد بعضهم إهمادها، وآخرون يريدون صب البنزين على حطبها المشتعل، وبعض ثالث يقف موقف المتفرج، تحيّناً للفرصة الملائمة... وهكذا. وقد وقفت الولايات المتحدة، في البداية، ضد التدخل العسكري السوري في لبنان، وحذر كسينجر وزيرَ خارجية لبنان فيليب تقلا، في لقاء بينهما في واشنطن في 30/9/1975،من التدخل السوري قائلاً: لا يمكن ضبط إسرائيل إلا في حالة عدم التدخل السوري (أسعد أبو خليل، مصدر سبق ذكره، ص 104). وناقشت مجموعة العمليات الخاصة في البيت الأبيض في أكتوبر/ تشرين الأول 1975 فكرة توجيه تحذير لسورية بالقول إن واشنطن لا يمكنها ردع إسرائيل في حال بلغت الأمور [أي التدخل السوري] حدّاً أقصى (المصدر السابق، ص 110). وحذر كيسنجر دمشق مراراً من إمكانية التدخل الإسرائيلي الذي قد يؤدي إلى احتلال أجزاء واسعة من الجنوب اللبناني، وربما خارج تلك المنطقة (المصدر السابق، ص 123 و124). وبالتأكيد، لم تنظر إسرائيل بعين الرضا إلى التدخل السوري في لبنان، وحذّر يتسحاق رابين الرئيسَ الأميركي جيرالد فورد (بحسب مذكّرات كيسنجر) من أن إسرائيل ستحتل جنوب لبنان حتى نهر الليطاني، في حال انتشرت وحداتٌ عسكريةٌ سورية في لبنان (المصدر السابق، ص 118). وأبلغ سيمحا دنيتز، السفير الإسرائيلي في واشنطن، كيسنجر أن إسرائيل ستحتل مناطق استراتيجية في جنوبي لبنان، وتتخذها رهينة حتى يغادر السوريون لبنان، وستغتنم الفرصة لتنظيف "فتح لاند" من الفدائيين (المصدر السابق، ص 124). وفي هذا الميدان، أبلغت الإدارة الأميركية الحكومتين، المصرية والسعودية، أن إسرائيل ربما تقبل انتشار قوة عسكرية تشكلها جامعة الدول العربية إذا قبل المسيحيون في لبنان مثل تلك القوة (المصدر السابق، ص 112).

[جندي سوري في بيروت (27/4/1987 Getty)] 

انعطفت الأمور السياسية في لبنان إلى وجهة جديدة، بعد الهزائم المتكرّرة التي لحقت باليمين اللبناني، ابتداء من منطقتي الفنادق والأسواق التجارية في بيروت حتى أعالي المتن، نزولاً نحو بسكنتا وبكفيا في قلب جبل لبنان، وباتت القوات المشتركة اللبنانية – الفلسطينية على وشك إسقاط البلدتين، الأمر الذي يفتح الطريق نحو مدينة جونية الساحلية، وهي المرفأ الوحيد آنذاك للأحزاب اليمينية. وفي 18/3/1976، أبلغ الرئيس السوري، حافظ الأسد، السفير الأميركي ريتشارد ميرفي أن الرئيس سليمان فرنجية طلب منه رسميًا إدخال القوات السورية إلى لبنان لوقف الحرب (المصدر السابق نفسه، ص 123 و124)، ولوقف تقدّم القوات المشتركة في عمق جبل لبنان. وخشي الأسد من العلاقات المتنامية التي نسجها الموساد مع المليشيات اليمينية، ومن احتمال التدخل العسكري الإسرائيلي المباشر، وهو احتمال جدّي جداً في ضوء التهديدات الاسرائيلية التي كان الأميركيون ينقلونها إلى سورية. وفي اجتماعٍ عُقد في البيت الأبيض في 24/3/1976، حضره الرئيس جيرالد فورد وهنري كيسنجر ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد أبلغ مستشار الأمن القومي برنت سكوكروفت الرئيس فورد تقدير موقف يقول إن منظمة التحرير الفلسطينية وحلفاءها سينتصرون في لبنان. وإن الولايات المتحدة يجب أن تقبل التدخل العسكري السوري الذي سيضع حداً لمثل هذا الاحتمال (المصدر السابق، ص 126). وهنا بالتحديد توصل كيسنجر إلى الاقتناع بجدوى التدخل السوري. ولم تكن الموافقة الأميركية عليه نهائية، بل استمرّت الولايات المتحدة في تسليح المليشيات اليمينية من خلال إسرائيل. وكانت سياسة تسليح هذه الميليشيات تهدف إلى استنزاف أطراف القتال في لبنان، وإغراق سورية في الوحول اللبنانية (المصدر السابق، ص 127). وتحت الضغط الأميركي، وما دامت الغاية وضع حد للتمدّد اليساري اللبناني وتعاظم قوة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وكذلك إغراق سورية في المشكلات اللبنانية، قبلت إسرائيل الدخول العسكري السوري، شرط أن يبقى الجيش السوري شمال نهر الليطاني، بل عند حدود مدينة صيدا (المصدر السابق، ص 124). ومعروف أن الجيش السوري وصل، في اندفاعته الأولى إلى مدينة النبطية، لكنه انسحب منها بناء على الشروط الإسرائيلية والتهديدات المكشوفة، وأبقى سرّاً وحدات من سلاح الاستطلاع في مواقع عسكرية فلسطينية، ومنها قلعة الشقيف (راجع: معين الطاهر، تبغ وزيتون، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017، ص 218).

