لُقّب الشاعر الأميركي فيليب ليفين (1928-2015) بشاعر الطبقة العاملة، واستوحى قصائده من آلام العمال وحياتهم البائسة والعنف الذي أحاط بهم في ديترويت حيث نشأ وعمل، لكن شعر فيليب ليفين يحلق إلى أعلى من ذلك، فهو أيضاً شاعر العالم المرئي، وشاعر الطبيعة والغوص في بواطن الأشياء، ولأنه كان مهتماً بالمرئي أكثر من اهتمامه بأفكاره عنه، اكتسب موقعاً فريداً في الشعر المعاصر بحسب رأي بعض النقاد، ولقد اعتبر شعره رؤيوياً ومعبراً عن أزمنتنا المضطربة.
ألف فيليب ليفين ست عشرة مجموعة شعرية وكتابيْ مقالات. وحصل على جوائز شعرية رفيعة بينها جائزة الكتاب الوطني على ديوانه ”رماد“، في 1991 وحصل مرة ثانية على الجائزة نفسها عن ديوان ”ما هو العمل“، ثم حصل على جائزة بوليتزر سنة 1995 على ديوانه ”الحقيقة البسيطة". عمل أستاذاً جامعياً وعاش متنقلاً بين بروكلين في نيويورك وفرينزو في كاليفورنيا، قبل وفاته في 2015، والقصائد التالية هي من ديوانه ”نَفَس“ الصادر في 2004.
1- إنجيل
أعشابُ جديدة تنمو على التلال،
أبقار تتلكأ في برودة الصباح،
دزينةٌ أو أكثر من الأبقار البنية المكتهلة مخفيّة
في ظلال أشجار الحور إلى جانب مجرى النهر.
أصعدُ عالياً إلى حيث يختفي الطريق ولا يبين
إلا ممرٌّ باهتٌ تتناثر عليه نباتاتُ الترمس البرية
بين أشجار البلوط الجبلية.
لا أسألُ نفسي عمَّ أبحث.
فأنا لم آت هنا من أجل الأجوبة، بل كي أتمشّى
على الأرض، التي ما تزال باردة وصامتة،
ما تزال متمنّعة، كما أسرّيتُ لنفسي،
رغم أنها حيّتْني بأشواك العام الماضي الميتة
والأشواك الحادة لهذا العام، وأوائل
البصلات البرية التي تبرعمت باكراً، وبالبقايا الملتفة
لبيوت العناكب. ما الذي أحْضرتهُ
إلى الرقصة؟ في جيبي الخلفي
رسالةٌ مجعّدة من امرأة
لم ألتق بها أبداً، تحمل أخباراً سيئة
لا أقدر أن أفعل أي شيء حيالها. ولهذا أتجول
في الغابات نصف محتجب بينما
ريحٌ غربيةٌ تهبُّ في أعالي الأشجار
المتجمعة في المرتفعات.
كانت أشجار الصنوبر
تُصْدر موسيقى لا شبيه لها،
ترتفع وتنخفض كمثل أمواجٍ بعيدة في الليل
تهدىء الظلمة قبل النور الأول.
كان ”حفيفاً“، كما ندعوه في الإنجليزية
القديمة، لا أكثر. لا وزن للكلمات
حين لا ينفع أي شيء.
2- مديح
تموز. كاليفورنيا الوسطى. يتواصل ارتفاعُ درجة الحرارةُ
فلا أستطيع تحمل نهار آخر، لكنني بالطبع أفعل.
الغبار يعلو وينخفض على الممرات الجافة،
يصفرّ الجوّ بكثافة للحظة ثم
تدفع الريح أعمدة الظلام الغبارية بعيداً وترفعُ
الأغصان السفلية لشجرة جار الماء. حين أُغْمضُ
عينيَّ أستطيع سماع موسيقى، ربما هي ألحان
تذكّرْتُها من فصول صيف مضت في ديترويت.
أبدأ بالغناء، ويرتفع صوتي المبحوح
فوق الرؤوس المنحنية للبصلات والرؤوس المرتفعة
لأزهار عباد الشمس الكبيرة
التي أرسل لي بذورها الخريف الماضي
من أمستردام، صديق وافتْه المنية.
أرى طائراً، أظنّ أنه طائر نمنمة،
يندفع سريعاً برشاقة وعذوبة
إلى شجرة خوخ ويدير ظهره لي. حين نتجمد كلانا في أرضنا
تعود الموسيقى بعذوبة فلا أسمع في البداية إلا
المحادثات المهموسة لحزم الورق البليدة الجافة
شهيق نباتات القرع
وزفيرها، ثم تنطلق المواضيع القديمة
من جديد إلى أن تصبح الحديقة كثيفة بأغنية.
”ليجان كوينت“، أدندنُ اسم صديقي الميت
الذي تمسَّكَ بحياته إلى أن عجز عن ذلك.
