مرت ذكرى وفاة شيكسپير في 23 نيسان/أبريل، وهي المناسبة التي يحتفي فيها الإنگليز والعالم بأسره بذكرى وفاة أعظم كاتب عبقريّ إنگليزيّ، يراه البعض أعظم عبقريّ في الأدب على الإطلاق. ولكي تزيد أهميّة المناسبة، تبنّى كثيرون التقليد السحريّ الذي ساد منذ القرن التاسع عشر، الذي يضع يوم 23 نيسان تاريخًا لولادة شيكسپير ووفاته. ليس الأمر محض تمسّك بسحر أرقام في أن يموت المرء في يوم ولادته، إذ يُقصَد من هذا التقليد معنى تمام دائرة الكمال: بما أنّ شيكسپير أعظم قامة أدبيّة عرفها التاريخ (ولن نجد من يزحزحه عن العرش)، لا بدّ من كمال يحيط بشخصيّته الغامضة. من هنا كان الإصرار على تاريخ 23 نيسان مع أّنّ يوم ولادته مجهول، إذ لا نعرف إلا يوم عمادته: 26 نيسان؛ ولكن بما أنّ العادة السارية آنذاك كانت وجوب عمادة الطفل قبل أن يُتمّ ثلاثة أيام، ظهرت هذه القصة المغرية، وآمن بها كثيرون لأنّ الكمال هو المبتغى هنا. ولكن هل شيسكپير كامل حقًا؟ أو بالأحرى، ما الأسباب التي دعت ملايين الناس إلى الإيمان بهذا الكمال المفترض؟ سواء سلّمنا بهذه الدائرة الكاملة أم لا، نعلم يقينًا أنّ وليم شيكسپير توفي وهو في الثانية والخمسين. سن مبكّرة نسبيًا بالنسبة إلى زمننا، ولكنها سن متوقّعة في إنگلترا القرنين السادس عشر والسابع عشر. إذن أحد أسباب بريقه هي سنّه الصغيرة نسبيًا هذه. أنتج هذا الإنگليزيّ حصيلة مذهلة في سنواته القليلة تلك: 38 مسرحيّة، ومطوّلتين شعريّتين، و154 سونيتة (نتحدّث عن الأعمال المُعتمَدة فقط بمعزل عن الأعمال التي نُسبت إليه إذ سيتجاوز رقمها الكليّ عندئذ 50 مسرحيّة، وبضع قصائد مطوّلة، بمعزل عن السونيتات). من لديه نتاج يوازي نتاجه ذاك؟
إنْ قارنّاه بأقرب عبقريّين أدبيّين قد ينافسانه: دانتي وتولستوي، سنجد أنّ موقفه لن يصمد بقوة؛ ففي عمر الثانية والخمسين كان دانتي على وشك الانتهاء من الكوميديا، وكان تولستوي قد انتهى من عمليه العظيمين: الحرب والسّلم وآنا كارينينا. أين مصدر الإعجاز إذن؟ الكمّ له سحره بطبيعة الحال، وكمّ نتاج شيكسپير لا يُضاهى حتى بالمقارنة مع منافسيه دانتي وتولستوي، وهو نتاج عظيم في معظمه، إذ يمكن لنا بموضوعيّة أن نُفرِد 25 مسرحيّة ذات مستوى جيد جدًا على الأقل، منها 10 مسرحيّات عظيمة لا يمكن أن تغيب عن أيّة قائمة من قوائم أفضل الأعمال الأدبيّة على مر العصور. ولكنّ المقارنة الأشهر لم تكن مع هذين المنافسين: لم يكن دانتي قد نال شهرته الطاغية في زمن شيكسپير لأنّ المؤلّفين الكلاسيكيّين الرومان (ڨرجيليوس وأوڨيديوس وسِنِكا على الأخص) هيمنوا على الساحة لقرون طويلة، ولم يكن تولستوي قد ولد بطبيعة الحال. كانت المقارنة الأكبر مع كرستوفر مارلو الذي تزامنت ولادته مع ولادة شيكسپير في العام نفسه، ولكنّه مات قبل أن يبلغ التاسعة والعشرين عام 1593. الغلبة لمارلو في هذه المقارنة لأنّ نتاج شيكسپير حتى ذلك العام كان متواضعًا، ولعلّ أهم أعماله كانت مسرحيّة رتشرد الثالث الغارقة في جو مارلو على أيّة حال. حال دانتي وتولستوي ليست أفضل في تلك السن، إذ لم يكن دانتي قد أنتج إلا لا ڨيتا نووڨا (الحياة الجديدة)، بينما لم يكن تولستوي قد أنهى إلا ثلاثيّته (الطفولة، الصبا، الشباب)، وقصتين أو ثلاث قصص من سكتشات سيڨاستوپول. أعمال جيدة بلا شك، ولكنّها لا تكفي لحفر أسماء أصحابها في أكثر من سطرين أو ثلاثة في تاريخ الأدب.