جاء دين براون إلى بيروت في 31/3/1976 مبعوثاً للإدارة الأميركية، وكانت مهمته التي أوجزها له كيسنجر تتضمن:  إزالة العقبات أمام الدخول العسكري السوري إلى لبنان. العمل على إبعاد كمال جنبلاط عن منظمة التحرير الفلسطينية. تعزيز مكانة الميليشيات اليمينية. وعندما وصل إلى بيروت التقى على الفور الرئيس سليمان فرنجية وكميل شمعون وبيار الجميّل، وقال لهم: وجّهتم طلباً إلى الرئيس حافظ الأسد ترغبون فيه في إدخال الجيش السوري إلى لبنان، وهو يريد موافقتنا على الدخول. هل أنتم موافقون حقاً؟ فردّ الزعماء الموارنة الثلاثة بالإيجاب. فقال براون لبيار الجميّل: هل تعرف أن دخول الجيش السوري إلى لبنان الآن قد يصعّب عليكم إخراجه في ما بعد؟ فقال بيار الجميّل: السكّين هنا (وأشار إلى عنقه)، وعندما نرفع السكّين نتدبّر الأمر مع السوريين. واستنتج دين براون، في أثناء ذلك الاجتماع، أن الزعماء الموارنة الثلاثة موافقون على دخول الجيش السوري إلى لبنان، ولم يُبدِ أي منهم تحفظاً صريحاً (نقولا ناصيف، سر الدولة، بيروت: المديرية العامة للأمن العام، 2013، ص 468 و469 و470). ومع ذلك لم يوافق الرئيس حافظ الأسد على التدخل العسكري المباشر، قبل أن ينال موافقة الدول العربية في مؤتمر القمة العربية المصغرة في الرياض في 16/10/1976، ثم في المؤتمر الثامن للقمة العربية في القاهرة في 25/10/1976. وكان الرئيس سليمان فرنجية قد هاتف الرئيس الأسد، طالباً منه إدخال الجيش السوري إلى لبنان، لمنع انهيار المناطق المسيحية أمام القوات المشتركة اللبنانية – الفلسطينية، فتريث الرئيس الأسد في الإجابة. أي أنه لم يمانع، بل استمهل للحصول على الموافقة الأميركية الضرورية للجم إسرائيل. وفي يوليو/ تموز 1976، وبناء على طلب الرئيس سليمان فرنجية، أرسل المدير العام للأمن العام، العقيد أنطوان  الدحداح، رئيسَ دائرة الاستقصاء في الأمن العام، زاهي البستاني، إلى دمشق، ومعه رسالة عاجلة إلى الرئيس الأسد، وسُلّمت الرسالة إليه من  خلال حكمت الشهابي، وفيها موافقة سليمان فرنجية على دخول أرتال من الجيش السوري إلى قرى قضاء زغرتا في شمال لبنان (نقولا ناصيف، المصدر السابق، ص 471).

