تتبدّل حيواتنا، في مواجهة تسونامي فيروس كورونا كوفيد ١٩، على نحو لم نكن نتوقّعه قبل بضعة أسابيع فقط. لم يحدث منذ الانهيار الاقتصاديّ في ٢٠٠٨-٢٠٠٩ أنّ العالمَ قد تقاسمَ جماعيًّا تجربةً من هذا النوع: أزمة عالميّة، واحدة، سريعة التحوّر، تقوم بهيكلة إيقاع حيواتنا اليوميّة ضمن حساباتٍ معقدة من المخاطر والاحتماليّات المُتنافسة.
ردًّا على ذلك، طرحت العديد من الحركات الاجتماعيّة مطالب تأخذ العواقب الكارثيّة المُحتلمة للفيروس على محمل الجدّ، بينما تتعاطى أيضًا مع عجز الحكومات الرأسماليّة على معالجة الأزمة بحدّ ذاتها. تشتملُ هذه المطالب على أسئلة متعلّقة بسلامة العُمّال، والحاجة إلى التنظيم على مستوى الحارة، والدخل والضمان الاجتماعيّ، وحقوق هؤلاء الذين بعقود الصفر-ساعة (zero-hour contracts) أو الذين يعملون في وظائف غير مستقرة، والحاجة إلى حماية المُستأجرين والفقراء . وبهذا المعنى، فقد أبرزت أزمة كوفيد ١٩ بصورة لا تشوبها شائبة الطبيعةَ اللاعقلانيّة لأنظمة الرعاية الصحيّة المُتمحورة حول الرّبح الشركاتيّ -حيث تخفيضات النفقات الكليّة تقريبًا على مرافق المستشفيات العامة والبنية التحتيّة لها (بما في ذلك أسرّة العناية المركّزة وأجهزة التنفّس)، وحيث نقص احتياطيات الصحّة العامّة والتكلفة الباهظة للحصول على خدمات طبيّة في معظم البلدان، والسّبل التي تسلكها حقوق الملكيّة لشركات الأدوية لتقييد الوصول السريع لإنتاج العلاجات الممكنة وتطوير اللقاحات.
ومع ذلك، فإنّ الأبعاد العالميّة لفيروس كوفيد ١٩ لم تتمظهر سوى بشكل ضئيل في كثير من النقاش اليساريّ. ميك دفيس (Mike Davis) مُحقٌّ في ملاحظته بأنّ ‘‘الخطرَ على فقراء العالَم تمّ تجاهله كاملًا تقريبًا من جانب الصحافيين والحكومات الغربيّة‘‘، وبالمثل تمّ تطويق النقاش اليساريّ، مع صرف انتباه مركّز بصورة أكبر على أزمات الرعاية الصحيّة الخطيرة المتكشّفة في أوروبا والولايات المتحدة. وحتّى في داخل أوروبا، فثمّ تفاوتٌ كبيرٌ في قدرة الدّول على التعاطي مع هذه الأزمة -كما يوضّح تقارب ألمانيا واليونان- بيد أنّ كارثةً أكبر بكثير على وشك أن تضرب بقيّة العالم. وكردّ على ذلك، يجب أن يصبحَ منظورنا بشأن الجائحة عالميًا حقًّا؛ بالاستناد إلى فهم الكيفية التي تتقاطع فيها جوانب الصحة العامّة لهذا الفيروس مع أسئلة أكبر متعلّقة بالاقتصاد السياسيّ (بما في ذلك احتماليّة حدوث كساد اقتصاديّ عالميّ طويل الأمد وخطير). فليس هذا بأوان إغلاق الأبواب (القوميّة) والتحدّث ببساطة عن مواجهة الفيروس داخل حدودنا.
