كريستيان جوري
باتت جائحة كوفيد-19 خبز المحررين. فهو الخبر الرئيسي اليوم لكننا ننسى الأثر التاريخي للجائحات وكيف اغتنمت الأنظمة السياسية تاريخيا هكذا وضع لفرض هيمنتها على المجتمعات.
في زمن الطاعون والجدري والكوليرا والانفلونزا الإسبانية، كانت الحكومات -تماما مثل اليوم- تجزم كذبا وتستعمل خطابات قليلة الدقة والأكاذيب والتلاعب والدعاية. وبهدف -صادق حتما- لحماية الأشخاص من المرض، كانت هذه السلطات تضع مجموعة من التدابير لفرض رقابة على أفعالهم وعلى تحركاتهم وخطاباتهم. كانت أماكن عيشهم محدودة وتحركاتهم مراقبة، كما يتم فرض حظر تجول. وكانت توجد رقابة للتأكد من أن أحدا لن يقوم بذكر اسم المرض أو الكشف عنه أو عن مدى تفشيه.
ومادامت المجتمعات الخائفة انضبطت بهذا الشكل، كانت الأنظمة تستغل الفرصة لفرض هيمنتها. وبتعلة الاحتياجات الصحية القهرية، كانت تصادق بعجالة على قوانين استثنائية، واضعة بذلك طرقا جديدة للرصد والمراقبة. وبعد انتهاء الجائحة، تبقى هذه النصوص والتدابير حيز التنفيذ رغم تلاشي شروط وجودها1. وكان السكان يعتادون على هذه التغييرات.
مثلت الجائحات إذن سمّا للبعض ودواء للبعض الآخر، وقد لعبت دورا في تحويل المجتمعات عبر التاريخ، إذ عززت بعض الأنظمة وأسقطت بعضها الآخر. يمكننا قراءة مستقبلنا في تجاعيد هذا الماضي.
هجوم على “الإشاعات المتشائمة”
على الصعيد الرسمي، نجت مصر من الأزمة الصحية العالمية، والويل لمن قد يتفوه بعكس ذلك. هذا ما فهمته صحفية جريدة “غاردين” روث مايكلسون عندما طردت من مصر بعد أن زعمت أن الأرقام الرسمية للمصابين بالفيروس لا توافق الحقيقة. أما ديكلن والش مدير مكتب “نيويورك تايمز” بالقاهرة، فقد تم “توبيخه” إثر تغريدة نقل فيها نفس “الإشاعات”. وقد تم تحييد عاطف حسب الله -رئيس تحرير “القرار برس”- لعدة أسابيع بعد أن شكك بدوره في الأرقام الرسمية لعدد المصابين.
تندرج هذه التدابير ضمن سياسة الرقابة التقليدية التي تطبق في مصر على جميع من يعارض نشاط أو خطاب السلطة. لكن الخطر الذي يحلق بالصحفيين والناشطين والمدافعين على حقوق الإنسان أو الإخوان المسلمين أكبر في فترة الجائحة. ففي الأردن مثلا، قام الوزير الأول عمر الرزاز بتفعيل قانون الدفاع للرد “بقوة” على جميع من ينشر “الإشاعات والافتراءات والأخبار الكاذبة التي من شأنها بث حالة هلع”.
تجريم “الأخبار الكاذبة”
وفق الصحافة التركية، أشار الرئيس رجب طيب أردوغان أنه “لا يجب فقط مكافحة كوفيد-19 بل كذلك جميع الفيروسات السياسية والإعلامية”. فهناك يُتهم الصحفيون بنشر “الأخبار الكاذبة” و“الافتراءات” في حديثهم عن الوضع الصحي، ما يمس بـ“معنويات الأمة” ولذا يتوعدهم رئيسهم. وقد سجن مئات المواطنين الذين يعاب عليهم نشرهم على الشبكات الاجتماعية لمعلومات “خاطئة ومستفزة” من شأنها “بث الهلع”. وهو ما حدث لإسمت تشيغيت وغونغور أسلان الذين يعملان ضمن فريق موقع “سيس كوكاييلي” (SES Kocaeli) وقد فهما أنه من الأفضل عدم التطرق مجددا للـ“موضوع”.
أما البرلمان الجزائري، فقد تبنى قانونا يجرم “الأخبار الكاذبة” التي من شأنها المس بالـ“نظام العام وأمن الدولة”، وهو تعبير مبهم يمكن تسخيره لأغراض أخرى. صحيح أنه تم تعليق الحراك الذي بدأ في فبراير/شباط 2019 لأسباب صحية، لكن السلطات لم تتصرف بالمثل، بل واصلت الشرطة إرسال استدعاءات وتواصل الاعتقال والسجن والإدانات ضد المحتجين. ولا نجد من بين السجناء الذين طالهم العفو الرئاسي أي مشارك في الحراك.
في المغرب كذلك، وجه وزير الثقافة والناطق باسم الحكومة المغربية حسن عبايبة تحذيرا للإعلام الذي اتهم بنشر أخبار كاذبة حول انتشار الوباء.