نلتقط أولى سمات وليم شيكسپير: لم تتفجّر عبقريّته منذ اللحظة الأولى. العبقريّات المبكّرة نادرة في تاريخ الأدب، ولكنّ النّبوغ المبكّر لا يعني الأفضليّة بالضرورة. لن نجد كثيرين يرجّحون أفضليّة طرفة بن العبد الذي مات في عشرينه أو أقل على النّابغة الذبيانيّ الذي دخل عالم الشعر متأخرًا. ليست البدايات الفيصلَ الوحيدَ في تقييم العبقريّات، بل لعل الأهم هي السيرورة والصيرورة، بمعنى دراسة تطوّر هذا الكاتب أو ذاك، ودراسة النتائج؛ وهنا يتفوّق شيكسپير بجدارة. لم يكن لأحد أن يتنبأ بالتطور المذهل الذي بلغه خلال سنوات قليلة: من كان يتوقّع أنّ مؤلّف كوميديا نبيلان من ڨيرونا سيُبدع تاجر البندقيّة أو على هواك؛ ومن كان سيتنبأ أنّ رتشرد الثالث ليست إلا خطوة أولى باتّجاه الملك لير وأوثيلو؛ ومن كان سيحلم أصلًا بظهور مسرحيّة مذهلة عصيّة على التصنيف مثل العاصفة أو حكاية الشّتاء؟ ولعل هذه النقطة الأخيرة هي إحدى أعظم لمحات عبقريّة شيكسپير: لا تندرج أيّة مسرحيّة من مسرحيّاته ضمن تصنيف واضح. يشير باحثون عديدون إلى عدة مسرحيّات له بكونها «مسرحيّات إشكاليّة» Problem Plays، ولكنّ مسرحيّاته كلها إشكاليّة من هذه الناحية، حتّى تلك التي صُنّفت وتُصنّف ضمن التصنيفين الصارمين السائدين: تراجيديا وكوميديا. هذان تصنيفان قاصران قد يُرضيان كرستوفر مارلو أو بن جونسن، ولكنّ شيكسپير كان يخلق تصنيفات جديدة ما يلبث أن يحطّمها: كان أول من مزج التراجيديا بالكوميديا ليبتكر الجنس الجديد: «تراجيدكوميديا» الذي يسم أعمالًا عديدة له في مرحلته الوسطى وصولًا إلى أعماله الأخيرة؛ وكان أول من ابتكر «الكوميديا الرومانتيكيّة» Romantic Comedy (روم-كوم)، إذ كانت الكوميديات التي سبقته أقرب إلى الفارْس؛ ولم نعرف المسرحيّات التاريخيّة إلا مع ظهور رباعيّة شيكسپير الأولى (ثلاثيّة هنري السادس، ومسرحيّة رتشرد الثالث). صحيح أنّ مارلو كتب ثنائيّة تيمورلنك ولكنّها ليست تاريخيّة بقدر ما هي أقرب إلى التراجيديا، عدا عن مسألة قد لا تهمّ القارئ العاديّ بقدر ما تهمّ الباحثين: لا نعرف تاريخ بداية شيكسپير في المسرح.
