انطلقت في الثالث عشر من شباط عشرات الآلاف من النساء في مظاهرات حاشدة في بغداد والناصرية والبصرة والديوانية ومدن أخرى من أجل الوطن وضد الوصاية الدينية والذكورية. جاءت هذه المظاهرات على أعقاب تصريحات رجل الدين الميكيافيلي مقتدى الصدر ضد جوهر ثورة تشرين العراقية داعياً إلى «فصل الذكور عن الإناث» والامتثال «لقواعد الدين الإسلامي». إذ شكلَّت ثورة تشرين مساراً واضحاً تحدى الهيكليات السياسية والمجتمعية الطاغية دون التعالي على الموروث الثقافي والديني في المجتمع مهما كان بسيطاً وعفوياً. فمحرِّك الثورة الأساس هو الطبقة المجتمعية الفقيرة والمهمَلة لزمنٍ طويل. طبقةٌ انحدَرت من بيئة وسطى مُتعلمة أنهكها الحصار الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي، وهمشّها سياسيو ما-بعد الاحتلال الأمريكي. تجاوز شابات وشباب الثورة المرجعيات السياسية السائدة، وكان جُلَّ تفكيرهم يرفض الواقع المرير والفساد المُستشري، ولم يدعموا أياً من الزعماء السياسيين وأتباعهم. وحاولَ هؤلاء الثوار تجاوز ثنائيات الولاء لإيران أو أمريكا، وتجاوزوا ايضاً مظاهر العنف السائد إلى حدٍ كبير في تاريخ العراق السياسي الحديث. حافظت ثورة تشرين في كل المحافظات على سلميتها ولم تنجرف إلى التسلح – رغم تفشي السلاح في عراق ما-بعد الاحتلال كتفشي الفساد. وينمّ ذلك عن عمقٍ فكري وإدراك لأنهار الدم التي سالت في العراق من العهد الملكي مروراً بالعهد الجمهوري وما تلاه. وهكذا شكلَّت ثورة تشرين نقطة تحول كبيرة في تاريخ العراق الحديث، اجتماعياً وتنظيمياً وسياسياً.
جاء ردّ فعل الحكومة العراقية والمليشيات المتحالفة معها عنيفاً ضد حجم التغيير الاجتماعي والسياسي الذي دعا إليه الثوار. فالطائفية المؤسساتية هيكلية سياسية أساساً. والطائفة ليست تركيبة عضوية طبيعية في أي مجتمع، بل تحتاج إلى منظومة سياسية وعسكرية تدعم وجودها. حيث تقف هذه الطائفة أساساً ضد مفهوم الوطن والمواطنة. ومن هذا المنطلق يجب استيعاب صرخة ثائرات وثوار العراق ضد منظومة الفساد الحكومي والمليشيات الطائفية التي تحميها، بل ضدَّ فكرة الطائفة برمَّتِها. فنحن نشهد في العراق بداية ثورة اجتماعية كُبرى، للمرأة دورٌ بارز فيها، ستغيّر تنظيم العلاقات المجتمعية. لكن الثورات لها جدليتها، وديمومتها مرتبطة بدرجة الوعي العام والتمسك بمبادئها المعلنة والضمنية: السلميّة والمواطنة.
تحالف الإسلام السياسي الشيعي و النيوليبرالية
لقد أُلغيَ مفهوم الوطن من القاموس العراقي لعقود طويلة. إذ سلّطَ نظام البعث فكراً إقصائياً لمفهوم المواطنة، وجنّدَّ المفهوم العقائدي القومي والتهميش المتعّمد لنسبة كبيرة من سكان البلد. إلا أن انتماء الفرد بقيَ، ضمنياً، للعراق. وتعود مسألة الاختزال العشوائي للمواطنة إلى العهد الملكي عندما شنَّت القوات العراقية حرب إبادة ضد الآشوريين في ثلاثينيات القرن الماضي لمطالبتهم بحقوقهم كمواطنين على نفس الأرض. وشاركت حكومة نوري السعيد فيما بعد في المشروع الصهيوني بسحب الجنسية العراقية من اليهود العراقيين والاستيلاء على ممتلكاتهم وطردهم من الوطن. وفي الجانب الثقافي-السياسي نجد محاولة ساطع الحصري (الذي ينحدر من أصول تركيّة وتتلمذّ في المدارس العسكرية العثمانية)، المسؤول الرسمي عن المناهج التربوية في الحقبة الملكية، إلغاء الجنسية العراقية عن شاعر العرب الراحل محمد مهدي الجواهري. وعادت نفس الكَرّة خلال حكم البعث عندما أقصيَ الكُرد الفيلية، على سبيل المثال، واستمرت التخوينات ومحاولات سحب الجنسية العراقية من الجواهري او الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي.