تنخفض الرؤوس الكبيرة لأزهار عباد الشمس وترتفع
في الريح التي تصنعها. يتحدى الطائر
ضوء الظهيرة ويتنقل من زهرة
إلى أخرى، وأرى الآن
الصدر الصغير الناتئ ملطخاً باللون الوردي.
حسّون، أعتقد أنه حسّون من أجل ”ليجان كوينت“،
أنتجت بذوره المزيد من البذور مع مرور الأيام
إلى أن بدأ الهواء الشديد يئن من مديحه.
3- عواصف
بعد عاصفة موته،
بعد توقّف الاتصالات الهاتفية والرسائل
بعد انهمار الدموع المفاجئ، والنوبات التي أصابتني
دون تحذير وتركتني شاعراً بالعار،
بعد أن مرت كل هذه الأمور، دخلَ أحلامي
في صباح حزيراني، شاباً ونحيلاً
ومرة ثانية في سترة جلدية وبنطلون جينز.
نعم، كان ميتاً بالطبع. وعبّر عن ذلك ملوحاً بيده ومبتسماً.
لم يكن شيئاً يستدعي القلق، كانت حياةً فحسب،
قال، ضاحكاً من النكتة.
قلقاً، خطا في الغرفة، رافعاً ذراعيه
في إيماءة قرف أو استسلام،
وهز رأسه إلى الأمام والخلف.
كنا في مكان لا أعرفه، في شقة في
طابق ثان في بروكلن أو ديترويت.
كان صف من أشجار الحور الذي يجلده المطر يُعْول
وقد أحْنتْهُ الريح، خارج النوافذ الخلفية المرتفعة
والتي ارتمى ببطء أمامها كراقص
على الأرضية الخشبية العارية، ورأسه إلى الأسفل.
كنتُ طوال حياتي أنتظرهم، أولئك الذين كنتُ بحاجة
كي يأتوا، والآن استطعت أن أشعر به ينزلق بعيداً.
استطعتُ سماع النهار يُشْرق على حياتينا
تماماً حين وضع يده في يدي ونظر إلى الأعلى،
عيناه الداكنتان مفتوحتان على وسعهما، وتشيان بالقبول.
نعم، هبّتْ العاصفة،
وحين نهضتُ كي أفتح المصاريع
كان الشارع أسود من المطر، والسماء
فوق الأشجار في زرقة تامة،
والمدينة هاجعة. بحثتُ طيلة النهار
في واجهات الحوانيت وصناديق السجلات والمكتبات،
وحتى في الفرن اليوناني عن تلميح
بما لا أستطيع قوله. وفي أواخر الأصيل
استسلمتُ وعبرت الجسر الكبير
نحو المنزل، كانت السيارات تهدر تحتي.
وإلى الأمام كانت المدينة تنتشر، والأشجار
كثيفة في حارتي، وتحتها أرصفة الموانئ والمستودعات
صلبة وشاردة. وفي الأعالي،
السماء نفسها زرقاء، وخالية من التعابير
كما دوماً، ليس فيها أدنى إشارة إلى
قوس قزح إيمانه المقوّس.
4-الريح الغربية
حين تهبُّ ريح الشتاء
عبر أشجار الدردار
في فنائي
أسمعُ
الأعوام المنصرمة تنادي
بالأصوات الشاحبة للهواء،
والكلمات العالقة في الأغصان
تردّد صدى لحظةٍ قبل
أن تتلاشى.
تهدأ الريح، تعود الأشجار
إلى مجرد كونها أشجاراً وليس
سبعة رسل من عالم آخر،
إذا كانت هكذا.
شجرةُ جار الماء، الأقدم،
تحمل بضع أوراق
من الخريف الماضي، سوداء وملتفة
كورسٌ صامتٌ
لكل أولئك الذين تركناهم خلفنا. فجأة
أشعر بريح جديدة تهبّ على ظهري،
باردة، لا تلين،
بكل قوة الخسارة، ولا يمكن
أن يخطئ المرء في فهم هذا المعنى.
5-كيتس في كاليفورنيا
أزهرت أزهار الوستارية وذبلت،
توهجتْ أشجار البرقوق كشموع في كوب الأرض،
سفحتْ شجرة اللوز براعمها النقية
كحلقة رقيقة حول الجذع. أزهارُ السوسن،
الخزامى، خواصر التلال المنقطة بأزهار شقائق النعمان،
نباتات الترمس البرية، نباتات الرتم، ونباتات الخردل البرية، كاليفورنيا
تتوهج في الرياح الحمقاء لنيسان. كنتُ أقرأ قصائد كيتس
ورسائله وحياته للمرة الأولى خلال 70 سنة،
وأشاهد التلفاز بعد العشاء
كما لو أن بوسعه أن يحضر لي إشارة أمل ما غامضة
وبعيدة. نهضتُ متأخراً في ذلك الصباح على الضوء الخفيف
الصادر عن شجرة اليوكالبتوس والرائحة المتغطرسة لأزهار
أشجار البرتقال. ستثمر الأشجار سنةً أخرى. ستثمر.