الصّحة العامّة في الجنوب
كما الحال مع كافّة ما يُطلق عليه وصف الأزمات ‘الإنسانيّة‘، فإنّه لمن الجوهريّ التذكير بأنّ الشروط الاجتماعيّة الموجودة في مُعظم بُلدان الجنوب هي نتاجٌ مباشرٌ لكيفيّة اندماج تلك الدّول في تراتبيّات السّوق العالميّة. تاريخيًّا، تضمّن هذا مواجهة كبيرة مع الكولونياليّة الغربيّة -التي واصلت مسيرتها- في الأزمنة المُعاصرة، حيث تبعيّة البلدان الأكثر فقرًا لدول العالم الثريّة وللشركات الكبرى العابرة للأوطان. ومنذ منتصف الثمانينيّات، دمّرت ضرباتٍ متكرّرة من التكيّف الهيكليّ -المصحوب في الغالب بعمل عسكريّ غربيّ، أو بإنهاك الأنظمة بالعقوبات، أو بدعمٍ للحكّام السلطويين- بشكل ممنهج القدرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة للدول الأكثر فقرًا، ممّا تركها معدومة الجاهزيّة للتعامل مع أزماتٍ كبرى مثل فيروس كورونا كوفيد ١٩.
إنّ إبراز هذه الأبعاد التاريخيّة والعالميّة إنّما يساعدُ على إيضاح أنّ النطاق الهائل للأزمة الحالية ليس مجرّد مسألة متعلقة بعلم الأوبئة الفيروسيّة ونقص المقاومة البيولوجيّة للعدوى الجديدة. فالطّرق التي سيعاني بها معظمُ الناس في كافّة أرجاء أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط من الجائحة القادمة هي نتيجة مباشرة للاقتصاد العالميّ المتمحور نسقيًّا حول استغلال موارد الجنوب وشعوبه. وبهذا المعنى، فإنّ الجائحة هي، إلى حدّ كبير، كارثة اجتماعيّة صنعها الإنسان -وليست مجرّد كارثة نجمت عن مسببات طبيعيّة أو بيولوجيّة.
والحال أنّ أحد الأمثلة على أنّ هذه الكارثة هي من صنع الإنسان هو الحالة الرثّة لأنظمة الرعاية الصحيّة العامّة في مُعظم بلدان الجنوب، التي تفتقرُ إلى التمويل وإلى نقص في المعدّات والآلات الملائمة والطواقم التوظيفيّة الملائمة. وهذا مهمّ بالتحديد لفهم التهديد المتمثّل في كوفيد ١٩ بسبب الطفرة السريعة والمرتفعة جدًا في الحالات الحرجة والخطيرة التي تتطلب عادةً دخول المشفى على إثر الإصابة بالفيروس (وهي تلك الحالات التي تُقدّر حتّى الآن بنسبة ١٥ إلى ٢٠٪ من الحالات المؤكّدة). تُناقش هذه الحقيقة الآن على نطاق واسع في السياقات الأوروبيّة والأميركيّة، وتكمن خلف استراتيجيّة ‘‘تسطيح المنحنى‘‘ من أجل تخفيف الضغط على قدرات الرعاية الصحيّة المُركّزة والحرجة.
ومع ذلك، فبينما نُشيرُ عن حقّ إلى نقصٍ في أسرّة الرعاية المُركّزة، وأجهزة التنفس، وفي كوادر طبيّة مُدرَّبة في العديد من البلدان الغربيّة، فإنّه يتوجّب علينا أن ندرك أنّ الوضعَ في مُعظم بقيّة بلدان العالم هو أسوأ بكثير. فمالاوي، على سبيل المثال، لديها تقريبًا ٢٥ سريرَ عنايةٍ مركّزة لسكّان عددهم ١٧ مليون نسمة. وهناك أقلّ من ٢.٨ من أسرة عناية حرجة/لـ مائة ألف شخص في المتوسط في آسيا الجنوبيّة، حيث تمتلك بنغلاديش حوالي ١١٠٠ سرير كهذا لسكان يزيد عددهم عن ١٥٧ مليون نسمة (أي ٠.٧ من الأسرة لمائة ألف شخص). بالمقارنة، فإنّ الصّور المُفجعة القادمة من إيطاليا تحدث في نظام رعاية صحيّة متقدّم لديه ١٢.٥ من أسرّة العناية المركّزة/ لـ مائة ألف شخص (والقدرة على جلب المزيد أونلاين). إنّ الوضع جدّ خطير في أنّ كثيرًا من البلدان الأكثر فقرًا لا تملك حتى معلومة حول توفّر العناية المركزة، إذ تقدّر ورقة أكاديميّة عام ٢٠١٥ أنّ ‘‘أكثر من ٥٠٪ من الدّول [منخفضة الأجر] تفتقر إلى أيّ بيانات منشورة حول سعة وقدرة وحدات العناية المركّزة‘‘. وإنّه لمن الصعب، في ضوء غياب معلومات كهذه، أن نتصوّر كيف يمكن لهذه البلدان أن تخطّط لمواجهة الطّلب المحتوم للرعاية الصحيّة الحرجة الناجمة عن كوفيد ١٩.
