تونس. إدارة أمنية لجائحة كورونا على حساب الحق في الصحة

[المنيهلة (ولاية أريانة - تونس الكبرى). تجمع لسكان يرفعون بطاقات هوياتهم أمام مبنى المعتمدية للاحتجاج على الحجر الصحي والمطالبة بالإعانة المالية التي وعدت بها الحكومة. فتحي بلعيد / وكالة الأنباء الفرنسية.] [المنيهلة (ولاية أريانة - تونس الكبرى). تجمع لسكان يرفعون بطاقات هوياتهم أمام مبنى المعتمدية للاحتجاج على الحجر الصحي والمطالبة بالإعانة المالية التي وعدت بها الحكومة. فتحي بلعيد / وكالة الأنباء الفرنسية.]

تونس. إدارة أمنية لجائحة كورونا على حساب الحق في الصحة

By : Arabic Editors

ألفة لملوم

تستعد تونس للخروج من الحجر الصحي ببنية تحتية اجتماعية هشة. صحيح أن الحكومة نجحت في تطويق الوباء وتداعياته بفضل التدابير الطارئة التي اتخذتها. لكن البنية التحتية للصحة العمومية عانت من الخيارات السياسية زمن بن علي، خاصة في المناطق الداخلية والأحياء الشعبية. وقد يولد انعدام التكافؤ المناطقي والاجتماعي ظهور حراك اجتماعي جديد.

إدراكا منها بضيق هامش حركتها، راهنت الحكومة التونسية بعد ظهور الحالات الأولى من وباء كورونا على مقاربتين في مواجهته. الأولى استباقية، الهدف منها احتواء تداعياته الصحية والاجتماعية. فأقرت جملة تدابير وقائية بوتيرة تصاعدية وصلت سريعا إلى مستوى المرحلة الثالثة ولم يكن انتشار الوباء قد بلغ بعد مرحلته الثانية في البلاد (الحجر الصحي الشامل والحصة الواحدة في الوظيفة العمومية وحظر التجول من الساعة السادسة مساء الى الساعة السادسة صباحا وإغلاق المدراس ومنع التجمعات...). وقد تزامنت مع الإعلان عن حزمة من التدابير لفائدة محدودي الدخل وذوي الاحتياجات الخاصة والعمال المحالين على البطالة الفنية في المؤسسات الخاصة وفتح اكتتاب وطني لمعاضدة الدولة.

والثانية تواصلية عبر اعتماد خطاب الصراحة في التوجه للرأي العام والإعلام الشفاف عن توسع الوباء والاعتراف بصعوبات المرحلة والاستعارة بالحرب لشحذ عصب الوحدة الوطنية حول أداء الحكومة.

لكن اليوم وبعد مرور قرابة شهرين على بداية الأزمة، تظهر حدود المقاربتين. صحيح أن الحكومة نجحت في تطويق انتشار الوباء والحد من عدد الوفيات (949 حالة مؤكدة، 38 وفاة). لكنها تبدو عاجزة أكثر فأكثر عن فرض الحجر الإجباري الشامل لتطويق الوباء خصوصا في الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية حيث تفاقمت العطوبة والعطالة وتكشّفت أكثر الإخلالات البنيوية في حوكمتها الصحية والاجتماعية من قبل السلط مركزيا ومحليا.

لاتكافؤ مناطقي في الحق في الصحة

يحيل قصور مقاربتي الحكومة في إدارة الأزمة في المقام الأول إلى اللاتكافؤ المجالي والاجتماعي في الحق في الحياة الذي يكرسه وهن المنظومة الصحية العمومية وانحدار جودة خدمات المرافق الاستشفائية فيها .بشكل أصبح فيه الولوج إلى العلاج في حالات كثيرة امتيازا طبقيا ومناطقيا لم تبطله الثورة (في سنة 2016 لم يكن هناك بولاية تطاوين -أكبر المحافظات مساحة في تونس والواقعة في جنوب البلاد على الحدود مع ليبيا- غير 3 أطباء توليد واليوم لا وجود لطب الإنعاش في مستشفى ولايتي تطاوين والقصرين)، وضعف الخدمات التشخيصية وعدم توفر الأدوية، وانحدار طاقة الإيواء السريرية وطول آجال الانتظار للتداوي وصعوبة الوصول إلى المستشفى بفعل اهتراء او انعدام خدمات النقل العمومي، وتراجع اعتمادات الصحة الإنجابية.