تعقدت المسألة كثيراً بعد الغزو والاحتلال الأمريكي، وتسليم الحكم لنخبة من السياسيين، البعيدين عن همّ الإنسان العراقي، تمثلت بثلّة من الحركات المذهبية والقومية التي اعتمدت تنظيمياً وفكرياً على الأجنبي أساساً.١ ويُعزى لكنعان مكيّة الفضل في بلورة فكرة التَبَعية للآخر كجزءٍ أساس من التركيبة السياسية بعد الاحتلال الأمريكي. يتجلى نهجج مكيّة، من خلال كتابيه «جمهورية الخوف» و«القسوة والصمت»، في نظرته للمجتمع العراقي (والعربي عموماً) نظرةَ انتقاص. فالتفسير الثقافي الضيّق شكلَّ المحور الأساس لبناء هيكلية سياسية (ذات قناع فكري) لغزو واحتلال البلد. وقطعَ مكيّة شوطاً طويلاً في محاولة تمرير خصوصيات غير موضوعية عن «الشخصية» أو «البُني»" العراقية، فوجدت هذه الفكرة ضالتها ليس في الوسط النيوليبرالي فحسب، بل في جوهر الإسلام السياسي الشيعي.[2] حيث بدأت الأحزاب الإسلامية الشيعية – تحديداً – بخلق مظلومية مبرمجة تخدم نظرتها الدينية والطائفية، تتماشى مع التصور النيوليبرالي بُعيد أحداث ١١ أيلول الإرهابية. ساهم مكيّة وحلفاؤه في خلق صورة افتراضية عن العراق، علماً بأن كل بلدان الأرض، مِن الصين الى السويد والولايات المتحدة، هي تكوينات حديثة نسبياً اخترعها مَن كان يمتلك العُنف في تلك اللحظة التاريخية. حاول مكيّة إقحام نظرته الثقافية-السياسية الأحادية على حقبات مَضَت، إذ كان يُدخِل فكرة «المكوّنات» العنصرية-الطائفية-الفئوية في كل جوانب التاريخ العربي-الإسلامي وفي سيرورة بناء العراق. وقد يُسارع البعض في الزعم أن مكيّة لم يستخدم مصطلحات طائفية، وهو العلماني؛ إلا أن ما يتغاضون عنه هو استخدامه لمفاهيم تؤسس للتنظيرات الطائفية والعنصرية. العراق لمكيّة يشتمل على «مكونات» جغرافية تسكنها طوائف وأقوام، وعلى هذا الأساس يجوز فصل أو تفكيك هذه المكونات. وهذا هو جوهر حديث المجلس الإسلامي الأعلى (حزب عمار الحكيم) وجناحه العسكري، منظمة بدر (برئاسة هادي العامري)، عن إقليم الوسط والجنوب؛ وما تلاقفته الأحزاب السنية لاحقاً في الحديث عن الإقليم السنّي وفي ابتكار مظلومية سنيّة (لا سيّما في أعقاب الحرب الأهلية ٢٠٠٦-٢٠٠٨). ومن هذا المنطلق، أيضاً، بدأ السياسيون الشيعة الليبراليون والإسلاميون الحديث عن "البيت الشيعي"، في اتفاق صريح بين العلماني أحمد الجلبي وآخرين، من جهة، وحزب الدعوة الإسلامية والمجلس الإسلامي الأعلى (بغض النظر عن التسميات اللاحقة من حزب "الحكمة" لعمار الحكيم أو "القانون" للمالكي، الخ)، من جهة أخرى.
