أجيل بصري في أنحاء الشقة المرتبة ونحو الحديقة الصغيرة التي تطل عليها غرفة الجلوس. كل شيء في مكانه؛ نظيف. لكن هناك ثقل في فضاء الحجرة وخارج الزجاج الذي يطل على الغابة. أحاول أن أتجاهل الشعور، أن أتنساه ؛ولكن عند إشاحتي بوجهي ألمح على الطاولة عبوة مطهر اليد الصغيرة تشع بلون أخضر باهت وينتابني فجأة شعور جاثم. إنه شعور الصدمة الجماعية بسبب الوباء. حزن جماعي كان قد دخل شقتي ورقد في عبوة صغيرة أستطيع إخفاءها في جيب معطفي. تساءلت عن أصل هذا الانطباع وطرق ترحاله ولماذا شعرت أنه مقرون بشعرية نادرة.
لقد قيل في الشعراء كثير الكلام، المليح منه والكثير السيء. أفلاطون أصر على نفيهم في سيناريو المدينة الفاضلة- إدراكاً منه لشدة تأثر الناس، وخاصة اليافعين، بالشعر. ثقافات كثيرة كانت قد قرنت ملكة الكتابة الشعرية بإلهام خارج-انساني من شياطين وجن أو خارج-عقلاني كالجنون. إلا أن الجميع يتفق أنه بغض النظر عن نية الشعراء أو أصل العبقرية التي تتملكهم، فإن كتاباتهم، وخاصة المتمرسون منهم، ليست اعتباطية أو عارضة. فكل شعور يتملك القراء كان قد نحته الشاعر أو الشاعرة بتأن أدبي ثمين لا نستحضره في حيواتنا إلا نادرا. وإنه لذلك لطالما استوقفني توظيف لفظ "الشيء" في الشعر. فالشعراء هم القوامون على "تشييء" العوارض والطوارئ وأيضاَ، الانطباعات. فمثلاُ، يقول الشاعر صلاح عبد الصبور في قصيدة له بعنوان "الشيء الحزين":
هناك شيء في نفوسنا حزين
قد يختفي...ولا يبين
لكنه مكنون
شيء غريب...غامض...حنون...[1]
يسترسل عبد الصبور في شرح غموض وأثر هذا الشيء الحزين الذي لا يستطيع تسميته. يخمن: "لعله التذكار" و "لعله الندم" و"لعله الأسى" ولكنه لا يجزم. فهنالك، في البحث عن هذا الشيء المراوغ المتملص شعور يكاد ينتمي إلى الحلم. فالشيء الحزين "يستيقظ في أواخر المساء" و"يمور في الأطراف والأعضاء" حيث أنفاسه "توقظ الشهوة والأحلام والآمال والغرائب". فيكاد هذا الشيء يرمز إلى ألم في غير مكانه أو أثر لأمر لا نقدر على استيعابه. فهو غير لحظي. ومع أنه يعيش فينا، إلا أننا لا نستطيع تحديد جغرافيته ودراسته علمياً في مختبر.
وربما هنا تكمن الإشكالية الكبرى فيما يتعلق بكل ما هو انطباعي أدبياُ؛ وهو هذا الأثر المبهم الذي يستبدل الدقة الحادة في الوصف والتي تميز النصوص الشعرية. ولكن كيف نحدد ما هو "انطباعي" إن كان المصطلح نفسه يرتد ضد المعنى؟ فالباحث في الفلسفة جيسي ماتز في رسالة الدكتوراه بعنوان "المشكلة في الانطباعية" (والتي يطبقها على سلسلة من الروايات الإنجليزية) يوثق الارتباك الذي كان يحضر مع موضوع الانطباعية الأدبية لدى الكتاب ونقاد الفن. من بين هؤلاء النقاد مايكل فرايد الذي يشير ماتز إلى قوله "أنا غير مقتنع بالمحاولات العديدة لتعريف الانطباعية ]الأدبية[ إما طبقاُ للوحات الانطباعية الفرنسية أو كإثارة لانطباع معين أو أكثر من قبل إحدى الشخصيات الروائية (ومنها الراوي المستتر)"[2]. وقد أجمع البعض أن الانطباعية الأدبية، كما هي الانطباعية الفنية، مجرد انعكاس لمؤثرات بصرية مركزة زائلة أو كتجربة جمالية تعتقد بنشوء الوعي من خلال الحس"[3].