ولعل أبرز مثال على ذلك هو ولاية تطاوين والتي تناهز نسب البطالة الشبابية في بعض معتمديتاها الـ 50%. برغم إنتاج هذه الولاية لما يعادل 30% من احتياجات البلاد من الطاقة من بترول وغاز، إلا أنها من أكثر المناطق تهميشا من حيث الخدمات الصحية العمومية.واليوم والحال ان تطاوين تشهد بداية انتشار الوباء، لا يتوفر لسكانها الذي يبلغ عددهم أكثر من 150000 نسمة غير خمسة أسرة للإنعاش وسيارتي إسعاف مجهزتين لنقل المرضى للمستشفيات الواقعة في المدن الساحلية. كما لا وجود فيها لمخبر لفحص العينات المخبرية للمشتبه بإصابتهم. وبشكل عام تنعدم اليوم هذه المخابر في كامل محافظات الشمال الغربي والجنوب، أي بما فيها تلك التي ارتفعت فيها حالات العدوى (مثل محافظتي قبلي ومدنين)، كما لا يوجد فيها إلا عدد محدود جدا من أسرّة الإنعاش على اعتبار أن أغلبها لم يكن مجهزا إلى حدود شهر مارس/آذار بأي سرير مثل حالتي القصرين وسيدي بوزيد -مهدي الثورة- ناهيك عن النسب المرتفعة للشباب الذين لا يتمتعون فيها بحق التغطية الاجتماعية (ما يقارب 60% في تطاوين والقصرين وبعض الأحياء الشعبية في تونس الكبرى).

جهاز أنهكته سياسات الخوصصة

هكذا وضع هو نتاج للتفكيك الممنهج للمرفق العمومي للصحة طيلة الثلاث العقود الأخيرة. إذ ومنذ منتصف الثمانينات ومع دخول تونس في تطبيق سياسات الإصلاح الهيكلي، بدأ نسق رفع الدولة لدعمها لهذا القطاع في الارتفاع وترافق ذلك مع تبني جملة من التشريعات قدمت تسهيلات وامتيازات للمستثمرين الخواص. هكذا منحت الاستقلالية الإدارية للمستشفيات الجامعية ورافق ذلك إلغاء الدعم المالي العمومي المقدم لها باستثناء تحمل الدولة لنفقات أجور الإطار الطبي وشبه الطبي. ثم تخلت الدولة عن دعمها للمستشفيات الجهوية الموجودة في المحافظات فيما يخص ميزانية التصرف مما أثر سلبا على قدرتها على اقتناء الأدوية.

وفي سنة 2007، بدأ العمل بقانون جديد لنظام التأمين على المرض أصبحت بمقتضاه المؤسسة العمومية -الصندوق الوطني للتامين على المرض- متكفلة بتغطية الخدمات المسداة من قبل القطاعين الخاص والعام على السواء دون أن تتم إعادة تأهيل هذا الأخير كما نصت عليه الاتفاقية التي أبرمت حينها بين المنظمة النقابية -الاتحاد العام التونسي للشغل- والحكومة. وهو ما شكل تمويلا عموميا غير مباشر للمستثمرين الخواص في قطاع الصحة (على سبيل المثال وحسب الاحصائيات الرسمية لسنة 2017 لا يتوفر في القطاع العمومي أكثر من 48 جهاز مسح ضوئي مقابل 131 في القطاع الخاص). وبالتوازي نما هذا الأخير بصفة عشوائية في المناطق الساحلية والمدن الكبرى وهجر المناطق الداخلية. واستثمر رأس المال البنكي وحتى الخليجي في المصحات الخاصة وصناعة الأدوية، تحركه في ذلك دوافع ربحية أججتها فرص الاستفادة من السوق الليبية والأفريقية جنوب الصحراء في غمار الحصار المضروب على ليبيا زمن القذافي وكذلك مع انغلاق أوروبا امام الأفارقة. وفي سنة 2007 كذلك، تم تبني منشور حكومي منظم للنشاط الخاص التكميلي لفائدة الاستشفائيين الجامعيين يمنح فئات منهم الحق في ممارسة الطب الخاص في المستشفيات العمومية التي يعملون بها بمعدل نصفي يوم في الأسبوع، وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام الفساد واستغلال المرفق العمومي لأغراض ربحية.

ما يجدر ملاحظته هو أن الحكومات المتعاقبة منذ الثورة لم تحدث أية قطيعة مع هذه السياسات الصحية التقشفية المنحازة للقطاع الخاص ولم تتخذ أي إجراء ذي بال لرأب التفاوت المجالي في الحق في الصحة. لا بل تراجع الانتداب العمومي في قطاع الصحة وبات غير قادر على تغطية الشغور الحاصل نتيجة التقاعد.