جاءت سيطرة الأحزاب السياسية الإسلامية الشيعية على سيرورة الأمور في العراق بعد أن أرسى المُحتَل الأمريكي دستوراً مبنياً على أسس طائفية-عِرقية لم يتداول بها مؤسساتياً في العراق من قبل. فالمشاكل والاختلافات في العراق، ولا سيما خلال حكم البعث الديكتاتوري، كانت سياسية أساساً. ولكن الأحزاب الإسلامية الشيعية – والسنيّة أيضاً – استغلت المسألة الطائفية (والكُرد المسألة القومية) أبشع استغلال في تمرير نظرتها السياسية للسيطرة على الناس، وتأجيج مشاعر الخوف والهلع من الآخر. كما استثمرت هذه الأحزاب تدميرالمُحتل الأمريكي المتعَمد للبنى التحتية للبلد في فرض تبعيتها الفكرية والسياسية لإيران (أو السعودية أو قطر أو الإمارات أو. . .). في خضّم هذا الوضع المريض، ازداد النفوذ الإيراني سطوةً على الناس والبلد، لا سيّما بعد ٢٠١٠، من خلال ممارسات الأحزاب الإسلامية والمليشيات العسكرية التي بادرت إيران إلى تأسيسها لضمان نفوذها وسيطرتها على المسرحية السياسية في العراق. جلّ القادة الإيرانيين، ولاسيّما قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني – الجنرال قاسم سليماني، كان مؤمناً أن خلق إيران قوية يتطلب عراقاً ضعيفاً ومُشرذَماً. وبالتالي نفذّت إيران نهجها من خلال الأحزاب الإسلامية الشيعية التي كان لها همّان، لا ثالث لهما: أولاً، الخضوع المطلق للرأي والنفوذ الإيراني كجزء أساس من الفكر العقائدي الإسلامي الشيعي، وثانياً، نهب إمكانيات وثروات البلد دون وازع. إذ لم تستثمر هذه الأحزاب فِلساً واحداً في مدن وسط وجنوب العراق ولم تسعَ الى بناء وتطوير البنية التحتية في هذه المناطق ذات الغالبية الشيعية والمهملة منذ عقود والمنهَكة بسنين من الحروب العبثية والحصار الاقتصادي الأمريكي الجائر.
الثورة المضادة: التيار الصدري
حاول محمد باقر الصدر أن يؤسس حزب الدعوة الإسلامية أواخر خمسينيات القرن العشرين على غرار منظمة الإخوان المسلمين في مصر. إلا أن حزب الدعوة ضلّ هامشياً في تاريخ العراق السياسي الحديث حتى أواخر سبعينيات القرن الفائت لسببين أساسيين. أولاً، صعود نجم الإسلام السياسي الشيعي في إيران واستيلاء الخميني على الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩؛ وثانياً، هلع حزب البعث من فكرة "الشعوبية" واختزال الأقليات المذهبية أو الدينية أو الإثنية – كالشيعة العرب أو الأكراد في العراق – كتوابع للأجنبي لا مواطنين في بلد أعطوه الغالي والنفيس. وانتهجَ صدام حسين بعد استيلائه على السلطة في تموز ١٩٧٩ نهجاً قمعياً ضد حزب الدعوة، بعد أن أقصى الحزب الشيوعي والاتحاد الكردستاني – حلفاء الأمس في «الجبهة التقدمية». ومنحَت هذه الرعونة السياسية زخماً لم يحلم به قادة حزب الدعوة، وسرعان ما انتقلوا الى ممارسة السياسة في إيران بعد ١٩٨٢. في هذه اللحظة انتقلَ العراق من بلد ذي تاريخ سياسي عنيد وصراع شرس بين مشارب فكرية مختلفة، الى بلد تحكمه أوهام طائفية-قومية تخدم أولاً وآخراً مصالح الأجنبي، لاسيّما الدول الكبرى – ودوَل جوار – ذات مطامع استيراتيجية ومصالح في مجالات الطاقة والمعادن.