إلا أن الانطباعية الفنية، بالنسبة لماتز، كانت قد اكتسبت معنى (ولذلك، مكاناً) لنفسها في الوسط الفني بسبب رفض الأخير لها من خلال المابعدية؛ أي نشوء حركة مابعد الانطباعية والتي تعترف، حتى لو بشكل مبطن، بالانطباعية[4]. إلا أن هذا الاعتراف من خلال الرفض لم يقع في الوسط الأدبي للانطباعية. ويتأتى ذلك من الرؤية التي تكاد تكون موحدة تجاه الانطباعية الأدبية - فطبقاً لماتز، الانطباعية الأدبية هي "عملة محدودة"[5] لأن الأدب يتطلب الفكر والتفكير والحكم ولذلك فإن الأدب لا يحتمل ما هو مجرد انطباعي بصرياً.[6] فبناء على هذا الحجة، والتي يتنباها عديداً من الكتاب، نخلص إلى وجود نظرة دونية للانطباعية الأدبية. وإنه لذلك، بالنسبة لماتز، تنشأ علاقة غير سوية بين الانطباعية والفينومينولوجيا تجاه المعرفة. "فالانطباعية، طبقاً للنقاد، اتجاه فينومينولوجي، إلا أن الجانب المبهم فيها يحول دون الرؤية الفينومينولوجية"[7] .ولذلك، فإن الانطباعية، حسب ماتز لا تتعدى المكانة السطحية للأشياء من غير الخوض في أعماقها[8].
نرى تأججاً لهذه الرؤية الدونية للانطباعية، خاصة في لاعلميتها المفترضة وعدم اتباعها لقواعد الفينومينولوجيا، عند إقران هذه الحركة بالطرق "الأنثوية" أو البدائية للمعرفة[9]. فبالنسبة للعديد من الكتاب والنقاد، جسدت الانطباعية اتكاء تاما على الحدس والشعور بدلاً من الحقائق العلمية وإنها لذلك بانت هستيرية، منتمية للتفكير الأنوثي الدوني[10]. "فالنساء تترأسن الصورية والانطباعية وذلك لشملهما ]الصورية والانطباعية[ سمات أنثوية مثل الرشاقة الذهنية، والشغف نحو المفصل والمتقطع، وحب اللون والتحذلق والشعور المفرط"[11]
نجد هذه النظرة التي تحيل الانطباعية إلى مجرد حدس أنثوي سطحي لا تتأتى منه معرفة علمية مفيدة أيضاُ في ورقة لحسين إرشيد العظامات تحت عنوان "التعليل الانطباعي في الدرس الصرفي عند العيني". فالحجة الأولية التي يتبناها العظامات قبل التطبيق هي "إن اللغوي قد يلجأ أحياناً إلى بث انطباعاته الذوقية في سياق تعليله لظاهرة نحوية أو صرفية. فيكشف عن جملة مشاعره وهو يعالج مسألة اللغوية وكأن الذوق جزء من الحكم فيها. ولسنا ندعي أن الحكم في التعليل الصرفي أو النحوي قائم على ما يستشرفه اللغوي من ذوقه وانطباعاته فحسب، بل يرد ما اقترحنا تسميته بالتعليل الانطباعي بعد سوق الحجج والبراهين والشواهد، والاستئناس بالرد على ما تتيحه اللغة من تراكيب وسياقات. إذ لا يكتفى بالتعليل الانطباعي وحده، ولكنه يرد رديفاُ، وهو بذلك يمكن وصفه بالتعليل الثانوي"[12] فالباحث يشير، من خلال التطبيق الحذر والعبقري للانطباعية على النصوص الشعرية، إلى أن بدر الدين العيني كان يقرن، من خلال الانطباعية، الصرف اللغوي العربي بالدونية الأنثوية.