لا تغيير يذكر بعد سنة 2011

وعلى الرغم المطالب التي رفعها الحراك الاجتماعي منذ 2011 في جهات داخلية عديدة من أجل تحسين الخدمات الصحية، ورغم الوعود التي أطلقتها بعض الأحزاب في حملاتها الانتخابية، ظل الهاجس الأول لمختلف الحكومات تسديد خدمات الدين الخارجي على حساب تنمية الخدمات الاجتماعية (23 % بالنسبة للدين الخارجي مقابل 13 % بالنسبة للخدمات الاجتماعية سنة 2019 من الميزانية العامة). لابل إن الأرقام الرسمية تشير إلى أن ميزانية الدولة المخصصة للصحة سنة 2018 في ظل حكومة يوسف الشاهد أقل من تلك التي كانت معتمدة لهذا المرفق سنة 2006، أي زمن ابن علي (5.2% مقابل 7.4%)، كما أنها اقل من تلك المخصصة لوزارة الداخلية أو زرارة الدفاع لنفس السنة. ولم تخفف تحركات الأطباء الشبان المطالبة بتحسين ظروف عملهم في المرفق العام أو هجرة المئات منهم للعمل في أوروبا من هذه السياسة.

مع بداية انتشار الوباء وتحسبا لاحتمال الكارثة الصحية، اتخذت الحكومة تدابير استعجالية لتهيئة بعض المؤسسات الاستشفائية واستيراد بعض المستلزمات الحيوية الحمائية لمواجهة الوباء، معولة في ذلك على تفاني وتعبئة أطباء وممرضي وعملة هذا القطاع ومستفيدة من معاضدة مئات المبادرات المواطنية غير المسبوقة الفردية والجماعية التي قدمت الإعانات العينية (بما في ذلك الأسرّة وأجهزة التنفس) والمالية ونظمت الحملات التطوعية. بيد أن مجمل هذه الخطوات على أهميتها بقيت دون ما هو مطلوب أولا للظروف المتردية التي تعمل فيها الطواقم الطبية في قطاع عمومي منهوك كما أيضا في حال اتساع رقعة الجائحة خصوصا في الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية التي لازالت نسبيا في منأى من ذلك. ومع ذلك تبدو الحكومة حريصة على تفادي أي إجراءات إلزامية تضمن بها انخراطا فعليا لقطاع الصحة الخاص في هذه الظرفية. فثبوت مراوغة هذا الأخير في تحمل أوزار الأزمة الصحية كما لمح بذلك المدير العام للصحة الأساسية في الوزارة خلال إحدى الندوات الصحفية، واستغلال بعض رجال الأعمال الجائحة للمضاربة واحتكار الأدوية وتأكد شبهات فساد في صفقات تصنيع الكمامات، لم يثن الحكومة عن مواصلة استبعاد اقرار مبدأ تسخير المصحات الخاصة ومصانع مستلزمات الوقاية تحسبا لخروج الجائحة عن السيطرة.

نفس الأساليب بنفس النتيجة

قصور مقاربة الحكومة في مواجهة الأزمة تحيل في المقام الثاني إلى انتهاجها لنفس أساليب التعاطي مع الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية التي كانت سائدة قبل الثورة وتواصلت بعدها. فقد اكتفت من جهة بخيار توزيع إعانات زهيدة وظرفية على ضعاف الحال بهدف امتصاص التداعيات الاجتماعية للحجر الصحي وذلك استنادا إلى نفس التصنيفات البيروقراطية التي كانت معتمدة زمن بن علي (العائلات المعوزة والمتمتعون بالعلاج المجاني...)، مع إقصاء لعدة فئات من “اللامرئيين” العاملين في القطاع غير الرسمي والذين تناستهم سجلات الدولة باعتبار عجز المقاربة الإحصائية الرسمية على الإلمام بواقع الفقر والتفاوت المجالي والإقصاء، ومن ثمة استبعدت الالتجاء إلى أية آلية توزيعية ولو جزئية للتعويض عن التهرب الضريبي للنافذين وأصحاب الامتياز. ولم تغير تدخلات الرئيس قيس سعيد من هكذا خيار، وهو الذي اكتفى بالتذكير بمقترح كان دافع عنه في حملته الانتخابية يتعلق بإجراء صلح جزائي مع رجال أعمال متورطين في قضايا فساد مقابل تمويلهم لمشاريع تنموية في المناطق الداخلية دون أن يستتبع ذلك أي إجراء عملي وإلزامي لهم.

ومن جهة ثانية، كُلفت بتوزيع هذه الإعانات على المستوى المحلي نفس هياكل الدولة التي كانت تضطلع بهذه المهمة قبل الثورة، أي المعتمديات والعمادات -الراجعة بالنظر إلى وزارة الداخلية- والتي استعانت في مناسبات كثيرة بالحرس الوطني والجيش لضبط طوابير طويلة من الفقراء الباحثين عن مستحقاتهم في زمن الحجر الصحي. وعليه وجدت المجالس البلدية المنتخبة نفسها -برغم مسارعتها في حالات كثيرة بإحداث خلايا أزمة مفتوحة على مبادرات المواطنين ومشاركة المجتمع المدني- مهمشة في إدارة الوضع الصحي وتداعياته الاجتماعية في دوائرها وغير مؤهلة إلا لتنظيم بعض حملات التعقيم للمنشئات العامة أو توزيع تبرعات المواطنين الغذائية. ما أسفر عن نزاع بين السلط الجهوية وعديد رؤساء البلديات الذين اشتكوا من إقصائهم الممنهج من قبل الولايات وحجب المعطيات عنهم فيما يخص الوضع الصحي في دوائرهم.