ستتبخر الغيوم القليلة الصغيرة قبل الظهيرة،
وسيأتينا ضوء الشمس
ساطعاً عبر سماوات زرقاء رمادية باهتة، وستتجمع النحلات
كي تلطخ الزجاج الأمامي لسيارتي بنقاط عسلها.
وإذا ما سقْتُ إلى سفوح التلال بوسعي أن أرى حقولَ الأزهار البرية
متوهجة إلى أن أضطر للنظر بعيداً عن حياة كثيرة كهذه.
أستطيع أن أسأل نفسي: هل أغنيتُ روحيَ اليوم، هل رضعتُ
من حلْمة القلب الذي غمرتْهُ تجربة عالم كعالمنا؟
هل صرتُ إنساناً مرة أخرى؟ في العشرين يكون لهذا
معنى. وضعت كتاب "القصائد المجموعة“،
وغادرتُ الغرفة الاحتياطية في مكتبة وين
كي أتجول في شوارع ديترويت تحت
سماء رمادية مغبرة. كان الجو ربيعياً هناك أيضاً، ورنّت
الأجراس في الظهيرة. وانتظر مرضى العيادات الخارجية
من هاربر الترام بحياء تحت المعبر الحجري الكبير
للكنيسة المشيخية في جادة وودوارد، وجوههم المتعبة توهجت
رعباً. مال البرجُ الأسود في الريح
كما لو أنه كان ينهار هو الآخر. كان لهذا معنى.
قبل حلول الظلام سأشعر بالتعب ينتشر
أولاً في ذراعيَّ وساقيَّ ويتغلغل كالماء نحو
الأعضاء العميقة. سأستلقي في سريري
وأسمع طيور السمان تصيح
وهي تحلق من سطح إلى آخر في بحث لا يكلُّ
عن الغذاء.
يمكن لهذا المكان أن يحطم لك قلبك.
6- اليوم وبعد ألفي سنة من اليوم
انتهى العمل. نقف تحت الأشجار
منتظرين أن يقولوا لنا ماذا نفعل،
لكن العمل انتهى.
تنسكب الظلمة بين الأغصان في الأعلى،
لكن القمر لم يبدأ نزهته بعد
في سماء الليل المليئة بالنجوم.
فجأة يتوهج عود ثقاب، وأرى
أن هناك أنت وأنا فقط
وكنا وحيدين في الغرفة الكبيرة
لعالم الليل، عاملين
لا شيء كي يفعلاه،
وهكذا أنحني فوق اللهب الصغير وأشعلُ
سيجارتي اللكي
وأشكرك، أيها الرفيق،
ونعود إلى الظلام من جديد.
دعْني أتنبأ الآن بالمستقبل. بعد ألفيْ عام من الآن
سنكون أكبر سناً وأكثر حكمة
بعد أن هربنا
من التجسدات العابرة للرجال العاملين.
سننبعثُ من أرض
جنوب ميشيغان
عبر الجذور المتشابكة لأشجار الدردار الصينية
أو شجيرات الورد العريقة كي نمتصَّ الهواء الملوث
في أوراقنا ونعيده ثانية مطهّراً
عبر المسار نفسه الذي سلكناه
كي ننجو من الظلام.
مرّ ألفا عام في ومضةٍ
كي لا نسفحَ ضوءاً أكثر مما منحه عودُ ثقاب خشبي
تحت الأشجار
حين كنت أنا وأنت ولدين ضائعين، أكثر خوفاً من الآن،
دافئين وبلا فائدة
ولنا اسمان ووجهان مختلفان.
7- إطلالة على الوطن
على شاطئ أونتاريو يشاهد المرء
مداخن مصانع الجعة التي يتصاعد منها الدخان
وقوارب نقل المعادن راسية ويصدر منها البخار،
مصنع المواقد الشيطاني
حيث فقد عم والدي إيمانه
بعمل القنانة، وباع حقه بالولادة،
وبوطه المقاوم للماء وقفازيه
الجلديين المتشققين وساعته الذهبية.
”وداعاً، وداعاً“ أنشدَ من نافذة القطار، ووجهه متوهج
من متعة المغامرة.
عاد كي يموت من أجل القيصر الجيد نيقولاس.
يقول التاو: إنّ مياه الحياة نقية،
لكن نهرنا ملوث بعجلات شاحنات منفجرة،
وجثث ناشطين غير نقابيين، وأسماك شبوط ميتة
تعوم وطرفها الفضي إلى الأعلى، ويسحبها
مدٌّ من النقود، وأياً كان ما تغذّيه يتحول
إلى مجرد براز.
[اختارها وترجمها عن الإنجليزية: أسامة إسبر]