كانت الأحزاب الإسلامية الشيعية – الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى وغيرها – والسنيّة، أيضاً، محدودة في حجمها وفي مقدار النفوذ الذي تملكه شعبياً داخل العراق بعيد الاحتلال الأمريكي. الاستثناء لذلك هو ما سميَّ بالتيار الصدري. وُلِد التيار الصدري فعلياً بعد ٢٠٠٣، ولكن جذوره ترجع الى ما قبل الغزو/الاحتلال الأمريكي. محمد صادق الصدر، والد مقتدى، حاول تأسيس نهج مُغاير للمرجعية الدينية (الشيعية) في النجف، أطلقَ عليها وصف «الحوزة الناطقة». تمتعَ الصدر الأب بشعبية عالية وسط جموع الشيعة الفقراء في وسط وجنوب العراق التي عانت الأمرين من بطش نظام صدام حسين الشمولي خاصة بعد انتفاضة ١٩٩١، من ناحية، ومن الحصار الاقتصادي الجائر التي فرضته الولايات المتحدة على شعب العراق طيلة ثلاثة عشر عاماً وقبلها حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران، من ناحية أخرى. وكان للصدر الأب علاقة جيدة مع نظام صدام أيضاً، إذ كان بمثابة صمام الأمان يؤمّن خضوع الشيعة الفقراء لنظام الحكم البعثي، ويسمح في نفس الوقت تأدية الطقوس الدينية البسيطة. قُتل الصدر الأب أواخر تسعينيات القرن الماضي – بعد اختلاف مع نظام صدام – وتراجع المدّ الصدري حتى مجيء الاحتلال الأمريكي.
توارثَ مقتدى قيادة التيار بحكم النَسَب دون أن يتميز بمعرفة دينية او سياسية. وتفاقمت مع قيادة مقتدى الخلافات في التيار، وبرز انشقاقات مع مرور الزمن أبرزها منظمة عصائب أهل الحق التي يترأسها قيس الخزعلي – الصدري سابقاً. وكان لهذه الانشقاقات في الوقت نفسه دور مهم في بلورة التيار الصدري كحركة ضمن الإسلام السياسي الشيعي والمليشياوي أيضاً. فبينما كان الصدريّون جزءاً أساسياً في كل الحكومات العراقية منذ ٢٠٠٥، كان للتيار المليشياوي من خلال جيش المهدي دور بارز في الحرب الأهلية (٢٠٠٦-٢٠٠٨) وفي فرض سيطرتهم شبه المطلقة على مناطق بأكملها في بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية. ففي عراق تصول وتجول به أكثر من مئة تنظيم مليشياوي، يشكِّل «جيش المهدي» (وتوابع أخرى مثل «سرايا السلام» الصدريّة) التنظيم الأكبر، تليها «منظمة بدر» و «كتائب حزب الله» ثم «عصائب أهل الحق» من ناحية عدد المنتسبين والهيكلية التنظيمية. وإذا كانت المليشيات الأخرى تنتمي علناً لولاية الفقيه الإيراني الخامنئي، فتمتاز سرايا السلام بتبعيتها للصدر الأب (وتُقلِّد فقهياً المَرجِع علي السيستاني).
تعتمد هيكلية التيار الصدري على خليط من المعتقدات المذهبية وعلى نظام شبه عسكري. وبالتالي، فللتيار الصدري وجود متعدد ومتقلب، يتغير بانتهازية لملائمة الجو السياسي السائد. فالخطاب الصدري تغير من «محاربة» الاحتلال إلى القتل على الهوية المذهبية خلال الحرب الأهلية، إلى المشاركة في حكومة المحاصصة (في البرلمان والدولة)، إلى التظاهر ضد الدولة. فتارةً كان الصدريّون أقرب إلى إيران، وتارة أخرى إلى الخط السعودي-الأمريكي. وهذه التقلبات تشكّل جوهرية النهج الصدري منذ تأسيسه على يدي محمد صادق الصدر: الإنتهازية لنيل المكاسب السياسية أساساً. وللتيار الصدري «مثقفوه»، وبعضهم من دعاة العلمانية أيضاً. بعد مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، أصبحت هشاشة المليشيات في العراق بدون الوصي الإيراني واضحة. فاستثمر مقتدى الصدر الحدَث لمحاولة سدّ الفراغ من خلال إبراز عضلات رجاله (سواء «القبعات الزرقاء» أو «سرايا السلام») في ساحات الإعتصام والتنكيل بالثوار، من ناحية، والتقرب الواضح لأصحاب القرار في طهران وقمّ من ناحية أخرى. وهكذا، تبنى الصدر وتياره نهجاً ميكيافيلياً بامتياز، إذ استخدمَ – ويستخدم – أي أسلوب ممكن (وأغلبية أساليبه غير أخلاقية) لغرض الوصول إلى مبتغاه السياسي. فتزايدَ بعد مقتل سليماني الاعتداء العنيف على الثوار (مِن قتل أو حرق للخيَّم)، ومؤخراً مهاجمة الطلاب وخطف و اغتيال المسعفات الطبية وإرهاب النساء المشاركات في الثورة. وهكذا أصبح التيار الصدري المليشياوي يداً مساندة للحكومة لضرب الثائرات والثوار لضمان دورهم المهم في تشكيلة المحاصصة الطائفية القادمة، ولكسب ودّ ودعم المرشد الإيراني.