بطبيعة الحال يُمثّل السؤال حول وحدات العناية المركّزة وقدرة المستشفيات جزءًا من مجموعة إشكالات أكبر بكثير بما في ذلك النقص الحادّ في الموارد الأساسيّة (كالمياه النظيفة، والطعام، والكهرباء)، والحصول الملائم على الرعاية الطبيّة الأوليّة، ووجود الأمراض المُلازمة الأخرى (كمعدلات ارتفاع الإصابة بفيروس نقص المناعة (HIV) والسُلّ). كلّ هذه العوامل، عندما تُتناول ككلّ، ستعني بلا ريب انتشارًا عاليًا بشدّة في أوساط المرضى المُصابين بأمراض مُزمنة (وبالتالي سيؤثّر ذلك على إجمالي الوفيّات) في أرجاء البلدان الأكثر فقرًا جرّاء فيروس كوفيد ١٩.
العمل والإسكان هما قضايا الصحّة العامّة
كشفت النقاشاتُ الدائرةُ حول أنجع السُّبل للاستجابة إلى كوفيد ١٩ في أوروبا وأميركا اللثام عن العلاقة التي تتعزّز بالتبادل بين تدابير الصّحة العامّة الفعّالة وظروف العمل والتقلقل والفقر. فالدّعوات الموجّهة للنّاس بعزل النّفس عند المرض -أو فرض فترات طويلة من الحجر الإجباريّ- هي مستحيلة اقتصاديًّا بالنسبة إلى كثيرٍ من الناس الذين لا يستطيعون أن يحولوا عملهم ببساطة على الإنترنت أو بالنسبة إلى هؤلاء الذين يعملون في قطاعات خَدميّة الذين يعملون بعقود الصفر-ساعة أو بالنسبة إلى أصناف أخرى من العمالة المؤقّتة. وإدراكًا للعواقب الأساسيّة المترتّبة على أنماط العمل بالنسبة إلى الصحّة العامّة، فقد أعلنت كثير من الحكومات الغربيّة عن ووعود كبيرة بالتعويضات بالنسبة إلى هؤلاء الذين أصبحوا عاطلين عن العمل أو الذين أُجبروا على البقاء في المنزل إبّان الأزمة.
يبقى أن نرى مدى فعاليّة هذه المخططات وإلى أيّ حدٍ فعليًّا ستُلبّي الاحتياجات الأساسيّة للأعداد الغفيرة من البشر الذين سيخسرون وظائفهم جرّاء الأزمة. ويجب علينا، مع ذلك، أن ندركَ أنّ مُخطّطاتٍ كهذه لن تكون موجودة لمُعظم سكّان العالم؛ ففي البلدان التي تعملُ فيها أغلبيّة القوى العاملة في أعمالٍ غير رسميّة أو أعمال قائمة على الأجر اليوميّ المتقلّب -كحال الكثير في الشرق الأوسط، وأفريقيا، وأميركا اللاتينيّة، وآسيا-، فإنّه ما من سبيلٍ عمليّ بحيث يمكن للناس أن يختاروا أن يبقوا في منازلهم أو أن يعزلوا أنفسهم. يجب النّظر إلى هذا جنبًا إلى جنبٍ مع حقيقة أنّه من شبه المؤكّد ستكون هناك زيادة كبيرة للغاية في ‘‘الفقراء العاملين‘‘ كنتيجة مباشرة للأزمة. وبالفعل، قدّرت منظّمة العمل الدوليّة (ILO) في السيناريو الأسوأ للأزمة (حيث فقدان ٢٤.٧ مليون وظيفة عالميّة) بأنّ عدد الناس البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسّط الذين يكسبون أقلّ من ٣.٢٠ من الدولار الأميركيّ يوميًا في تعادل القوّة الشرائيّة سوف يزداد تقريبًا على نحو ٢٠ مليون شخص.
لنكرّر، هذه الأرقام مهمّة ليس فقط بسبب البقاء الاقتصاديّ اليوم. فبدون الآثار التخفيفيّة المُقدّمة من خلال الحجر الصحيّ والعزل، فإنّ التقدّم الفعليّ للمرض سيكون في بقيّة العالَم بلا ريب أكثر تدميرًا من المشاهد المروّعة التي شهدناها إلى الآن في الصين، وأوروبا، والولايات المُتحدّة الأميركيّة.