إذاً، وقفت الإدارة الأميركية، في البداية، ضد التدخل العسكري السوري إلى لبنان، وأبلغ دين براون كمال جنبلاط عدم موافقة الولايات المتحدة على ذلك، وكانت ترغب، حتى ذلك الحين، في إنهاك المقاومة الفلسطينية، في حربٍ تخوضها ضدها المليشيات اليمينية والجيش اللبناني بدعمٍ من إسرائيل. وحين فشل هذا المخطط، جاء دين براون إلى بيروت على عجل، خوفاً من انتخاب ريمون إدّة رئيساً للجمهورية خلفاً لسليمان فرنجية.  وكان ريمون إدّة المرشح الأمثل للحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، ولا سيما أنه يكره السياسة الأميركية، وتكاد مواقفه تتطابق مع السياسة الفرنسية في المنطقة العربية. وفي تلك الحقبة، رفضت الحركة الوطنية اللبنانية المطالب السورية، أي انسحاب جميع المليشيات أمام انتشار وحدات الجيش السوري، وشنّت هجوماً على بعض مناطق المتن، وباتت على مبعدة مئات الأمتار من بلدة بكفيا عرين حزب الكتائب. حينذاك، قبل الأميركيون الدخول السوري مرغمين. وقبيل ذلك، جاء الوزير اللبناني، غسان تويني، إلى القيادي الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد) برسالة من دين براون يعرض عليه وقف النار مع "الجبهة اللبنانية" في الجبل، وإلا فإن الولايات المتحدة ستوافق على الدخول السوري. ونُقل هذا العرض إلى كمال جنبلاط الذي رفضه على الفور، فيما راحت حركة فتح تسحب قواتها من تلال صنين ومناطق المتن. وكان دين براون خدع كمال جنبلاط بزعمه إن الجيش السوري لن يجرؤ على التقدم إلى ما بعد بلدة صوفر. ولهذا، ربما، رفض جنبلاط سحب قواته من المتن الأعلى (أنظر: صلاح خلف، فلسطيني بلا هوية، مصدر سبق ذكره، ص 216).