نلخص إذاً أن الصدر والتيار الصدري هما أساس الثورة المضادة، ومن خلالهما تمّ التخطيط لإجهاض أهم حراك ثوري شعبي جارف شهده تاريخ العراق الحديث، بل إن ثورة شابات وشبان العراق أعادت وبزخم كبير معنى الوطن والانتماء للوطن لا غير. وفي خضم هذا الصراع العنيد، وقفت المرجعية الدينية الشيعية في النجف موقفاً مُحايداً ومتابعاً إلى حدٍ كبير. وكانت جلَّ خطابات وتصريحات المرجعية خجولة تجاه عنف الدولة والمليشيات ومقتل ما يزيد عن سبعمئة شهيد وإصابة عشرات الآلاف من الجرحى بعضهم سيعيش بإعاقات دائمة. ولم ترفض المرجعية أساليب التخويف والخطف والقتل الذي مارسته الدولة ومؤسساتها الأمنية بتنسيق مع المليشيات الشيعية (الولائية تحديداً) في بغداد والناصرية والبصرة وكربلاء والنجف وسائر مدن العراق. كما لم تستنكر المرجعية الانتهاكات الموثَّقة التي قامت بها بعض فصائل الحشد الشعبي – الذي تأسس تلبيةً لدعوى المرجعية لمجابهة وطرد داعش من العراق – في الموصل والأنبار وصلاح الدين. كما لم نشهد موقفاً ناقداً لمظاهر العنف الأُسري المُستشري ضد المرأة، وآخرها حرق ومقتل ملاك حيدر الزبيدي على يد زوجها وعائلته. وهكذا نرى دور المرجعية صوريّاً بإمتياز، ولا يتجاوز كونه مُسكّناً لملايين الفقراء الشيعة. إلا أن دعم المرجعية للدولة – وللمليشيات، وإن لم يكن صريحاً أحياناً – استمرَ برغم الفساد المُستشري والإهمال لاسيمّا لمدن الوسط والجنوب العراقي والقمع المبرمج لثورة تشرين. وهنا يبدو دور المرجعية الشيعية رجعياً ومشابهاً لدور الكنيسة الكاثوليكية والفاتيكان في محاباة المد الفاشستي في أوربا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الفائت.
خاتمة...«أنا الشهيد القادم»
نكرر القول أنه لم يكن للتيار الديني أي دور يُذكَر في تاريخ العراق السياسي الحديث، لا من طرف الإخوان المسلمين أو حزب الدعوة الشيعي، أو غيرهما. إلا أن الاحتلال الأمريكي فتحَ الباب على مصراعيه لتغلغل ونمو نفوذ الأحزاب الإسلامية – الشيعية تحديداً – على أسس نيوليبرالية ممزوجة بنزعة إنفصالية. يوجد في العراق اليوم – حسب بعض الإحصائيات – ٦٧ فصيلاً شيعياً، ٤٤ منها يُقلد ولاية الفقيه علي خامنئي – وتُسمى فصائل ولائية، و١٧ تُقلد علي السيستاني والبقية تقلد مراجع أخرى. وهناك ٤٣ فصيلاً من الحشود العشائرية والمناطقية، وهي فصائل سنيّة. وهناك، أيضاً، فصائل مسيحية (٢) وتركمانية (٢) و إيزيدية (٢) وكاكائية (١). ويشمل عدد المقاتلين ما يزيد عن ١٦٠ ألف مقاتل، جميعهم يتقاضون رواتب شهرية من وزارة المالية العراقية! وجديرٌ بالذكر أنه توجد فروق كبيرة في تسليح وإمكانيات وصلاحيات الفصائل الشيعية، ولاسيما الولائية، مقارنة بنظرائها السنيّة وغيرها. وهذا الوحش الجاثم على صدر الشعب والمؤسسات الحكومية والبلد برمته هو نتيجة النهج السياسي-الثقافي الذي أرسى له فكر كنعان مكيّة وأصحابه. حتى انطلقت ضد هذا الوحش وجذوره ثورة تشرين.
