استيقظت على هيئة إحدى لوحات بيكاسو؛ أنفي في جهة وعيني في جهة، أمعائي على اليمين، وساقاي كل في مكان. كل طرف من جسمي منسق في إطار فني جميل. لم أعثر على رأسي. اعتمدت على غريزتي لتسيير خطواتي الأولى إلى النهار. رفعني برنامج التشغيل الأكثر بدائية من العقل من سريري. سيرني نحو الحوض لأغسل وجهي، شعرت بأنه مشقق رغم أني بللته للتو.
يا لها من ليلة! فتات الأحلام لا زال عالقاً بعيني وفمي وقليل منه يحوم في رأسي. تراءت لي أصالة وهي نحيفة جداً، ترتدي بلوزة سوداء أنيقة ذات خطوط بيضاء رفيعة، تلتقط صوراً مع محمود درويش ومع سيدة أخرى، والصور في ذهني مباشرة، كأني التقطتها بعيني.
أصعد على الميزان الإلكتروني. تباً، كيف زاد وزني كيلو في ليلة؟ هل ملأت بطني باللوز والبندق في أحلامي؟ هل رأيت جدتي في الحلم والتهمت فطائر الزعتر والبصل المشربة بزيت الزيتون حتى شبعت؟
كانت تخبز في فرن كهربائي بسيط وتوزع أقراص الخبز الساخن على كراسي البيت كنجوم ساخنة. من عروشها الخشبية تنفخ بخارها المكتوم في الفضاء، فيجتذب عطرها الدافئ أطفالاً من كل طوابق البيت، منهم من يسرق من الرغيف قضمة ملتهبة، ومنهم من يخطف رغيفاً ويتقاسم الغنيمة مع إخوته.
كانت جدتي تخصني دون بقية أحفادها برغيف تكسر في وسطه بيضة، فتعيد خبزه حتى تستوي العين في وسطه. ربما لأني تغربت أكثر من بقية الأحفاد، وربما لأنها كانت تعتبر أن والدتي، التي باتت تعمل منذ نعومة أظافري، لا تطعمني بما فيه الكفاية. كنت في مخيلة جدتي تلك الدُمية الروسية الجالسة في غرفة الاستقبال: وجهي مستدير، خدي وردي اللون، عيوني عسلية وواسعة، شعري منسق في ضفيرتين كستنائيتين، وأطرافي مكتنزة. وأي اضطراب في هذه الصورة كان يُصحّح بالليفة والصابون النابلسي، والمشط، والمزيد من الأكل.
وقد يكون السبب في انفرادي برغيف البيض أن ضميرها لا يزال يؤنبها تجاهي منذ حرقت مؤخرتي على إحدى كراسي البيت أثناء إحدى حملاتها الموسعة للخبيز ونثر الأرغفة.
أعود لوعيي وأنزل عن الميزان إلى الأطفال لأطعمهم، (موسلي) بالحليب، كم اختلف الزمن! يتشاجرون على حبات الشمام، ويتسلل سامي للثلاجة ليسرق حبات الزيتون من إحدى المعلبات باهظة الثمن في ألمانيا. نشتري العلبة على أمل أن نبلغ بها نهاية الأسبوع كاملة لنتشارك كلنا على ما يقارب العشرين حبة من الأسود والأخضر. أوبخه وفي قلبي سعادة بلهاء بما أشخصه بالحنين إلى مكان لم يره، لكنه يملأ قلبه بالبخار الدافئ والطمأنينة والشجن.
هينيف في ١٤ أيار ٢٠٢٠