وفوق ذلك، غالبًا ما يعيش العُمّال الذين يعملون في أعمال غير رسميّة أو مُتقلقلة في أحياء فقيرة أو سكن مُكتظّ -وهي الظروف المثاليّة للانتشار الانفجاريّ للفيروس. فكما لاحظ أحد المحاوَرين في صحيفة الواشنطن بوست فيما يتعلّق بالبرازيل، حيث قال: ‘‘إنّ أكثر من ١.٤ مليون شخص -حوالي ربع سكّان ريو- يعيشون في أحد الأحياء العشوائيّة في المدينة. ليس في استطاعة الكثيرين تفويت يوم عمل واحد، ناهيك عن أسابيعَ. سيستمرّ النّاس في مغادرة منازلهم… العاصفة على وشك أن تضرب‘‘.
تواجه، بالمثل، السيناريوهات الكارثيّة الملايين الكثيرة من الأشخاص النازحين جرّاء الحرب والنزاع. الشّرق الأوسط، على سبيل المثال، هو موطن النزوح الإجباريّ الأكبر منذ الحرب العالميّة الثانية، حيث أعدادٌ هائلة من المهاجرين ومن المُهجَّرين جرّاء الحروب الداخليّة على إثر الحروب المستمرة في بلدان كسوريا والعراق واليمن وليبيا. يعيشُ معظم هؤلاء الناس داخل مخيّمات لجوء أو في أماكن حضريّة مُكتظّة سكانيًّا، ويفتقرون في الأغلب إلى الحقوق الأساسية في الرعاية الصحيّة المرتبطة، عادةً، بالمواطنة. إنّ التفشّي الواسع لسوء التغذية وللأمراض الأخرى (كعودة ظهور الكوليرا في اليمن) يجعل هذه الجماعات النازحة على الأخص أكثر عرضةً للفيروس نفسه.
يمكن أن نرى عالمًا مصغّرًا من هذا في قطاع غزّة، حيث أكثر من ٧٠٪ من السّكان هم لاجئون يعيشون في واحدة من أكثر المناطق اكتظاظًا في العالم. تمّ التعرّف إلى الحالتيْن الأولَييْن المُصابين بكوفيد ١٩ في يوم ٢٠ مارس/آذار بغزّة (ومع ذلك، فإنّ نقص معدّات الاختبار يعني أنّ الاختبار أُجريَ على ٩٢ شخصًا من أصل ٢ مليون نسمة). فجرّاء الحصار الإسرائيليّ منذ ثلاثة عشر عامًا والتدمير الممنهج للبنيّة التحتيّة الأساسيّة، فإنّ العيش داخل القطاع متّسم بظروف من الفقر المُدقع، والصرف الصحيّ السيّئ، والنقص المزمن للأدوية والمُعدّات الطبيّة (على سبيل المثال، هناك فقط ٦٢ جهاز تنفّس صناعيّ في غزّة، و١٥ منها فقط هو المتاح للاستخدام حاليًا). فتحت وطأة الحصار والإغلاق لمعظم العقد الماضي، أُغلقت غزّة عن العالم قبل فترة طويلة من الجائحة الحالية. قد تكون المنطقة [غزّة] هي المثال الأوضح للوضع فيما يتعلّق بكوفيد ١٩ -ممّا يُنبئ بالمسار المُستقبليّ للعدوى بين أوساط المجتمعات اللاجئين في أنحاء الشرق الأوسط وعبر أماكن أخرى.