لم تتوقف الحرب

أوقفت سورية الحرب الأهلية اللبنانية، أو ما عُرف بـِ "حرب السنتين" موقتاً. وكان من مصلحتها استمرار ذلك الستاتيكو الذي أيده العرب، ووافقت عليه الولايات المتحدة، وحظي بقبول اليمين اللبناني، وبصمت إسرائيل. لكن ذلك الستاتيكو تخلّع بعد زيارة أنور السادات القدس المحتلة في 19/11/1977، وراحت القوى السياسية في لبنان تغيّر مواقفها، وتتموضع بحسب التحولات التي عصفت بالعالم العربي كله، جرّاء تلك الزيارة التي غيّرت قواعد الصراع العربي - الاسرائيلي كلها. وكانت إسرائيل قد أقامت علاقات سرية متينة بالمليشيات اليمينية اللبنانية، خصوصاً حزب الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار وحزب التنظيم، وباتت لاعباً في الشؤون اللبنانية منذ ليلة 11/3/1976 حين أبحر القيادي الكتائبي، جوزف أبو خليل، من نادي اليخوت في ميناء جونيه إلى إسرائيل، ومعه سامي خويري قائد البي جين، وفؤاد روكز أحد القادة العسكريين في حزب الكتائب وآخرون، وقد استغرقت تلك الرحلة البحرية سبع ساعات. وفي مقابل شاطئ الصرفند اللبناني، ظهر زورق حربي إسرائيلي، وراح يدور حول الزورق اللبناني، وبعد التعريف تابع الزورق اللبناني إبحاره إلى ميناء حيفا. وهناك استقبلهم أحد رجال الموساد المدعو "أبو داود"، وهو مبتور اليد، واصطحبهم ليلاً لمقابلة شيمون بيريز (أنظر: زئيف شيف وإيهود يعاري، حرب الظلال، مصدر سبق ذكره). وعلى الفور، بدأت إسرائيل تقديم الدعم العسكري والأمني لحزب الكتائب بجرعاتٍ أكبر من سابقاتها. وكان جورج عدوان، من قادة حزب التنظيم، قد توجّه في سنة 1975 إلى سفارة إسرائيل في باريس، وقابل فيها نائب رئيس الموساد، دافيد كيمحي، قائلاً له: نحن نقاتل العدو نفسه (أي الفلسطينيين). زوّدونا بالأسلحة (أنظر: ألان مينارغ، أسرار حرب لبنان، بيروت: المكتبة الدولية، 2006، ص 68 و69). ثم جاء دافيد كيمحي بنفسه إلى لبنان، ومعه الجنرال بنيامين بن أليعيزر (فؤاد) على متن زورق من طراز "دبور" رسا قبالة مدينة جونيه، وكان في استقبالهما داني شمعون وبشير الجميّل، والتقيا على الفور بيار الجميّل وأمين الجميّل. وفي مارس/ آذار 1976 جلب الموساد بشير الجميّل إلى منتجع هيرتسليا لوضع اللمسات الأخيرة على التحالف بين إسرائيل وحزب الكتائب (أنظر: كاي بيرد، الجاسوس النبيل، بيروت: الدار العربية للعلوم، 2015، ص 193). وطلب الموساد من بشير الجميّل أن يقدّم معلومات وافية وتفصيلية ودورية عن القادة الفلسطينيين وأماكن سكنهم، ولا سيما ياسر عرفات وأبو جهاد. فكلّف بشير الجميّل ميشال يارد تأليف فريقٍ للتجسّس على الفلسطينيين، ووفّر جان ناضر لذلك الفريق مقراً وهاتفاً ينتهي بالرقم 8. وفي ما بعد تحول هذا الفريق إلى جهاز الإستخبارات في القوات اللبنانية (آلان مينارغ، المصدر السابق، ص 42). وأدّت اجتماعات عدة عقدها بشير الجميّل مع الموساد بين 1976 و1980 إلى تعاون متشعب مع الإستخبارات الإسرائيلية، منها إنشاء محطة رادار بحرية إسرائيلية في جونيه في سنة 1979، ومحطة استخبارات للموساد عند الحد الفاصل بين شرق مدينة بيروت وغربها يدعى "الغواصة" تديره الوحدة 504. وكان يرئس المحطة إبان حرب 1982 آفنر أزولاي، فيما كان إسم ممثل الموساد لدى "القوات اللبنانية" شمولنيك أفياتار – ألكس (أنظر: فيكتور أوستروفسكي، عن طريق الخداع، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990، ص 266). وفي مناخ هذا التعاون، وقعت مجزرة دير بلا في لبنان الشمالي في مايو/ أيار 1977 حين عمدت مجموعة كتائبية تحت إمرة سمير جعجع إلى القيام بهجوم غادر على موقع سوري، فقتلت 16 جندياً سورياً وجرحت 11 آخرين.

عادت الحرب الأهلية لتتجدّد في 1/7/1978 في أثناء مفاوضات كامب دايفيد المصرية – الإسرائيلية. حينذاك وقفت "الجبهة اللبنانية" التي تمثل اليمين اللبناني إلى جانب مصر، وأيدت زيارة السادات القدس، بينما وقفت الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية ضد خطوة أنور السادات. وبذلك عاد اليسار اللبناني ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى التقارب مع سورية في مواجهة عقابيل السياسة المصرية. وكانت "القوات اللبنانية" قبل معارك المئة يوم التي اندلعت في 1/7/1978 قد راحت تجمع المعلومات عن المراكز العسكرية السورية في منطقة الأشرفية، وتتنصت على هواتف تلك المراكز (شهادة أسعد شفتري في كتاب وجوه وأسرار من الحرب اللبنانية، مصدر سبق ذكره، ص 212). وبهذا الاشتباك الميداني بين سورية وإسرائيل الذي نسج خيوطه المتشابكة اليمين اللبناني على الأرض اللبنانية، تطورت الأوضاع بصورة معقدة، بحيث صار من المحال فك الاشتباك السياسي والأمني والاستخباري بين الطرفين إلا بعملية كبيرة، وهو ما حدث فعلاً في حرب 1982.

