يشهد العالم أزمة صحية منقطعة النظير في العصر الحديث. إذ أن زمن الأوبئة التي تجتاح كل الأمصار غدا ضربا من الخيال في الأذهان. قد يعود بنا إلى بدايات القرن المنصرم. رغم ما تضمنته بعض تنبؤات المهتمين بالحد من انتشار الأوبئة في العالم خلال السنوات الأخيرة والتي يتجلى أنها لم تُأخذ محمل الجد عند جل الدول. ما يفسر تباين ردود فعل الأنظمة وتردد معظمها في التعاطي بالشكل السليم مع الكارثة الصحية المحدقة.
أثار فريق من الدول تتقدمه دول شرق جنوب آسيا الفضول في تعامله مع الوباء. حيث اتخذ من تقنيات الاتصال الحديثة وسيلة لضبط المعلومات حول تفشي الوباء وإلزام الحجر الصحي لحاملي الفيروس دون غيرهم. مع الاستعانة بنظام صحي مُكيف لمواجهة الأوبئة، استخلص دروسا من محنه في الماضي القريب، والاعتماد على سلوك الانضباط الراسخ في ثقافة الشعب. فريق آخر، جله من دول العالم الأول، أثار الفضول هو الآخر في تعاطيه مع الأزمة. استقبل أولى حالات المرض المسجلة بخطاب قلل من شأن الخطر. ثم استرسل في الدعاية على أنه على أوج الاستعداد في حالة تفشي المرض. متجاهلا الإمكانيات المتهاوية لنظامه الصحي في ظل السياسات الليبرالية التي أتت على الأخضر واليابس في القطاعات العمومية. إلى أن انتهى به الأمر بفرض حجر صحي شامل يستثني عاملي القطاعات الأساسية. تماما كما تعامل أجداده بضعة قرون خلت مع الطاعون في العصر الوسيط.
ترددت المقارنات بمُخلَّفات الأوبئة عبر التاريخ في الآونة الأخيرة وما أملته من تغيرات مصيرية للشعوب. قد تبدو سابقة لأوانها وتندرج في فن التكهنات الذي يجيده المُحدِّثون في القنوات ومواقع التواصل الاجتماعي. إلا أن بعض مجريات الأحداث توحي بأن ثمة تبِعات تنذر بتغيرات جذرية في النظام الدولي.
مراجعة مسلمات النظام الاقتصادي العالمي: لعل أبرزها التبادل الحر والتقسيم الدولي للعمل الذي يقتضي الخضوع لمبدأ الميزة النسبية الذي صاغه ريكاردو. هذه النظرية الجاري العمل بها في العلاقات الاقتصادية الدولية تحدد التخصصات الاقتصادية للدول ضمن عوامل الانتاج الأكثر وفرة لديها بالنسبة لباقي الدول. فتكون الصين، على سبيل المثال، مؤهلة أكثر من غيرها لإنتاج كل ما يستطلب الكثير من اليد العاملة. استقطبت وفرتها بأثمان زهيدة إلى فترة أخيرة جل الاستثمارات في التصنيع. بما فيها الأدوية ووسائل الوقاية لمواجهة أزمات الصحة التي تَكَشَّف للشعوب أن حكوماتها لا تتحكم في اقتنائها. يتضح من خلال الأزمة الحالية أن عقيدة التبادل الحر والتقسيم الدولي للعمل بين الأمم بلغت درجة تهدد كيان هاته الأخيرة. يفترض إذن على ضوء ما سبق أن تتحرك الدول لكسر وتيرة العولمة هاته. وذلك بإدراج أو تعزيز معايير أخرى في توجيه وتمكين الاستثمارات كالأمن القومي مثلا، البعد الجغرافي أو تعدد مصادر التصنيع.
بصفة أوسع، يتوعد الكثير من المعلقين بعودة الدولة كعنصر فاعل قوي في الاقتصاد على الأقل من أجل تدعيم الاقتصادات المتهالكة جراء شلل النشاط الاقتصادي الذي تلوح عواقبه الوخيمة في الأفق القريب (نسبة البطالة في الولايات المتحدة الأمريكية في تزايد أخذ يفوق مستويات الأزمة المالية الأخيرة عام 2008). فيما تتُوق أنفس الكثير إلى إعادة الاعتبار للدور المحوري للدولة في التحكم في الاقتصاد وتوجيه خياراته بالتدخل المباشر. ولهم في الكارثة الصحية، نتيجة الأيدولوجيات الليبرالية المتعاقبة، حجةٌ من العيار الثقيل. هذا التوجه قد ينهي العديد من مظاهر العولمة الحديثة كالتكتلات الاقتصادية، مثل الاتحاد الأوروبي، ويعيد صياغة تحالفات جديدة تكون فيها الدول العنصر الأساسي. وعلى نفس السياق، قد تخضع حركات الأموال والأشخاص لقيود جديدة تحد من شعور الانفلات العام للعولمة المتفشي لدى شعوب العالم الأول. عادة ما تنجم عن عرقلة حركة التجارة وإعادة صياغة التكتلات اضطرابات سياسية و نعرات قومية. الوضعية المالية، كمستويات المديونية الخارجية لبعض الدول، قد لا تتيح لها خيار العدول عن العولمة الحالية والخوض في صياغة تحالفات جديدة. رغم الطلب الملح من شعوبها.