كان الرأي السائد لدى الباحثين منذ القرن الثامن عشر بأنّ شيكسپير بدأ الكتابة عام 1590-1591، حين كان في الخامسة والعشرين. ولكن لدينا دلائل وتخمينات عديدة تنسف هذا الاحتمال، إذ لدينا تذمّر المسرحيّ روبرت گرين الشهير من «الغراب الصاعد» الذي يتفق معظم الباحثين أنّ المقصود هو شيكسپير الذي بدأ يشكّل تهديدًا للمسرحيّين المكرّسين وللمسرحيّين الجدد خريجي أكسفرد وكيمبردج على السواء. وَرَدَ هذا التذمّر في كُرّاس كُتب عام 1592، وبذا ليس من المنطقيّ أنّ كاتبًا يشكّل تهديدًا وهو لم يبدأ الكتابة إلا قبل عام أو عامين، وراجت مسرحيّاته إلى حد يهدّد عروش المكرّسين. ولدينا إشارة الكاتب الإنگليزيّ جون أوبري في كتابه حيوات موجزة الذي نُشر في أجزاء في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وترد فيه سيرة موجزة لشيكسپير يُشار فيها إلى أنّه سافر إلى لندن عام 1582 حين كان في الثامنة عشرة، عدا عن إشارة بن جونسن إلى مسرحيّتيْ تومس كِدْ التراجيديا الإسبانيّة وشيكسپير تايتس أندرونيكس بكونهما أُلّفتا بين عامي 1584-1589. تلك الأسباب وغيرها دفعت باحثين قليلين من القرن التاسع عشر إلى التشكيك بما اصطُلح على تسميته «السنوات المفقودة» (1582-1592) التي لا يرد فيها أدنى إشارة واضحة إلى شيكسپير، إذ يرى هؤلاء الباحثون أنّ تلك السنوات المفقودة ليست مفقودة بل هي السنوات التي شهدت بدايات شيكسپير في التمثيل والكتابة. ما الفارق إنْ كانت بدايته سنة 1586 مثلًا أو 1591؟ الفارق ليس بضع سنوات فقط، بل هذا يعني تغيير كرونولوجيا أعمال المسرح الإليزابيثيّ كلها، بحيث يكون شيكسپير أحد المؤثّرين الأساسيّين في انطلاقة ذلك المسرح لا مجرّد متأثّر.
بمعزل عن تلك التفاصيل التقنيّة، وحتّى لو افترضنا أنّه بدأ متأخرًا، لا تقتصر ميزة شيكسپير على كونه رائدًا وسبّاقًا، بل في كونه فتح أبوابًا جديدة للمسرح لم يكن قد عرفها قبله. تلك الميزة التي أشار إليها الناقد الإنگليزيّ العظيم سامْوِل جونسن (واقتبستُها عنوانًا للمقالة): أعمال شيكسپير مرآة للحياة؛ وهذا ما يشير إليه الشاعر الإنگليزيّ جون ملتن حين امتدح شيكسپير في قصيدة عام 1632، بكونه: «ابن الذاكرة»، حيث الذاكرة هنا تعني الإلاهة منيموسيني أم ربّات الإلهام التسع؛ وهذه الميزة نفسها هي التي دفعت آخر مقدّسي شيكسپير، الناقد الأميركيّ هارلد بلوم، إلى القول إنّ شيكسپير «ابتكر البشريّ» بمعنى أنّنا جميعًا اكتسبنا بشريّتنا لأنّنا خرجنا من أعماله، إذ كان أول من شرّح الطبيعة البشريّة بعبقريّة لا مثيل لها. إنْ كان شيشرون قد قال إنّ سقراط هو مَنْ أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، فإنّ شيكسپير هو من أنزل المسرح من السماء إلى الأرض، هو من جعل المسرح يتناول البشر فقط من دون تأثيرات غيبيّة كما كان عليه المسرح الإغريقيّ والرومانيّ. لعلّ بوسعنا إدراج يورپيديس بوصفة السّلف الوحيد لشيكسپير من هذه الناحية، إذ نتذكّر عبارة سوفوكليس التي نقلها إلينا أرسطو حيث يقول إنّه رسم الشّخوص بما يفترض أن تكون عليه، بينما رسمها يورپيديس كما هي عليه. ولكنّ زمن يورپيديس لم يكن ليسمح لعبقريّته العظيمة أن تكسر هيمنة السّماء بالمطلق. كان علينا أن ننتظر شيكسپير ليرسمنا ويكتبنا، بل ويخلقنا ويبتكرنا كما يصرّ جماعة الباردُلتريّة (تقديس شيكسپير).