سلطات محلية دون موارد حقيقية

يظهر هذا المشهد المرتبك مطبات دمقرطة السلطة المحلية بعد الثورة في الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية، التي كثيرا ما حجبتها سردية “الاستثناء التونسي الديموقراطي”. فالمقاربة اللامركزية التي أقرها دستور 2014 بوصفها إعادة ترتيب جديد لتوزيع السلطة بين المركز والمحلي قائم على التشاركية المواطنية ورافعة لتنمية أكثر عدالة، فشكلت الانتخابات البلدية سنة 2018 إحدى أهم محطاتها، أنتجت عمليا تنازعا على السلطة وازدواجية عرجاء في الوظائف. فمن جهة نجد مجالس بلدية منتخبة، ذات الأغلبية النهضوية في كثير من المناطق الداخلية والأحياء الشعبية بدون موارد مالية حقيقية، مكبلة ببيروقراطية إدارية محلية نشبت على الزبونية، منزوعة من كل صلوحيه في مجال الرعاية الاجتماعية (تعليم، صحة، نقل...) ناهيك عن أنها لا تتمتع بأية سلطة قسرية لعدم ائتمار الشرطة البلدية بها. ومن جهة أخرى، نجد معتمديات راجعة بالنظر إداريا لوزارة الداخلية التي يشهد الجميع ببقائها عصية عن الإصلاح، وقد تعزز دورها منذ 2013 في سياق مواجهة السلفية الجهادية والتعامل مع الحراك الاجتماعي في الهوامش ثم ثبت في خضم أزمة الكورونا.

أعادت إدارة الأزمة الصحية من قبل السلطة الاعتبار لآليات الحوكمة التسلطية القديمة للهوامش والتي كان قوامها السلم الاجتماعي مقابل شبكة أمان هشة تضطلع المؤسسات الأمنية بالدور الرقابي عليها خارج أية مساءلة مواطنية. وتنذر هذه الازمة بانعكاسات اجتماعية وخيمة على الطبقات الشعبية والجهات الداخلية التي ستكون حتما الضحية الأولى للركود الاقتصادي الذي يرجح صندوق النقد الدولي ان يكون أعمق ما عرفته تونس منذ استقلالها سنة 1956. وقد بدأت بعد عوارض ذلك في الظهور مع ارتفاع نسبة التضخم ونفاذ مواد غذائية أولية والمضاربة بها في السوق السوداء وارتفاع البطالة وظهور الاحتقان الاجتماعي في الهوامش الحضرية والريفية هنا وهناك.

رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ الذي تحصل على تفويض من مجلس الشعب نال بموجبه صلاحية إصدار مراسيم لغرض مجابهة الجائحة واع بمخاطر الوضع على مستقبله السياسي ومتوجس من احتمال تحول هذا الاحتقان إلى حراك اجتماعي في الهوامش يفضي إلى تضحية الأغلبية البرلمانية بحكومته على مذبح السلم الأهلي، وهو الذي لا قاعدة حزبية له. لذلك وبعد أقل من شهر من بداية الحجر الصحي الشامل، سارعت حكومته وكسابقاتها إلى اللجوء إلى إبرام اتفاقية بقرض جديد من صندوق النقد الدولي حسب آلية التمويل السريع لتغطية النفقات الاستثنائية في مجال الصحة وشبكة الأمان ودعم الشركات المتضررة. كما التزمت بموجبه حال انجلاء الأزمة، بمواصلة السياسات التقشفية وعلى رأسها مواصلة الضغط على كتلة الأجور في قطاع الوظيفة العمومية أي في مجالات الرعاية الاجتماعية بما فيها الصحة.

تفويت حكومة الفخفاخ لفرصة إعادة النظر في ديون تونس الخارجية في وقت تتعالى فيه الأصوات المنادية بإلغاء ديون البلدان الفقيرة او إعادة جدولتها، وإحداثها لمساهمة إجبارية لفائدة ميزانية الدولة باقتطاع يوم عمل حصرا من الأجراء وأصحاب الجرايات يعطي إشارة واضحة عن السياقات التي تتنزل فيها سياسات الحكومة الاجتماعية ويرسم حدود نواياها التنموية. فهل تنجح تداعيات الجائحة في إحداث ثغرات في هذه السياقات؟

وحدها الأسابيع والأشهر القادمة كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت] 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