يتغنى البعض بمقولة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر " الآخرون هم الجحيم " كحالة من الترف. فالآخر، بطريقة ما، هو المشوّه للذات والخاطف للوقت الذي علينا الابتعاد عنه لنكون نحن. وكأنّ التداول العام ليس رجوعاً إلى الذات والبقاء معها والمحافظة عليها بقدر ما هو حالة رفض مترفة للآخر.
في أزمة كورونا الحالية، يتحدّث الكثيرون عن الوحدة والعزلة. البعض بدأ بتصنيف ما يكتبه تحت اسم "أدب العزلة" وآخرون يعملون على إبراز كم النتاج القرائي والفني. إذ بدا واضحاً أنّ معظم من يتخذ هذا النهج يصطنع حالة ما للإشارة إلى القيمة الذاتية بمعزل عن الآخرين. وكأنّ الذات الإنتاجية برزت في هذا الوقت كدليل على قيمتها بوجود مسافة ما بينها وبين الآخرين. غير أنّ هذا الادعّاء ينقض نفسه بنفسه، حيث أنّ ممارسيه لا يجدون ذواتهم إلا بإظهارها للآخر من أجل تحصيل أكبر عدد من علامات الإعجاب والمدائح كشهادة إرضاء للذوات الواهمة، أو إظهارها لكي ترى من قبل الآخرين على أقل تقدير. وكأنّ رؤية الآخر لما يعتبر منجزاً ذاتياً علامة على اكتمال هذا المنجز.
من ناحية أخرى، أخذت الذوات مساراً مختلفاً في المشهد. فالذات الواحدة التي سوّق لها البعض برزت كذات الجماعة عند البعض الآخر. فكما تتراشق القوى السياسية المتصارعة بالاتهامات والانتقادات، ما بين نحن وهم، تتراشق الشعوب والفرق والجماعات وتتزايد النعرات وتتأجج الخطابات الأيديولوجية والطبقية والعنصرية. بالرغم من أنّ هذه الظاهرة عالمية، إلا أنّ عالمنا العربي الذي لم يخرج من مستنقع حروبه وصراعاته الدينية والسياسية وقع في مستنقع ثنائياته البغيضة بحلّة قومية ووطنية جديدة. نحن وهم، الشرق والغرب، المحلي والأجنبي، الوطني وغير الوطني، المسلم والكافر، وغيرها من الثنائيات التي تفضح دواخلنا التي نغطيها بأقنعة الأفضلية. إذ طغت داخل الفرد لغة الانتقاد الأعمى الجماعية وتوجيه أصابع الاتهام إلى الغرب، والأجنبي، وكأنّ ما أصاب الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية شكّل نصراً وهمياً في ذهنية العربي، الذي يهاجم الرأسمالية ويتشفى بفشل الأنظمة الديموقراطية في استيعاب الأزمة والسيطرة عليها، دون تحليل قرائي أو طرح آليات تفكك المشهد العالمي. هذا العربي الذي يتوّهم بأنّ أنظمته الحالية استطاعت بطريقة ما إحكام السيطرة والتقليل من الخسائر، لا يستقرئ ما يدور حوله حيث أُشبِع وعاؤه وفاض من خزّان البروبغاندا الرسمية بشكل يومي. فبدلاً من النظر إلى ما تحتاجه البلدان للرقي، أخذ التغني بالوطنيات وإنجازاتها، الوهميّة، وانتصاراتها، المفتعلة، دون وعي بالسياق الذي ما زال يكتب من قبل السلطات. فأجهزة الإعلام الرسمية اشتغلت على تجييش الأفراد وخلق حالة جماعية وهميّة للتغطية على ضعف وفساد أجهزتها والعمل على خلق انتصارات سريعة تصوّر للمتابع بأنها إنجازات وعطاءات لا تغطيات على إهمال سابق أو حقوق مستحقّة للمواطنين.
يشير أستاذ العلوم السياسية السابق في جامعة يال هارولد لاوسيل إلى أنّ " البروبغاندا معنية بإدارة الآراء وتحديد منطلقات المواقف من خلال التلاعب المباشر في المقترحات الاجتماعية بدلاً من تغيير الظروف البيئية المحيطة". حيث تقوم البروبغاندا ببناء ذهنيّة مسيّرة ترى أنّ كل ما ينتج من المؤسسات الرسمية هو عائد اجتماعي معني بالفرد لا بالمؤسسة. وكأن طبقات الشبكات التي تحول بيننا وبين الحقيقة حسب تعبير ميشيل فوكو تُبنى وتُفعّل على أنها الحقيقة التي ينطلق منها هذا الفرد. فأي عمل تقوم به السلطة من هذه الناحية، كأنما قام به الفرد. هكذا يتم تصوير أن الفعل القائم هو منجز وطني، أي منجز المواطن، وبالتالي منجز الفرد الذي تأخذه نشوة العماء الأيديولوجي.