وبناء على ذلك يورد العظامات أن "العيني في سياق تعليله لاختيار النون لجماعة النسوة، اتكأ في تحليله على انطباعاته، فقد رأى أن النون تخرج من المخرج الثاني يقصد المخرج الأنفي...وبناء على ذلك اختيرت النون للمؤنث لأن المؤنث ثان في الخلق، كما يرى العيني، إذ خلق الله تعالى آدم ثم خلق حواء"[13]. ومن ذلك يمكن أن نخلص إلى حجتين. الأولى واضحة آسفة وهي المكانة الثانوية والدونية التي لطالما غصبت فيها النساء حول العالم والحقب والزمنية- خاصة فيما يتعلق بأونتولوجيا اللغة. إلا أن الحجة الثانية تستدعي توظيفاً للبراجماتية ، خاصة من قبل النساء الكاتبات والمفكرات والناقدات، تتخطى هذا التفكير الرديء حول مكانة المرأة وقدرتها على التفكير والممارسة اللغوية. وإنه بتحقيق ذلك تظهر قوة مستترة في هذه النصوص نفسها التي تهين هذا التفكير "البناتي"- أي الانطباعية.
فبموجب هذا التفكير نخلص إلى أنه بالرغم من المكانة الثانوية المفترضة للتفكير لدى النساء والتي نجدها في هكذا قراءة للصرف في اللغة، الا أننا بذات الوقت ندرك القوة الكامنة في الممارسة الانطباعية وهي قدرة الخلق. بالرغم من أن العيني هنا يضع النساء في خانة ثانوية، إلا أنه يستعير هنا بانطباع معين (حتى لو كان الانطباع بحد ذاته مغلوط ورجعي ونعم، لاعلمي) لخلق قاعدة صرفية مهمةـ ألا وهي نون النسوة. فالممارسة الانطباعية في هذا المجال أتاحت للخلق اللغوي الذي بنيت فوقه قواعد لغوية تشكل الأساس الآن. فنجد أنه من خلال هذه الممارسة في اللغة، شكلت الانطباعية ليس حالة زائلة أنثوية، بل فرصة خلق معرفة جديدة وإتاحة المجال للخوض فيها. ومن هنا نرى أن الممارسة الصحيحة للانطباعية تتيح لخلق المعرفة بدلا من مقاربتها بطريقة سطحية عبثية تكاد تكون طفولية. ولذلك يضيف العظامات أنه "وبصرف النظر عن صحة هذا البناء، والعلاقة بين النون كصوت من المخرج الثاني والنساء كخلق ثان، فإن التعليل الانطباعي لا ينشأ من فراغ، بل يؤسس لمرجعية ثم يفترض البناء عليها. كأن تكون مرجعية منطقية أو دينية أو غيرها"[14].
من هذه النقطة تبتدئ بالانحلال هذه النظرة للانطباعية كأثير زائل لفكرة لم يستطع الشعراء وصفها بسبب نقص ما في التمكن اللغوي المبني على التمكن الفكري. فتتحول الانطباعية من فهم ركيك لحالة زوال إلى ممارسة علمية تتمخض عن معرفات جديدة. ولذلك تُستبدل الانطباعية الفكرية بالفكرية الانطباعية- أي من مشاركة خاملة مترددة نحو وسط معين إلى خلق معرفة جديدة أو إعادة توجيه لمعرفية معينة. ومن هنا تتحول الانطباعية من مجرد أداة خدش إلى خامة النحت بحد ذاتها. تدعم هذه النقطة حجة الباحث ثائر عبد الزهرة لازم التي تقول بأن العمل الإبداعي يثير في الشخص" شعوراً عاطفي أو انفعالي آني بحيث يستوقفه ويترك في نفسه انطباعات أولية تتشكل نتيجة تلاقح رؤاه مع سياقات العمل الإبداعي ومتعالياته، فينتج عن ذلك مؤشرات نقدية تقويمية أولية يطغى عليها الانطباع كسمة أساسية بارزة في الفعل أو القصد النقدي يتم إشباعها لاحقاً بمرجعيات معرفية وثقافية"[15]