لا يُظهِر الاستعداد المتباين في التعامل مع الوباء بصفة فعالة استدراك التخلف على دول العالم الأول فحسب، بل ربما التفوق والريادة لدول شرق آسيا بشكل دائم في المستقبل وعلى أنماط سياسية مخالفة لبعض مبادئ الديموقراطية الليبرالية في دول الغرب. ردة فعل هذه الأخيرة لرفع تحدي المنافسة الاقتصادية والحفاظ على نفوذها في العالم قد ينتهي بها إلى الحد من حريات الأفراد والتخلي عن بعض المبادئ اقتداء بالنموذج الآسيوي الذي لا يُختزل في التجربة الصينية.
ستكون للتحولات الآتية آثار اقتصادية عميقة أيضا على الدول المتخلفة عن الركب. الدول المصدرة للنفط تواجه ضغط أسعار جد زهيدة قد تمتد إلى ما بعد الأزمة والتي من شأنها زعزعة أنظمة مستبدة ومفتقدة للشرعية. أو احكام قبضتها على شعوبها والزج بهم في دوامة الفقر. الجزائر التي استنفدت ما يقدر بما يزيد عن ألف مليار دولار خلال عقد و نصف من الزمن تعد آخر الدولارات في خزينتها (60 مليار دولار حساب آخر التصريحات). الحكومة الحالية سطرت أهدافا صارمة للحد من تدهور مستويات العملة الصعبة بما فيها تقييد الواردات ما قد يترتب عنه ركود كبير لحركات التجار. الأولوية عندئذ لأصحاب الورشات والمصانع، إن وُجدت، لسد فراغ البضائع المستوردة. يُتوَقّع أيضا تدني معتبر لقيمة الدينار جراء تدهور الوضعية الاقتصادية للبلاد. هذا على المدى القريب. أما على المدى المتوسط، فيفترض في أحسن الأحوال أن تجد أهازيج ولافتات جماهير الحراك منذ سنة صدى لدى الفاعلين الحقيقيين للقرار من أجل حشد التأييد اللازم للقرارات المصيرية التي يُقبل عليها البلد. المشرفون على شؤون الدولة فاقدون للشرعية الشعبية والمصداقية الضرورية من أجل تعبئة واسعة النطاق داخل وخارج الوطن لمواجهة السبع العجاف.
إدراج اقتصادات مُدمنة على الاستغلال الحصري للنفط في المبادلات التجارية العالمية لا يُعدُّ مشروعا طموحا للبلد. بل هو تهديد صريح لأمنه، لم تفلح النُّخب المتوالية على الحكم في الخروج عنه. والظاهر أن غالبية الشعب ليست تشك في قدرة الذين تناوبوا على السلطة منذ زمن في ايجاد الحلول فحسب، بل حتى في نيتها في الخروج عن هذه النقمة التي قيدت المبادرات والسواعد. مما يجعلها لا تحيد عن مطلب وحيد منذ بداية الحراك: تجديد النخب وإعادة صياغة الاطار السياسي. قد لا يُجنب تحققهما ظروفا اقتصادية عصيبة تشهدها الجارة تونس. لكنه يعطي آليات سليمة للتعامل بتفويض شعبي واسع مع التغيرات العالمية السريعة.
توجهات الاقتصاد الجزائري على المدى البعيد مرهونة بالقرارات السياسية المصيرية السالفة ومدى نضج وحكمة أصحابها. قد تُسرِّع وتيرتَها الأزمة الصحية العالمية الحالية والأزمة الاقتصادية الوشيكة، كلتاهما تقتضيان الحزم في القرارات، إبعاد الرداءة والاستعانة بأفضل طاقات البلد الإنسانية في مراكز البحث العلمي التي ينبغي ترميمها أو إعادة بنائها باستقطاب خيرة الكفاءات.