هنا يمكننا استحضار مقولة عالم الاجتماع البريطاني بيتر ورسلي، " السمات الثقافية ليست مطلقات أو ببساطة فئات فكرية، ولكنّها تستحضر لتجهز الهويات التي تشرعن المزاعم بالنسبة إلى الحقوق. إنّها استراتيجيات أو أسلحة في المنافسات على السلع الاجتماعية النادرة" (1). والسلع الاجتماعية في وقتنا الحالي تتكوّن من السلع الأخلاقية والقيميّة، أو المفاهيميّة، أي السمات الثقافية التي يتباهى بها الفرد، أو تتباهى بها الجماعة، على الآخرين. وما التقدّم والتحضّر والثقافة المعرفية والقيم الكونيّة سوى سمات العصر الحديث، أو السلع الحديثة، التي يحاول الأفراد تملّكها، وإبراز هذا التملّك وعرضه، للشعور بملكية الذات ومضاهاة الآخرين. من هذا المنطلق خرجت الانتقادات والاتهامات من الجماعات العربية، والإسلامية، كموجات هجومية منسقة بشكل غير واع، كعملية انتشاء ذاتي لمهاجمة الغرب، المتحضّر والمتقدّم، كوصف تشفّي من قبل هذه الجماعات، وكشف فشل هذا الغرب في السيطرة على جائحة كورونا وبروز مشكلات المنظومة الصحيّة والسياسية. هذا دون فتح الأعين على الداخل المحلي وكشف الضعف والخلل في المؤسسات الصحيّة والسياسية. أو حتى النظر إلى الأجنبي في هذه الأوطان كإنسان متساوي في الحقوق. فالكثير من الأصوات اتهمت الآخر بجلب المرض إلى الداخل، بل ووصل البعض إلى تبرير ارتفاع الأرقام في بلده من خلال عرض أنّ غالبية المصابين هم من الأجانب. هذا غير طلب البعض بطرد وتسفير الأجانب إلى بلدانهم. فجائحة البروبغاندا السلطوية أغمضت الأعين ووجهتها للنظر إلى الآخر بدلاً من النظر والتمعّن في الذات.
هكذا توّجه السلطات والقوى المسيطرة الأفراد والجماعات وتجعل من الآخر هو القضية، لكي تبعدها عن القضايا الداخلية والذاتية. فحتى لغة التكهنات الاعتباطية حول تحولات القوى العالمية المسيطرة وانتقالها من قبضة الولايات المتحدة إلى قبضة الصين، ليست سوى توجيه المشهد ناحية الآخرين، وكأنّ الصراعات لا تمسنا ولا تعنينا ولا تغيّر أحوالنا، إنمّا هي مشكلة الآخر فقط. فتنجرف الأفراد والجماعات في تحليلات وهميّة عن الآخر مشبّعين بالبروبغاندا المحلية والبروبغاندا العالمية دون عدم الالتفات إلى قضاياهم وحجم المصائب التي أثّرت على حيواتهم ومستقبل أبنائهم.
تستعين جوديث بتلر في كتابها "النفس تصف ذاتها" (2) بآراء الفيلسوف الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ثيودور أدورنو في شرح كيف تعمل وتفعل الأخلاق كوسيلة لنوع من القمع والعنف حيث تقتبس منه:
" لا شيء أشدُّ انحطاطاً من الأخلاق أو الخُلُق التي تبقى حية على شكل أفكار جماعية حتى بعد أن تكفّ روح العالم عن سكنها، إن استخدمنا تعبير هيغل كنوع من لغة الاختزال. ما أن تخلو هذه الأفكار من حالة الوعي الإنساني وحالة قوى الإنتاج الاجتماعي حتى تكتسب خصائص قمعية وعنيفة."
من هذه المقولة تشرح جوديث كيفيّة انغماس الأنا الفردية بالأنا الجماعية وقمع الآخر من منطلقات أخلاقية وخُلُقية تتبناها الأنا الفردية والأنا الجماعية. وفي وقتنا الحالي، تستخدم ما نطلق عليها اسم القيم الكونية كوسيلة تفعّلها الجماعات بهدف قمع الآخر ومهاجمته ومحاربته. ومن جهة أخرى، يعمل هذا الهجوم على تزويق وتزيين الذات القامعة بأحقية فعلها لأنّها تتملّك هذه القيم وتعمل من خلالها.
من جهة أخرى، لا ينظر أحد إلى الآخر البعيد عن هذه الصراعات. ذاك الآخر المهمش، الذي يعتبر إدانة أخلاقية للجميع. لأنّ الإشارة إلى هذا الآخر من قبل السلطات، أو الأفراد أو الجماعات، تعني تحمّل مسؤولية اتخاذ موقف وعمل اللازم انطلاقاً من السمات الاجتماعية المدّعاة، أي سلع القيم الكونية المتملّكة. وكأنّ هناك اتفاقاً غير معلن على عدم طرح مسألة الفقراء والجياع والمخيمات والدول والمناطق الفقيرة كقضية كونية. لأنّ ذكر هذه المسألة وتداولها يعني استخدام الوسائل التي تم من خلالها مهاجمة الآخر الغربي وتطبيقها على الذات المحليّة. خصوصاً عندما يتم طرح المسألة انطلاقاً من القيم الإسلامية والصفات القومية المؤطّرة بكونيتها. مثلاً، لا يتداول موضوع القوارب العالقة في البحر والتي تحمل المسلمين الروهانيين الهاربين من مذابح البوذيين (3). مع العلم أنّ الصراع المصيري الذي يعيشه هؤلاء الروهانيون على هذه القوارب وبقاءهم في البحر سببه الرئيسي رفض دول إسلامية لاستقبالهم.