إلا أن احتمالية عملية الخلق المعرفي هذه ليست هي وحدها التي تقيمن ديالكتية الانطباعية ولكن أيضاً الطبيعة الذبذبية أو التأرجحية لهذه العملية. الذي أقصده في ذلك هو أن الانطباعية لا تمارس وتقدم من خلال الكتاب أو الفنانون فحسب، بل أنه لتمام العملية الانطباعية، يتطلب وجود جهة أخرى تستقبل وتخلق من هذا الانطباع. مثلاُ، لوحة المرأة النائحة لبابلو بيكاسو. الأسلوب الفني الذي وظف في هذه اللوحة هو الأسلوب التكعيبي. أي أن بيكاسو نفسه وأنا نعرف أن هذا الأسلوب تكعيبي ولا يستطيع أن ينفي ذلك بيكاسو أو أنا أو أي شخص أخر. هناك نتيجة واحدة للغرض المنتج، أي اللوحة، وهو الأسلوب التكعيبي. وعندما أعلن أن هذا اللوحة تكعيبية أعني أن الأسلوب التكعيبي يسقط على الفنان فحسب، ليس علي أنا، إذ أنه هو من قام بفعل التكعيب الذي يميز اللوحة. فأنا لا أشارك في "تكعيبية" العمل.
إلا أنه عند إشارتي لعمل نصي معين على أنه انطباعي فذلك يحتمل أن يشير إما إلى انطباع الكاتب في خلق النص أو انطباع القارئة (أنا) في خلق تأويل ومعنى له- أو كلانا. فنجد أنه على غير غرار الحركات الفكرية والفنية والأدبية "المثبتة" "الرصينة" مثل السريالية والتكعيبية والسردية وأخرى غيرها، فإن الانطباعية توحي باستفعال الخالق والمتلقي - عادة بطبيعة متزامنة.
ما الذي أقصده في ذلك؟ فلنلق نظرة على أقرب النصوص إلى قلبي لعنترة بن شداد:
و لقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
تكمن قوة هذه القصيدة، كمعظم قصائد عنترة، ليس فقط في عبقريتها اللغوية ولكن أيضاً لمعرفتنا للسياق الذي نتجت فيه: فارس مغوار ولد لأم كانت عبدة عند أباه الذي لم يعترف به لسواد بشرته والذي قاسى، بالرغم من فروسيته وشجاعته وحساسيته، انفطار قلبه لابنة عمة عبلة حتى يوم موته وحيداً فقيراً. فالعنصرية المتطرفة التي تعرض لها وحالات النفي في كل أشكالها تظهر في أشعاره بوضوح وتستر. إلا أن الذي يميز هذين البيتين بالأخص هو الحضور المثالي والكامل للانطباعية. فالبيت الأول يمهد للتراجيديا التي ستلحق وذلك عند استحضاره لعبلة في اللحظات نفسها التي ربما يطرأ فيها موته. ولكنه لا يناديها، بل يخاطبها مباشرة في هذه اللحظات الفاصلة. حضور عبلة أو الشبح الذي يريد أن تكون، يبزغ كالحضور الوحيد هنا. لكن الذي يُنشئ في نفسه دافعاً لتقبيل السيوف، أي أنسنة الموت نفسه، هو مجرد بارق: أثر من نور عمره أقصر من أجزاء ثانية.
قد يحاجج البعض أن هذا مجرد تشبيه، إلا أن حضور عبلة في خضم معركة ملحمية بسبب بارق قصير الحياة، ماضي، متلاشي ما هو إلا انطباع بصري اختبره عنترة ثم ترجمه لفظيا لنا؛ حيث أن حضور هذا الانطباع يهز عنفواننا ويولد تراجيديا ثمينة نادرة: أي تراجيديا أثارها انطباع لدى الشاعر والتي بدورها تثير الانطباعية الشديدة لدى القراء. أداة الانطباع هنا هي البارق الذي هو أثر الضوء كما هو الصدى أثر الصوت. "شيء" أثير ولكن مثير للانفعالات وحتى الأفعال التي كادت أن تنوم فارساً في خضم المعركة وتدفعه إلى تقبيل أداة القتل. وهنا تكمن التراجيديا الحقيقية، أي العظمة التي ولدها مجرد بارق.