الأزمات المُتقاطعة
والحال أنّ أزمات الصحّة العامّة الوشيكة التي تواجه البلدان الأكثر فقرًا على إثر فيروس كوفيد ١٩ سوف يتمّ تعميقها مزيدًا بكساد اقتصاديّ عالميّ مرتبط بها من شبه المؤكَّد أنّه سيتجاوز معدّل كساد أزمة ٢٠٠٨. إنّه لمن السابق لأوانه التنبّؤ بعمق الكساد، إلّا أن العديد من المؤسّسات المالية البارزة تتوقّع أن يكون هذا أسوأ كساد سيذكره الناس. وإنّ أحد الأسباب لذلك هو الإغلاق شبه المُتزامن لقطاعات التصنيع والنقل والقطاعات الخدميّة في كافّة أرجاء الولايات المتحدة الأميركيّة وأوروبا والصين -وهو حدثٌ لا مثيل تاريخيّ له منذ الحرب العالميّة الثانية. وبما أنّ خُمس سكّان العالم حاليًا واقعون تحت نير شكلٍ ما من أشكال الإغلاق، فقد انهارت خطوط التوريد والتجارة العالميّة وانخفضت سوق الأسهم -مع خسارة مُعظم البورصات الكبرى ما بين ٣٠-٤٠٪ من قيمتها في الفترة بين ١٧ فبراير إلى ١٧ مارس.
أجل، وكما شدّد إيرك توسان (Eric Touissant)، فإنّ الانهيار الاقتصاديّ الذي نقترب منه سريعًا الآن لم يكن بسبب فيروس كوفيد ١٩ -وإنّما، بالأحرى، قدّم الفيروس ‘‘الشرارة أو القدحة‘‘ لأزمة أعمق كانت في طور التشكّل على مدار سنوات. وما يرتبط بذلك ارتباطًا وثيقًا هو التدابير المُنتَهجة من قبل الحكومات والبنوك المركزيّة منذ ٢٠٠٨، وعلى رأسها سياسات التسهيل الكَمّيّ (QE) والتخفيضات المتكرّرة لتقليل الفائدة. لقد رَمَت هذه السياسات إلى دعم أسعار الأسهم من خلال الزيادة بشكلٍ هائلٍ للمعروض من النقد الرّخيص في الأسواق الماليّة. ما أدّت إليه هذه السياسات هو حدوث نموّ هائل جدًا في كلّ أشكال الدَّيْن -الشركات، الحكومة، الأسرة. ففي أميركا، مثلًا، بلغَ دين الشركات غير الماليّ للشركات الكبرى عشرة تريليون دولار أميركيّ في منتصف عام ٢٠١٩ (حوالي ٤٨٪ من إجمالي الناتج المحلّيّ)، وهو بمثابة ارتفاع كبير عن ذروته السابقة في ٢٠٠٨ (عندما بلغ ٤٤٪). لم تُستخدَم، عادةً، هذه الديون لصالح الاستثمار الإنتاجيّ، وإنّما بالأحرى لصالح النشاطات الماليّة (كأرباح التمويل، وإعادة شراء الأسهم، والدمج والاستحواذات). ومن ثمّ، فإنّ لدينا الظواهر المرصودة جيدًا لازدهار البورصات من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى ركود الاستثمار وتخفيض معدلات الفائدة.
بيد أنّ المهمّ في الأزمة القادمة هو حقيقة أنّ النمو في ديون الشّركات قد تمركزَ إلى حدّ كبير في سندات استثماريّة من الدرجة الأقلّ (أو ما يُسمّى بالسندات عالية المخاطر)، أو في سندات BBB، حيث تكون في رتبة واحدة فوق الوضع غير المرغوب فيه. بالفعل، ووفقًا لشركة بلاك روك، أكبر مديرة للأصول في العالم، شكّلت ديون الـ BBB ما نسبته ٥٠٪ من سوق السندات العالميّة في ٢٠١٩، تلك النسبة التي كانت تشكّل فقط ١٧٪ في عام ٢٠٠١. ما يعنيه هذا هو أنّ الانهيار المُتزامن للإنتاج والطّلب وأسعار الأصول الماليّة على مستوى العالم يمثّل مشكلةً ضخمة للشركات التي تحتاج إلى إعادة تمويل ديونها. فمع اقتراب النشاط الاقتصاديّ لحافّة التوقّف في قطاعات أساسيّة، تواجه الشركات التي من المقرّر أن تُرحَّل ديونها سوقًا ائتمانيّة أُغلقت بالأساس -فلا أحد مستعد للإقراض في هذه الظروف وكثير من الشركات المُثقلة بالديون (سيّما تلك الشركات المُنخرطة في قطاعات كالطيران والبيع بالتجزئة والطاقة والسياحة والسيارات والترفيهيات) قد لا تجني أيّ مكاسب في الفترة المقبلة. وعليه؛ فإنّ احتماليّة نشوء موجة من إفلاسات الشركات الكبرى، من تخلّفات عن السّداد، والتخفيضات الائتمانيّة أمرٌ واردٌ جدًا. وهذه ليست مشكلة أميركيّة فقط -فقد حذّر محلّلون ماليّون مؤخرًا من ‘‘أزمة نقديّة‘‘ ومن ‘‘موجة إفلاس‘‘ في أرجاء آسيا والمحيط الهادئ، حيث قد تضاعفت الدين الشركاتيّ إلى ٣٢ تريليون دولار على مدار العقد الماضي.
