إشبيلية، قرطبة، ثم إشبيلية مرة ثانية حيث رجعت الأشهر الأولى من العام 1179، هذه المرة بلقب قاضي القضاة[1].
قاضي القضاة. الشرف الرفيع.
كنا ذلك الأوان في عام 1182. لم يسبق أبداً أن تحقق حدس والدي بكل ذلك القدر ولم يسبق أبداً أن تصورتُ بلوغ مثل هذا المنصب الرفيع داخل سلطان حكمٍ كنتُ أعلم علم اليقين أن بعضَ من فيه لا يكنّون لي المودّة. كنت أدين بهذه الأفضال للخليفة يوسف، وما كان يسعني سوى أن أحمدَ الله وأشكره على حمايته لي.
أصابني مرض شديد ليلة رجوعي إلى قرطبة. اصطبغت شفتاي واللَّثة بِلَوْنٍ شاحب. وبدا أن خفقان قلبي أسرع مما يجب. ارتفع نبضي وضاعف سرعته بل ثلَّثَها كلما أتيتُ أدنى حركة أو اختلاج عاطفة. كنت أرتعد من الحمى، تصحبها رعشات في الليل لا تبرحني إلا وأنا محطم العظام في الصبح. لقد صدَّ هذا المرض الغريب أشد العلاجات لأكثر من ثلاثة أشهر؛ سواء منها خلطات الكِينَا أو نُطُول القُنطريون[2]. وذات صباح فارق الداء بدني بسرعة، كما حلَّ رحل.
ومع ذلك، منذ أن ألمَّ بي ذلك المرض أصبحتُ عرضةً للعياء على الدوام. كنت ألهث. بعد خطوات معدودة ولأسباب عجزت عن شرحها، بات نفسي قصيراً. كنت مسروراً بأن سارة معي كل الوقت تسهر دوماً جنبي بلا شكوى ولا احتجاج. رغم أني تنبهتُ إلى أن ذهابنا وإيابنا بين إشبيلية وقرطبة أنهكها. حتى ولداي اللذان لم يعودا طفلين، بات ذلك يضجرهما.
لم يتزوج جهاد بعدُ وإن بلغ ثمانة وعشرين عاماً من عمره. لا شك في أنه ورث عني حاجته الشديدة للتعلم والقراءة. أما زينب، بخلاف أمها، لم يقلقني أنها ما تزال عزبَة وقد بلغت واحداً وعشرين عاماً من عمرها. ولمَ العَجَلة؟ إذ لم أشأ تزويجها بأي كان.
كانت تجري بيني وبين جهاد أحاديث لا تعدم الفائدة: كان يطرح عليّ بانتظام أسئلةً حول كتبي ونظرتي للعالم وعلم الكلام، وكان يضيء لي أحياناً بنُور شبابه. وقد عجبت على الأخص يوم كنا نتحدث عن صلات النفس والبدن فإذا به يُقيم هذا الحدَّ: "إن أنعمنا النظر، من دون النفس لن يكون الجسم سوى جسم. كأنه تمثال أو رسم. ومع ذلك، من دون الجسد لا يمكن للنفس أن توجد ما دام الجسد يمنحها الأدوات اللازمة لعملها. النفْس هي نوعاً ما فعلُ الجسد". عجَّلت بسؤاله إن كان قد قرأ كتاب النفس. وكم كانت دهشتي عظيمة حين أجابني بالنفي. بيِّنٌ أن الأقوال التي ذكرها كانت تشبه إلى حد قريب أقوال أرسطو. في ذلك اليوم اختمرت في ذهني فكرة: "ألن يكون من المحال اعتبار ذلك الفكر، ذلك العقل الكلي، قابلاً لكل عقول العالَم وأن أجزاء من العبقرية تنتشر فينا خلسة منا، عبر ومضات؟" ومن ثمة كنتُ أرجع إلى خلاصتي: لا يُعدُّ الموت نهاية للفكر. إنه نهاية للإنسان.
لست مغفلاً. أدرك أن نظرياتي تَقلِبُ معتقدات الإسلام والمسيحية. لكن أليس غرض المعتقدات جعلنا نأخذ بفكر الغير مُكرَهِين؟
يوم الثالث من شهر أبريل 1182 أيقظتني سارة من النوم بينما لم يبزغ الفجر تماماً. وصلتْ رقعةٌ من الوالي الآن. ظننتُ أن الأمر مهمّ.
استقمتُ على فراشي وعقلي مغموم من ليلة أرق؛ ليلة زيادة.
أخذت الرسالة من يدي سارة وفحصت واضع الاسم عَقِبَها، كان المرسِل: أبو بكر ابن طفيل.
مراكش، 20 مارس [3]1182.