نلمح هذه الانطباعية أيضاً الأبيات التي يقول فيها:
فيا ليت أن الدهر يدني أحبتي إلي كما يدني إلي مصائبي
وليت خيالاً منك يا عبل طارقاَ يرى فيض جفني بالدموع السواكب
مجدداً نلمح شبح عبلة هنا ولكن بشكل صريح، فيكون خيالها هو الأثر لوجودها، أي الانطباع الوجودي لحضورها فيترجمه عنترة لنا حتى يطبع في نفوسنا كقراء ما أثاره ذلك في نفسه. أما ما يقوي من الحضور الانطباعي لقصائد عنترة بشكل عام هو عنصر بنائي مهم في القصيدة الجاهلية المتمثل بالوقفة الطللية. فما هي الأطلال إلا آثار جامدة لحضور إنساني كان يهيم بينها؟ وما هو ذلك الشجن الذي يثيره الغياب في المكان إلا انطباع أرواح من أحببناهم فيه؟ في ورقة بحثية للباحثة في الأطلال الجاهلية، صفاء الدين القيسي، نقرأ أن "الأطلال تحمل الذكرى والماضي والحاضر"[16] حيث أن "وقوف الشاعر على الأطلال يمثل بحد ذاته وقوفه على أعتاب القصيدة"[17]. وتضيف الباحثة أنه "لنا أن نلاحظ أن الشاعر الجاهلي كثيراً ما كان يضفي على الطلل صفات الحي أي يخبره ويستخبره ويناجيه ويستلهمه ويتبرم منه حين لا يجيب عن سؤاله"[18]، وهو الأمر الذي يظهر بشكل واضح وقاطع في معلقة عنترة:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
ثم:
وتحل عبلة بالجواء وأهلنا بالحزن فالصمان فالمتلثم
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
حيث تثبت هذه الأبيات ما تقوله الباحثة في محاججتها أن "العملية برمتها تقوم على نوع من التداعي، يتفجر نتيجة مشهد او ذكر اسم عزيز أو مكان يكون لكل منهما ذكرياته العزيزة لدى الشاعر...وهي مشاعر ترتبط دائماً بالحزن والأسى... هذه التداعيات المتقاربة بين الطلل وصاحبته ونسيب الشاعر بها، وتذكره للموت في الوقت نفسه". فكما تشرح الباحثة، تمثل الوقفة الطللية "صراع الماضي الممثل لمكان موطن الأمل والسعادة والذكريات الجميلة والحاضر الممثل لمكان الألم المنغلق على نفسه"[19] وأنه لذلك، بسبب الانطباعية التي تثيرها الأطلال لدى الشاعر وتبعية لذلك، لدينا كقراء، فإن الزمن يتقادم عكسياً في استرجاع الشاعر لفترة معينة كان المكان فيها حافلاً بمن يحب. وبذلك يضخ الحياة في جماد، أثر، لمكان كان مأهول والآن خاو ومنغلق على نفسه. يدعونا ذلك مجدداً لإعادة التفكير بالقوة الكامنة للانطباعية وتداعياتها.