لن نجد كثيرين يجرؤون على النيل من شيكسپير، ولكنْ يشترك سامول جونسن وتولستوي في مهاجمة شيكسپير من الناحية الأخلاقيّة، وإنْ كان جونسن يُقرّ بعبقريّة شيكسپير بينما ينسفها تولستوي بالمطلق. يصرّ تولستوي مخطئًا على أنّ أعمال شيكسپير «لا أخلاقيّة»، فيما يشير جونسن إلى أنّ أولى أخطاء شيكسپير هي أنّه «يكتب من دون أيّ هدف أخلاقيّ». ولكنّ هذه «السيئة» هي أهم ميزات شيكسپير الذي لا يكتب بدافع أخلاقيّ، ولا نجد لديه شخصيّات مرسومة بالأبيض والأسود: الحياة ليست هكذا، وشخوص شيكسپير ليسوا هكذا. ما من خير مطلق وشر مطلق، ولا معنى للأخلاقيّة في الفن. هنا كبا جونسن وتولستوي اللذان يميلان (بدرجات مختلفة) إلى أن يكون الكاتب مصلحًا أخلاقيًا واجتماعيًا. سنجد هذه الموضة وقد تضاعفت واستشرت في زمن الصوابيّة السياسيّة اليوم، ولكنّ الفن ليس معنيًا بالأخلاق، وإلا تحوّل إلى محض وعظ. اللافت هو أنّهما مخطئان كليًا، لأنّنا لا نعرف آراء شيكسپير السياسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة. لا يمكن لأيّ قارئٍ – أيًا تكن عبقريّته – أن يستنبط آراء شيكسپير الفعليّة. ومن هنا بالذات انطلق طوفان سوء الفهم الذي يحيط بأعماله إلى اليوم. تراه النسويات معاديًا للمرأة، ولكنّه يمنح القوة لبطلاته في الغالب لا إلى أبطاله الذكور؛ يراه الصوابيّون السياسيّون عنصريًا ولكنّنا لا نلمح إشارة عنصريّة باستثناء العداء لليهود الذي كان مستشريًا في ذلك الزمن؛ ويراه الماركسيّون معاديًا للشعب الذي يصوّره بكونه قطيعًا متخلّفًا، ولكنّ القراءة المتمعّنة تنسف هذا الاتهام.
صحيحٌ أنّه لا يقدّس الثورات ويراها محض عبث قطيعيّ، إلا أنّه لا يقدّس السُّلطة ولا الملوك. لا معنى لقراءة العناوين فقط أو لقراءة ملخّصات المسرحيّات، بل ينبغي قراءتها ببطء وتركيز. نتحدّث عن سُلطة ملكيّة كان الملك فيها خليفة الله على الأرض، ولكنّ ملوك شيكسپير وقادته العسكريّين بشر يصيبون ويخطئون، بل يخطئون أكثر بكثير مما يصيبون: قساة، جشعون، ماكرون، دمويّون. يمكن لنا أن نستثني «القديس» هنري السادس، ولكنّ شيكسپير لا يرحمه بل يتّهمه محقًا بأنّ ضعفه كان أحد أهم الأسباب التي أدّت إلى اندلاع حروب الوردتين. وكذلك لدينا سمة عظيمة لدى شيكسپير وهي خداع القارئ والمتفرّج: عناوين المسرحيّات خدّاعة. لدينا مسرحيّة الملك جون، ولكنّ البطل الفعليّ هو النّغل فالكنبردج؛ لدينا ثنائيّة هنري الرابع ولكنّ البطل الفعليّ هو جون فولستاف، أحد أعظم الشخصيّات في تاريخ الأدب؛ لدينا مسرحيّة يوليوس قيصر، ولكنّ البطل الفعليّ هو بروتس؛ لدينا تراجيديا أوثيلو ولكنّ إياگو صاحب الحضور الأكبر. انتهى حضور البطل الفرد مع نضج شيكسپير. كانت رتشرد الثالث آخر مسرحيّة يهيمن عليها بطل أوحد، نستثني هاملت فقط، ولكنّها الاستثناء المذهل الذي يؤكّد القاعدة. لير ليس بطلًا أوحد في مسرحيّته، ولا مكبث سيّد مسرحيّته، ولا حتّى پروسپيرو في العاصفة. يكتب شيكسپير الحياة كما هي عليه، وأحيانًا كما يُفترَض بها أن تكون. إنْ كان لنا أن نُسقِط تصنيفات سياسيّة على مسرحيّاته فستكون من أهم الأعمال التي شرّحت مفهوم السُّلطة ونسفت إلهيّته، وكتبت عن «نساء الحُكم» كما لم يكتب أحد. ولكنّ 400 عام لا تكفي كي يتخلّى الملوك عن إلهيّتهم. ملوك شيكسپير كلّهم حاضرون الآن. لا، بل إنّ الملوك الآن صور مشوّهة من ملوكه، ممثّلون ساذجون يتعثّرون في أداء أدوار من سبقوهم. لا يغيب عن المشهد إلا هنري السادس، ولكنّه ملك تقيّ ضعيف لا مكان له في عالم السُّلطة قبل 400 عام أو اليوم أو غدًا. هذه هي عبقريّة شيكسپير التي لا ينافسها أحد: أن تكتب غدًا وأنت تكتب أمس واليوم؛ أن نبدو كلّنا متأخرين ومقصّرين عن بلوغ قدرته المذهلة في الإبصار؛ أن يسبقنا دومًا ولا سبيل إلى أن نسبقه، أو أن ندركه أصلًا.