السلام عليك يا ابن رشد،
قبل كل شيء، دعني أهنئك على تقليدك منصب قاضي القضاة. إنه منصب مستحق. إن الله لا يخلع نعمه إلا على من هو حقيق بها، وأنت جدير بعطاياه، كثيراً.
لابد أنك تعلم أني الطبيب الأول لخليفتنا يوسف منذ ستة أعوام. بيد أني في كبرة سنّي، يا صديقي. سوف أبلغ اثنين وسبعين عاماً من عمري في غضون أيام معدودة ولا يكف بدني عن تذكيري بذلك، إن أسعفتني ذاكرتي، فأنت تصغرني بستة وعشرين عاماً. إن لك إذن القدرة على إكمال ما بدأتُه. لقد طلبتُ إلى الخليفة أن يقيلني وأوصيتُ له باسمك. وقد وافق في الحال. أنت على الرحب. يبدو أن أمير المؤمنين احتفظ بذكرى مشرقة عن حديثكما الوجيز في إشبيلية. الظاهر أنكما تحدثتما عن كتابي، حي بن يقظان، وقد خلّفت شروحاتك أثراً بالغاً فيه.
لا أكاد أظن أنك سترفض عرضي.
أخبرك أني صنَّفتُ كتاباً في الطب قد أشبهه بأرجوزة ابن سينا. لقد قسمته إلى مئتين وخمسين فصلاً ويضم أكثر من سبعة آلاف بيت. حين تلحق بي إلى مراكش سوف أعرضه عليك لتبدي رأيك فيه.
إن كان في وسع هذا الأمر المنظور أن يدخل عليك الطمأنينة فاعلم أني سوف أظل بمراكش وسيكون لنا ما يكفي من الفراغ لقضاء بعض الوقت معاً. هكذا لن تشعر بالعزلة كثيراً.
أنتظر جوابك بفارغ الصبر. لا تتأخر كثيراً، فالخليفة غير معروف بِصبره.
السلام عليك يا صديقي.
صديقك الوفي أبو بكر.
طبيب الخليفة الأول؟
أهجر زوجتي وولديَّ؟ الرحيل من جديد؟ مرة أخرى يفرض عليَّ القدَر حكمه. ومع ذلك ألست أنا من كتب بأننا نحن من يتحكم في قدَرنا؟
- وعليه؟ سألتني سارة.
أمسكت بيدها ودعوتها إلى الجلوس إلى جنبي.
- عرض عليّ أبو بكر الحلول مكانه طبيباً أول للخليفة.
جعلتْها رعشة خفيفة ترتعد.
- بمراكش؟
- أجل.
- وسوف تقبل؟
- أستطيع ردَّ الطلب شرط تحمل العواقب. ستكون وخيمة. سوف يعتبر الخليفة رفضي بمثابة سبة. بل إهانة.
أقرَّتْ بعجزها.
- لا قُدرة لي.
- هل تصدقيني إن قلت لك إني لا أستحسن بتاتاً هذا الانقلاب بل إنه يفزعني؟
- يفزعك؟ ما الذي يخيفك؟
- أنا عاجز عن تحديد ما يخالجني. إني على الأرجح أهاب فكرة الذهاب للعيش في قلب السلطة. وسط أصحاب الدسائس وجُلَّاس البلاط.
وزدتُ قائلاً في عجلة:
- لكن سأرجع. كُوني على يقين من ذلك. سأرجع كلما سنحت لي الفرصة. لا أريد تخيّل أن الخليفة سيجبرني على مرافقته في جولاته.
منعتني من الإكمال. سالت دموعها نشجاً، أحاطت بذراعيها عنقي والتصق وجهها بوجهي. في تلك اللحظة تمنيتُ لو أني عشتُ جاهلاً، ولم أتقن أي علم، لو أني كنت رجلاً بسيطاً، دبَّاغاً، فخاراً، بائع بِلى أو مزارعاً. وألا أكون أبداً أبا الوليد محمد بن أحمد ابن رشد.
[مقطع من رواية تصدر قريباً عن منشورات الجمل. ترجمة شكير نصر الدين]
هوامش
[1] قاضي الجماعة. (المترجم).
[2] المشهور باسم توت الجبل أو عنبية الحقول. تثير إفراز العصارة الهضمية وقد يكون لها مفعول مضاد للالتهاب، ومسكِّن.
[3] وجب تذكير الذين قد يستغربون الوقت القصير إلى حد ما بين تاريخ الإرسال وتاريخ الوصول، أن العرب عرفوا منذ النصف الثاني من القرن الثامن أن الحمام الزاجل قد يعمل لنظام البريد. جميع المدن الكبرى في الإمبراطورية الإسلامية كانت تضج ببيوت الحمام. وعلى سبيل المثال، لم يستغرق الأمر سوى يوم واحد لنقل رسالة من القاهرة إلى دمشق أو العكس.