نجد أن الانطباعية التي وسمها الكثير، كما شرحت آنفاً، بالسطحية والبدائية ليست تفعًل فقط العنصر التراجيدي في القصيدة وتقوي من شدة الالتصاق الروحي الذي ينشأ بين الشعراء والقراء، بل أيضاَ توصف حالة ذهنية أو عاطفية جمعية حيث يثير المخفي والانطباعي ليس فقط تفاهم وجداني بما يتعلق بمسائل القلب، بل أيضاً يحفز الذاكرة والأمل المهول الذي يمكن أن تستشعره وتفعّله شعوب بأكملها. فنقرأ في قصيدة لإبراهيم نصر الله بعنوان "الشهيد":
يُغافِلنا فرِحاً يتسلل من دمنا فجأة ويغيب
آثار خطوته حجل
وصدى صوته أخضر في الوريد
تلويحة اليد سرو جسور
وجبهته قمر في البعيد[20]
فمع أن الشهيد ينبثق من الأجساد المادية لأفراد شعبه، إلا أنه يتسلل ويغيب تاركاً آثاراً لحركته وصدى لصوته، كأنه هو بحد ذاته أثر ولكن أثر ساكن داخل أجساد الآدميين والنجوم. فنصر الله هنا لم يقم بفعل التشبيه بشكل مباشر ومحدد - كأن يقول مثلا "يغافلنا الشهيد كالنسمة" أو "كالترنيمة". فحضور الشهيد الأثيري هنا في المكان المادي (الوريد)، يكثف من العاطفة الشاملة الجمعية التي تخلق من انطباعية أثر الشهيد تضافر فوق-مكاني وفوق-زماني بين شعوب الشهيد تجاه ذلك الشر الذي يحيل الرجل الحي إلى شهيد. ولذلك فإن نصر الله هنا، كما عبد الصبور، لم يصمم على تشييء هذا الحضور أو تسميته، بل ترك انطباعاته عنه تتجلى في القصيدة وتهيمن عليها فاعلة بالنص ما تفعله بصميم القراء.
نرى ما يشبه نموذج الشهيد، أي الكائن السريالي الوجود الذي يعيش بين الواقع المادي والتخيلات الجمعية لمجموعات معينة من الناس في قصيدة "العائد" لصلاح عبد الصبور التي يبتدئها بقوله:
طفلنا الأول عاد إلينا
بعد أن تاه عن البيت سنيناً[21]
ثم يقول في مواضع مختلفة في القصيدة في وصف العائد:
...وانتظرنا خطوه المخضر في كل ربيع
...وتناسيناه إلا رعدة تجتاحنا أول أيام الربيع
عندما نشعر بالشوق إلى طفل وديع
...وهو ما زال صغيراً وإلها
أما المثير للاهتمام في هذه القصيدة هو هذا الوجود الغرائبي لكائن هو بين الحياة والخيال مُنتَظَراً من قبل أناسه (إذ أنه يختفي ويظهر) ولكن يصحب توق رجوعه من قبل المنتظرين نوع من الشعور بالإخفاق، بالهزيمة. فيبدو الشهيد في القصيدة، على عكس أصحاب الوريد، فرحاً مختالاً حيث أن الأحياء هم الذين يقاسون الانتظار والتوق. يتردد هذا الانطباع في قصيدة العائد، حيث أن الكائن هو طفل وإله وإنه، مثل الشهيد، مُنتَظر من قبل الأحياء الذين يتناسوه، بعد أن كانوا قد تركوه يتوه. مجدداً هناك الإحساس المستتر بالذنب. والذي نستشعره في قول عبد الصبور في القصيدة نفسها:
بعد أن شلناك حزناً هادئاً في جفننا
وحملناك أسى في صوتنا
فيخال لمن يقارن القصيدتين أن الشاعران يتحدثان عن حضور واحد تختلف تجلياته. إلا أن ما خولنا بالتوغل في هكذا قراءة هو الحضور الانطباعي للشهيد والعائد في القصيدة. فهما ليسا محددا المعالم والتفاصيل وحتى الحضور (والحركات التي تنم عنهما هي مجرد آثار أو انطباعات مثل رعدة وتلويحة وغياب وصدى) وذلك يدعم فكرة أن كلا النموذجين ليسا آدمين تماماً، بل هما آثاراً أو انطباعات لأفكار معينة ومشاعر كبيرة مثل الذنب ولكن أيضاً الأمل والتفاني. فالشهيد يخرج من دم نصر الله نفسه كما هو العائد ينتظر من قبل عبد الصبور. فتكون الانطباعية هنا هي النقطة الدامجة للمادي والخيالي وأيضاً الحبل السري بين الشعب وشعوره الجمعي.