يقول سامول جونسن في عبارةٍ ساخرة ثاقبة: «وحده الأحمق من يكتب لشيءٍ غير المال». يسري هذا على جونسن وعلى شيكسپير (وعليّ أنا كاتب هذه المقالة)، بل إنّه يسري على شيكسپير أكثر من أيّ كاتب آخر، إذ كان يكتب وهدفه الربح. لا يمكن أن نتجاهل ألمعيّته المذهلة في إدراك ما يريد الجمهور وتقديم ما يطلبه هذا الجمهور، وكان يكتب بغزارة مذهلة من دون الإخلال بشرط البراعة والإتقان. لنا أن نراه حرفيّ كتابة، ولكن لا يجدر بنا أن ننسى أنّه ممثّل قبل أن يكون كاتبًا، وأحد الشركاء الأساسيّين في تمويل فرقته المسرحيّة. نجاح المسرحيّة يعني ربحًا ماليًا كبيرًا، على الأخص حين نعلم علاقته الصارمة بكلّ ما يتعلق بالحسابات الماليّة. ولكن لا نجد في تاريخ الأدب كلّه من كان يكتب لأجل المال وبهذه البراعة: تشيخوف مثال آخر ولكنّ أعماله الفكاهيّة الأولى لا تتّصف بسويّة فنيّة عالية. لا يمرّ عام من دون مسرحيّتين تقريبًا، بل إنّ عام 1606 كان عامًا مذهلًا حتّى بالنّسبة إلى عبقريّة شيكسپير وبراعته وغزارة إنتاجه؛ شهد هذا العام كتابة ثلاث من أعظم المسرحيّات في التاريخ: لير، مكبث، أنتوني وكليوپاترا. ولكنّ المال وحده ليس الدافع الوحيد، لأنّنا نعلم أنّ شيكسپير كان مهووسًا بالتّنقيح. ما من عمل من أعماله لم يشهد تنقيحات عديدة، جذريّة أحيانًا: لدينا نصّان مختلفان من لير وأوثيلو، وثلاثة نصوص من هاملت. كيف لنا أن نُناغم بين هذين الأمرين: كمّ هائل وكيف مذهل؟ لا سبيل إلا القراءة وإعادة القراءة، وعلى الأرجح أنّنا لن نلتقط ما نريد في حياة واحدة.
لعلّ هذا السبب بالذات هو ما دفع كثيرين إلى التّشكيك بشخصيّة شيكسپير. رأى البعض أنّه اسم وهميّ لمجموعة كتّاب، أو ربّما اسم لمارلو بعد أن لاحقته المخابرات الملكيّة. ورأى البعض أنّ هذه البراعة لا يمكن أن يحقّقها ابن ريف غير متعلّم مثل وليم شيكسپير، ولذا نجد مرشّحين عديدين أبرزهم كاتب المقالات العظيم فرانسس بيكن. حياة واحدة لا تكفي لقراءة شيكسپير وفهمه، فماذا عن كتابة ما كتبه؟ هنا، أيضًا، ندرك عبقريّته. كان عمل شيكسپير الأعظم هو حياته في ذاتها: أن تكتب بطاقةٍ تفوق طاقة البشر، وبراعةٍ تفوق براعة البشر. ولكن هنا بالذات نتعلّم درسه الأبرز: هو أيضًا مرآة للحياة ومرآة للبشر، ويعلّمنا هنا أنّنا لا ندرك بشريّتنا حقّ الإدراك. لا حد للطاقة البشريّة ولا لبراعتها. كلّ ما في الأمر أنّ مرايانا مشروخة ولا تعكس الصورة الحقيقيّة. نحتاج إلى مرآة مثل مرآة شيكسپير لنفهمه، ونفهم أنفسنا، لندركه وندرك بشريّتنا. يقول هارلد بلوم إنّ شيكسپير يعلّمنا كيف نتحدّث إلى أنفسنا. لماذا نقرأ شيكسپير؟ كي نقرأ أنفسنا كما لم نجرؤ على قراءتها من قبل، لأنّ أصدق أفكارنا وأكثرها رعبًا هي التي ننطقها لأنفسنا فقط. ما شعورك حين تجد من كتبك وهو لا يعرفك؟ شيكسپير يحقّق لنا هذا الشعور لأنّه قرأنا قبل أن نقرأ أنفسنا.