يُشكِّلُ كلّ ذلك خطرًا جارفًا للغاية على بقيّة العالَم، حيث ستقوم مجموعة من طُرق النقل بنشر الركود الاقتصاديّ في كافّة أرجاء البُلدان والشعوب الأكثر فقرًا. فكما كان الحال مع أزمة ٢٠٠٨، اشتملَ الأمرُ على هبوط مُحتمل في الصادرات، وعلى تراجعٍ حادّ في تدفّقات الاستثمار الأجنبيّ وعائدات السياحة، وانحفاض في تحويلات العاملين الماليّة. وغالبًا ما يُنسَى العامل الأخير في النقاش الدائر حول الأزمة الحالية، لكنّه جوهريّ للتذكّر بأنّ إحدى سمات العولمة النيوليبراليّة الأساسيّة تمثّلت في دمج قطاعات كبيرة من سكّان العالَم في الرأسماليّة العالميّة من خلال تدفّقات التحويلات الماليّة من أفراد الأسرة العاملين في الخارج. ففي عام ١٩٩٩، كانت هناك فقط إحدى عشرة دولة هي التي تُشكّل التحويلات الماليّة فيها ما هو أكثر من ١٠٪ من ناتج الإنتاج المحلّيّ؛ الأمر الذي، بحلول عام ٢٠١٦، ازداد ليصل إلى ثلاثين دولة. وفي عام ٢٠١٦، سجّلت أكثر من ثلاثين دولةٍ بقليل من أصل ١٧٩ دولة التي كانت بيانات تحويلاتها الماليّة مُتاحة وكانت بمثابة أكثر من ٥٪ من إجمالي الناتج المحلّيّ -وهي النسبة التي تضاعفت منذ عام ٢٠٠٠. ومن المُدهش أنّ ما يقرب من مليار نسمة -من أصل سبعة مليار عالميًّا- هم مَن يدرّون التحويلات الماليّة إمّا كمُرسلين لها أو كمستقبلين. كما إنّ إغلاق الحدود على إثر كوفيد ١٩ -مقرونًا بوقف النشاطات الاقتصاديّة في قطاعات أساسيّة يميل المهاجرون إلى ملء شواغرها- يعني أنّنا قد نواجه انخفاضًا حادًّا في التحويلات الماليّة للعمّال عالميًّا. هذه عاقبة سيكون لها آثارٌ وخيمة على البلدان في الجنوب العالميّ.
والحال أنّ هناك آليّة رئيسة أخرى يمكن من خلالها لهذه الأزمة الاقتصاديّة سريعة التقلُّب أن تضرب البُلدان في الجنوب العالميّ ألا وهي استفحال الديون المتراكمة على البلدان الأكثر فقرًا في السنوات الأخيرة. يشمل هذا البُلدان الأقلّ نموًّا في العالم بالإضافة إلى ما يُسمّى ‘الأسواق الناشئة‘ على حدّ سواء. فقد قدّر معهد التمويل الدوليّ في أواخر ٢٠١٩ أنّ ديْن الأسواق الناشئة بلغَ ٧٢ تريليون دولار، وهو الرقم الذي تضاعف منذ عام ٢٠١٠. وكثيرٌ من هذه الديون هي مقوّمة/مثمّنة بالدولار الأميركيّ؛ ممّا يُعرّض أصحابها لتقلّبات قيمة الدولار الأميركيّ. ففي الأسابيع الأخيرة، تعزّز الدولار الأميركيّ بصورة كبيرة، الأمر الذي دفعَ المستثمرون إلى الملاذ الاستثماريّ المأمون استجابةً للأزمة؛ وعلى إثر ذلك، انهارت العملات الوطنيّة الأخرى وازدادَ عبءُ الفائدة والتسديدات على الديون المقوّمة بالدولار الأميركيّ. أجل، بالفعل في عام ٢٠١٨، كانت ٤٦ دولة تنفقُ مزيدًا على خدمة الديْن العام من إنفاقها على أنظمة الرعاية الصحيّة كحصّة من إجمالي الناتج المحليّ. وندخل اليوم في وضع مُرعب، حيث إنّ كثيرًا من البلدان الأكثر فقرًا ستواجه تسديدات مُرهقة للديون بينما تحاول، في الآن نفسه، أن تديرَ أزمة رعاية صحيّة لا مثيل لها -وكلّ ذلك يحصل في سياق ركود عالميّ عميق جدًّا.