كان حزب الكتائب، ومعه باقي أحزاب اليمين اللبناني، كحزب الوطنيين الأحرار والتنظيم وحراس الأرز، حلفاء طبيعيين لإسرائيل. أما "حلفهم" مع سورية فكان مؤقتاً، ونشأ تحت ضغط الضرورة القاهرة والوقائع الميدانية العسكرية. وباختصار، فجّر اليمين الحرب الأهلية للحفاظ على امتيازاته في نطاق النظام السياسي اللبناني الموروث من عهد الانتداب الفرنسي، ولمكافحة اليسار، وللقضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة. ودعمت أميركا تلك الخطة بقوة. ولكن الحسابات لم تكن مطابقة للتوقعات ألبتة، فكاد اليمين اللبناني ينهار ويخسر الحرب، فلجأ إلى سورية علناً وإلى إسرائيل سراً. وجاء الدخول السوري ليقيم توازناً جديداً في لبنان لمصلحته. لكن الستاتيكو الجديد الذي أوقف الحرب الأهلية مؤقتاً في أواخر عام 1976 وطوال عام 1977 ومعظم عام 1978، حطّمته إسرائيل بأيدي اليمين اللبناني، وأعادت تفجير الحرب التي امتدت هذه المرّة حتى سنة 1982. آنذاك، اعتقد اليمين اللبناني أنه استعاد زمام الأمور، وأن خطة الاستيلاء على السلطة السياسية التي وُضعت في خلوة سيدة البير في أكتوبر/ تشرين الأول 1980 قد نجحت بانتخاب بشير الجميّل رئيساً للجمهورية اللبنانية، وخروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية والجيش السوري من بيروت وجبل لبنان. ولكن هذا الاعتقاد كان واحداً من أوهام اليمين، فاغتيل بشير الجميّل في 14/9/1982، وشرعت إسرائيل، تحت ضربات المقاومة الوطنية، في انسحاباتٍ متدّرجة من لبنان طوال الأعوام 1982 – 1985، تاركة اليمين اللبناني غارقاً في مغامراته الخاسرة مثل حرب الجبل (1983). وفي تلك الحقبة، صعدت المقاومة اللبنانية، بوجهيها اليساري العلماني ثم الاسلامي، إلى الواجهة السياسية في لبنان، وانهار الجيش اللبناني جرّاء سياسات الرئيس أمين الجميّل، ثم سارت الأمور نحو توقيع اتفاق الطائف في 24/10/1989، وانتهت الحرب الأهلية بهزيمةٍ مدويةٍ لليمين اللبناني، فيما لم يكسب اليسار أي شيء تقريباً، بل أعادت الطوائف المشارِكة في الحرب الاستيلاء على النظام السياسي، ووزعته حصصاً بنسب جديدة.

اليوم، يحاول اليمين اللبناني، التقليدي والجديد (الكتائب والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية)، أن يستعيد بعض ما خسره في اتفاق الطائف، وقد تمكّن فعلاً من جرّ اليمين الإسلامي، القديم والجديد، إلى سياساته، مثل تيار المستقبل وحركة أمل والجماعة الإسلامية ومجموعات سلفية متناثرة هنا وهناك، علاوة على الأعيان التقليديين. حتى أنه تمكّن من اختراق اليسار اللبناني، فاصطفّ الحزب التقدمي الاشتراكي إلى جانب "القوات اللبنانية"، والتحقت مجموعاتٌ شيوعية بأكثر الفئات الرأسمالية رجعية، أي الرأسمالية العقارية التي مثّلها حتى اغتياله الرئيس رفيق  الحريري، وكانت الذريعة هي التوافق الوطني وبناء الدولة الجديدة، وهي ذريعةٌ بائسةٌ ومبتذلة، أدّت نتائجها العملية إلى انهيار الدولة ذاتها ماليًا واقتصاديًا وبيئياً. لقد خسر اليمين الطائفي اللبناني الحرب الأهلية التي فجّرها بوعي كامل وإرادة حرة، واعتقد آنذاك، أي في سنة 1975، أن الغرب سيُرسل جحافله لحماية المسيحيين في وجه المسلمين والفلسطينيين. خسر اليمين الحرب؟ هذا صحيح. لكن فكر اليمين، أي القومية اللبنانية المبتذلة، وكره العروبة، انتصرا، مع الأسف، حتى في صفوف مسلمين صارت العروبة لديهم تعني تأييد المملكة السعودية، وتلقي الأموال والأوامر منها. وها هي الحرب الأهلية محتدمة اليوم في جميع أرجاء لبنان، لكن من دون سلاح، وبغياب اليسار العَلماني والمقاومة الفلسطينية اللذيْن حل في محلها تيار ديني هو حزب الله.

[نشر في العربي الجديد]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