ولذلك، نستطيع، من غير مجازفة، أن نخلص بأن الانطباعية ليست مجرد سطح متجلط لحقيقة أو معرفة أعمق، بل هي الأثر العنيد للأفكار والمشاعر الجبارة التي ترفض الانحلال، بل تتفشى في النفس ثم في النصوص ثم في الأنفس مجدداً بحركة دورية تؤثر بقوة وتأرجحية. وحسب لازم، "قد شغلت قضية الذوق نقادنا القدماء الذين حكًموه في نقدهم، على نحو ما فعل علماء الجمال المعاصرون، ورأوا أن المقاييس والقواعد التي جهدوا في جمعها لا تكفي للحكم على الأثر الأدبي، وأن الذوق المدرب هو الفيصل حين تخفق القواعد والقوانين"[22]
قد تبدو الانطباعية، بتعاريفها وتأويلاتها اللامتناهية مستحيلاً مجردأ من المعالم ومستعصياً على الإمساك والضبط. إلا أنه بسبب هذه الخواص، أي الليونة التي تتمتع بها الانطباعية، خاصة عندما يلحق حجة انطباعية معينة أدلة قوية متناسقة، تصبح الانطباعية أداة إدراك وخلق أيضاُ حيث يطرأ تحرراً فكرياً منعشاً يتيح للكتاب والقراء معاُ الخوض في التأويلات والمعاني من غير الانصياع لهاجس التعريف التقليدي للأفكار ووصمها. فالانطباعات البصرية والعاطفية والأدبية ما هي إلا أجزاء حرة وفضائية لتجاربنا الإنسانية الزخمة والمتباينة. فما الذي دفعني أنا للتوغل في هذه الفكرة الفلسفية الأدبية والمحاولة، بقدر استطاعتي، استنباط المعاني والتجارب الذهنية المختزلة فيها؟ مجرد انطباع.
هوامش
[1] صلاح عبد الصبور، أقول لكم (المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، ١٩٦١)، ٥
[2] Jesse Matz, ““Is Life Like This?”: The Problem with Impressionism in Modernist Literature from Walter Pater to Virginia Woolf”, (PhD diss., Yale University, 1996), 14.[3] Matz, “Is Life Like This?”, 10.
[4] Matz, “Is Life Like This?”, 1.
[5] Ibid.,
[6] Ibid.,
[7] Matz, “Is Life Like This?”, 6.
[8] Matz, “Is Life Like This?”, 11.
[9] Matz, “Is Life Like This?”, 8.
[10] Matz, “Is Life Like This?”, 15.
[11] Matz, “Is Life Like This?”, 17.
[12] حسين إرشيد الأسود العظامات، "التعليل الانطباعي في الدرس الصرفي عند العيني"، سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية ٣٩ العدد ٥( ٢٠١٧)، ١٤٣
[13] العظامات، "التعليل الانطباعي في الدرس الصرفي"، ١٤٧
[14] العظامات، "التعليل الانطباعي في الدرس الصرفي"، ١٤٨
[15] ثائر عبد الزهرة لازم، "الموضوعية والانطباعية في قراءة النصوص الشعرية (أنوار الربيع في أنواع البديع لابن معصوم المدني نموذجاً)، مجلة جامعة ذي قار ١٣، العدد٢ (٢٠١٨)، ٧٢.
[16] صفاء الدين أحمد القيسي، "بنائية الأطلال ودلالتها الرمزية والايحائية"، مجلة حوليات التراث ١٧ (٢٠١٧)، ٢٧.
[17] صفاء الدين القيسي، "بنائية الأطلال"، ٢٨
[18] صفاء الدين القيسي، "بنائية الأطلال"، ٢٩
[19] صفاء الدين القيسي، "بنائية الأطلال"، ٢٩
[20] إبراهيم نصرالله، حطب أخضر (عمان، دار الشروق: ١٩٩١)، ٨٩
[21] صلاح عبد الصبور، أقول لكم، ٦٧
[22] ثائر عبد الزهرة لازم، "الموضوعية والانطباعية"، ٧٢