ودعونا لا ننخدع بأيّة أوهامٍ بأنّ هذه الأزمات المُتقاطعة من الممكن أن تضع حدًّا للتكيُّف الهيكليّ أو ظهور نوع من أنواع ‘‘الديمقراطيّة الاجتماعيّة العالميّة‘‘. فكما رأينا مرارًا وتكرارًا على مدار العقد الماضي، فإنّ رأس المال يستغلّ دومًا لحظات الأزمة باعتبارها فرصة لإنجاز تغيير راديكاليّ كان من المُستحيل، أو بدا من المستحيل، تنفيذه سابقًا. وقد ألمحَ، بالفعل، رئيس البنك الدّوليّ ديفيد مالباس إلى ذلك حينما أشار في اجتماع وزراء ماليّة مجموعة العشرين قبل بضعة أيّام قائلًا: ‘‘ومن الضروري أن تقوم البلدان بتنفيذ إصلاحات هيكليّة من أجل اختصار الوقت اللازم للتعافي... وبالنسبة إلى البلدان التي تعاني من المعوقات الناجمة عن الإفراط في الإجراءات والقواعد التنظيمية، وأنظمة الدعم، ونظم إصدار التراخيص، والحماية التجارية أو طول أمد التقاضي، فإننا سنعمل معها لتعزيز الأسواق، والنهوض بآفاق النمو خلال مراحل التعافي‘‘.
إنّه لأمرٌ جوهريّ أن نجلبَ تلك الأبعاد الدوليّة كافّة إلى قلْب النّقاش اليساريّ حول كوفيد ١٩، وأن نربطَ محاربة الفيروس بأسئلة من قبيل إلغاء الدّين ‘العالمثالثيّ‘، ووضع نهاية لحزم التكيّف الهيكليّ النيوليبراليّ الموضوعة من قبل البنك الدوليّ/وصندوق النقد الدوليّ، وأن نضع حدًّا للتعويضات للاستعمار، وإيقاف تجارة السلاح العالميّة، وإنهاء أنظمة العقوبات، وهلمّ جرًّا. فكلّ هذه الحملات هي، في الواقع، إشكالات متعلّقة بالرعاية الصحيّة العالميّة -فهي تؤثّر بشكل مباشر على قدرة الدّول الأكثر فقرًا للتخفيف من آثار الفيروس، والانهيار الاقتصاديّ المُرتبط به. وليس كافيًا الحديث عن التضامن والمساعدة المتبادلة ذاتيًا في أحيائنا ومجتمعاتنا وداخل حدودنا القوميّة -دون طرح وإثارة التهديد الأكبر يمثّله هذا الفيروس على بقيّة العالَم. بطبيعة الحال، فإنّ مستويات الفقر العالية والظروف المتداعية للعمل والإسكان، والافتقار إلى بنية تحتيّة صحيّة ملائمة تهدّد أيضًا قدرة السكان في أنحاء أوروبا والولايات المتّحدة على التخفيف من آثار العدوى. لكنّ الحملات الشعبيّة في الجنوب العالميّ تبني تحالفاتٍ تعالج تلك الإشكالات على نحو أُمميّ ويستحق للتأمل. فبدون توجّه عالميّ، فإنّنا نجازف بتعزيز السّبل التي غذّى بها الفيروس البلاغة السياسيّة الخطابيّة للحركات الأصلانيّة (nativist) والتي تعاني من رهاب الأجانب -وهي سياسةٌ تتسرّب بعمق نحو السّلطويّة، والهوس بإحكام الضوابط الحدوديّة، والشوفينيّة القوميّة لـ‘بلدي أولًا‘.
[ترجمة كريم محمد. نشرت المقالة على موقع verso books يمكن قراءة النص بالانكليزية هنا]