مع طرح القيم الكونية والأخلاقيات الاجتماعية كموضوع مفتوح، علينا النظر بنظرة كونية أيضاً. نظرة نبدأ منها بمراقبة ساعة الفقر العالمية. التي ترينا كيف يعيش أكثر 685 مليون إنسان في الفقر الساحق. وكيف أن أجزاء الثواني تتقاطع مع عدد الفقراء في هذا العالم (4).
في جون 2019، أصدرت منظمة الصحة العالمية تقريراً بأن واحداً من ثلاثة من الناس لا يستطيعون الوصول لمصدر شرب ماء نظيف (5). أي 2.2 مليار إنسان من 7.8 مليار إنسان (ما يقارب 28% من سكان الأرض) ليس لديهم إمكانية شرب مياه نظيفة. وهناك 3 مليار لا يستطيعون غسل أيديهم في المنزل لعدم توفّر المرافق المناسبة، هذا بغض النظر عن إمكانية غسل أجسادهم، وخدمات الصرف الصحي غير الصحيّة. فلنتخيّل عدد الناس الذين لا تتوفر لديهم الخدمات الصحيّة الأوليّة.
في آخر إحصائيات وتقارير برنامج الرصد المشترك ما بين منظمة الصحة العالمية واليونيسيف، هناك 900 طفل لا تتوفر لديهم خدمات الغسيل بالماء والصابون في مدارسهم، كما أن 40% من المرافق الصحيّة في العالم غير مجهزة لاتباع إجراءات النظافة الأولية (6). إضافة إلى ذلك هناك أكثر من 673 مليون إنسان ما زالوا يقضون حاجتهم بالعراء، أي ما يقارب 8.9% من سكان العالم (7).
في ظل أزمة الوباء العالمية، أي كارثة قد تحدث لهؤلاء، وأي مخيّلة يمكنها تصوّر المعاناة والجوع والرعب اليومي؟ ماذا نحتاج أكثر من الوباء لنفتح أعيننا ونمعن في دواخلنا قبل أن ننظر إلى الإنسان الآخر؟
ربما وصلنا إلى المرحلة التي علينا من خلالها إعادة قراءة مقولة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر "الآخرون هم الجحيم"، وفتح دلالاتها على مشهدٍ أوسع من مخيّلة الترف والراحة، والرؤية الشاعرية الأنانيّة. ربما الآخرون كشفٌ لجحيم ذواتنا التي نحاول تزيينها وإعطاءها مكانة خاصّة. الآخرون هم الذين يضيئون دواخلنا المعتمة، حيث ما يزال الصيّاد المتوحش يركض خلف فرائسه وينهش في جثث اصطادها صيادون آخرون. طبيعتنا الوحشية التي نتجاهلها ونخشى مواجهتها، لأنّها تفضح أسوأ ما فينا، بل تفضح ما فينا لأن الأسوأ لم يظهر بعد! ولأنّ فطرتنا الأنانية التي تشكلّت على استمرارية البقاء ما زالت قشرتها لم ترقق بالشكل اللازم. ما زالت مفاهيم القيم الكونية لا تتجاوز كونها شعارات نخبّئ وراء ستارها صفات الوحوش. فرماح الصيّاد الذي ركض في حقول وغابات أفريقيا قبل مئات الآلاف من السنوات، أخذت شكل الكلمات المنطوقة والمكتوبة. غير أن فرائس الصياد الأول كانت من أجل الطعام وصراع البقاء. بينما فرائس صيّادي اليوم عبارة عن كلّ ما يمكن رشقه بالكلمات. يقول الشاعر والأنثروبولوجي عيسى مخلوف:" بعض الذين يكتبون أو يتكلّمون، وبأي حدّة وعنف، يتركون وراءهم بقعاً من الدم.".
المصادر
1. توماس هايلاند إريكسون (2012). العرقية والقومية، ترجمة: لاهي عبد الحسين. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
2. جوديث بتلر (2014). الذات تصف نفسها، ترجمة: فلاح رحيم. التنوير للطباعة والنشر والتوزيع
4. Hannan Beech (2020). Hundreds of Rohingya Refugees Stuck at Sea With ‘Zero Hope’. The New York Times.
5. World Health Organization. 1 in 3 people globally do not have access to safe drinking water – UNICEF, WHO.
7. JKM. (2017). Open Defecation Globally.