سطِّر الشباب العراقي مَلحمة تاريخية لم يشهد مثيلها العراق الحديث. إنه – وبكل صراحة – أنضج جيل عَرفه العراق. تلاحم الطبقات المُستضعفة والمهمّشة مع الحركة الطلابية في هيكلية عُضوية متناسقة، شامخة في خيالها وإصرارها، مُتحديةً الواقع القذر والمرير الذي يُجسِّده نظام طُفيلي قادم مع المُحتل الأمريكي ومدعوم من الجارة إيران. جيلٌ مُنفتِحٌ على العالم الخارجي وعميقٌ في تعامله مع الوضع – معرفياً وثقافياً وأخلاقياً – تمكّن مِن نَفض غبار الصراع العقائدي، وموضوعي في تقييمه الواقع دون أن يُساوم على مفهوم الحرية والسيادة. ثوار العراق قدّموا مثالاً ناضجاً لمفهوميْ الوطن والمواطنة. وستستمر الثورة، بعد توقف فعالياتها الميدانية مؤقتاً بسبب تفشي وباء كورونا واستغلال ذلك من قبل السلطات الحكومية لمحاولة قمع الثورة والثوار. ولكن هذا الوعي لابدّ وأن يخلق سلسلة ثورات، فالتغيير لا يحصل في حراكٍ واحد. وعلى حد قول غرامشي، تَخلق الثورات الكبرى معايير وطرقاً للتفكير والعيش جديدة، كما تُنعِش أحاسيس العيش المشترك وتُنمّي وعياً نفسياً جديداً على نطاق شعبي واسع يستمر بالازدهار.
فانكوفر في ٢٠ نيسان ٢٠٢٠
هوامش
1. جديرٌ بالتذكير، على سبيل المثال، أن "المجلس الإسلامي الأعلى في العراق" تأسسّ مطلع ثمانينيات القرن الفائت في إيران، واستقرّ "حزب الدعوة
الإسلامية" في – ومارسَ نشاطه السياسي مِن – إيران منذ الثمانينياات. كما تأسست فصائل عسكرية، كمنظمة بدر، بأوامر ودعم إيراني بحت، وقاتلت الى جانب الجمهورية الإسلامية الإيرانية ضد العراق خلال سني الحرب العراقية-الإيرانية الثمانية – التي راحَ ضحيتها ما يزيد على المليون قتيل من كلا البلدين.
2. لم تملك أحزاب الإسلام السياسي تحليلاً جوهرياً للمجتمع العراقي او معرفة في حيثيات التغيير السياسي في البلد. جُلَّ ما في جعبة هذه الأحزاب، ونأخذ حزب الدعوة مثالاً كونه أقدم أحزاب الإسلام السياسي، انتقادات لتيارات فكرية سائدة دون طرح تحليلات او منهجية للتغيير السياسي او الاجتماعي. انتقد محمد باقر الصدر، المؤسس الفكري والروحاني لحزب الدعوة في العراق، في كتابه "فلسفتنا" منهج الاتحاد السوفيتي السابق كممثل وحيد للماركسية (بالطبع دون التبحر في التيارات الماركسية المتعددة والاختلافات الفكرية بينها). وحاول ذاك المجلد نقد الفكر المادي الفلسفي في نظرية المعرفة، دون أن يطرح سطراً واحداً – مِن ٤٠٥ صفحة – لتفسير منهجية الصدر أو فكره الإسلامي الشيعي تحديداً. الغرض من هذا المثال هو إيضاح عجز الأحزاب الإسلامية الشيعية عرض مانيفستو سياسي، وبهذا فإن ما تبنوه بُعيد استلامهم السلطة في ٢٠٠٣ هو منهجية هجينة من ابتكار التيار النيولبرالي، وممارسات فئوية، أوصلها لهم كنعان مكيّة ضمن ندوات و اجتماعات المعارضة، في تسعينيات القرن الماضي، تحت خيمة ما سُميَ بالمؤتمر الوطني العراقي الذي كان يترأسه أحمد الجلبي.