يذكر الجميع مشهد نائب وزير الصحة الإيراني إيراج حريرجي وهو يحاول التقليل من مدى انتشار الفيروس في إيران بينما كان العرق يتصبب من جبينه وقد كان يجهل آنذاك أنه مصاب بكوفيد-19. أما في بغداد، فقد تم تعليق نشاط وكالة رويترز للأنباء التي أعلنت أن الأرقام الرسمية للإصابات والعدوى أقل بكثير مما هي في الواقع.
أما البلدان التي تسمى بالديمقراطية، فليست بريئة من هكذا ممارسات. فالهدف الرئيسي من تسمية الرئيس الأمريكي الدائم الحضور دونالد ترامب لنائبه مايك بنس للإشراف على كل ما يتعلق بمكافحة الفيروس هو مراقبة كل ما قد يقوله مسؤولو الصحة أو العلماء الأمريكيون حول هذا المرض. فسياسة المطفأة لا تفرّق دائما بين الأنظمة.
الوضع الإسرائيلي
من كان يتخيل منذ ثلاثة أو أربعة أشهر أن فيروسا سيكون سبب نجاة الوزير الأول الإسرائيلي بنيامين نتانياهو سياسيا؟ إذ كان من المفروض أن تتم محاكمته في مارس/آذار 2020 في قضية فساد واحتيال وخيانة ثقة. لكنه قام بإغلاق المحاكم وسمح لأجهزة الأمن الداخلي باستعمال بيانات الهواتف الجوالة لمراقبة تحركات المواطنين2. ولم تتم استشارة البرلمان قبل أخذ هذه القرارات التي بررتها الجائحة. إذ بوسع الحكومة الإسرائيلية أن تستعين بنصوص تعود إلى فترة الانتداب البريطاني والتي تمنحها مجال تحرك واسع في فترة طوارئ.
وبحركة أخرى، نجح الوزير الأول في إقناع غريمه السياسي (والذي بات حليفه) بيني غانتس بتشكيل حكومة طوارئ للوحدة الوطنية باسم الأزمة الصحية، وبتركيز السلطة بين يديه. ورغم ممارساته تجاه السلطة القضائية والإعلام، نجح نتانياهو في الظهور بصورة الأب الروحي للأمة، أب يسيء معاملة الديمقراطية في عيون البعض لكنه أب منقذ قد تُغفر له جميع خطاياه في فترة “الخطر الوطني” هذه.
في إسرائيل كما في غيرها من الأماكن، نجد شعورا بالخوف مميزا لانعدام الأمن، شعور يترك المجال مفتوحا أمام قرارات سياسية استثنائية تعزز سلطة الأنظمة. وقد نجح الوزير الأول في اللعب على هذا الوتر بتذكيره بحرب يونيو/حزيران 1967 كما وعد الإسرائيليين أنهم باتحادهم سينقذون “آلاف الأرواح”. نجح نتانياهو في هذا بعد ثلاث إخفاقات خلال الانتخابات الثلاث الأخيرة وها هو يهرب من الجميع. وهكذا بات الناجي سيدا.
من الجزائر إلى مصر
أعلنت الحكومة اللبنانية في مارس/آذار حالة طوارئ واتخذت تدابير للحجر الصحي ومنعت النقل العمومي وأغلقت المتاجر إلخ. وقد رمت من خلال هذه القرارات عصفورين بحجر واحد، إذ قامت بحماية المواطنين وبإرجاع المحتجين الذين كانوا يتظاهرون منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 ضد الطبقة السياسية التي يرونها شديدة الفساد إلى بيوتهم. لا يكاد مصطلح “الدولة” يعني شيئا في لبنان، لذا كانت الطريق مفتوحة أمام الأحزاب السياسية والطائفية لإعادة تلميع صورتها من خلال مد أنصارها بالمساعدات الغذائية والطبية التي تعجز الدولة عن توفيرها. وكانت هذه الأحزاب تنظم زيارات للصحافيين ليشهدوا عن مجهوداتهم لصالح المجتمع، أو تقود حملات توعوية لإظهار تدخلات مجموعاتهم في عقر دارهم أو في بيئتهم الانتخابية.
قامت السلطات المصرية بالتمديد في حالة الطوارئ التي أُعلن عنها منذ أبريل/نيسان 2017، ما يسمح للرئيس عبد الفتاح السيسي بمواصلة ممارسة السلطة من خلال إصدار مراسيم. ويحرص الجيش الذي أوكلت إليه مهمة تطهير الشوارع على أن يحترم السكان الحجر الصحي، لكنه في نفس الوقت يمنع كل تجمع قد تبدو عليه علامات الاحتجاج. اتخذ الرئيس بعض التدابير المالية الطارئة فقام بالتخفيض من الضرائب بالنسبة للتجار والعاملين في مجال السياحة والتخفيض من تكلفة الطاقة بالنسبة للصناعيين. لكن هكذا تدابير لا تشمل الفئات الأكثر فقرا في المجتمع، ومن بينها المياومون. التكفل بأصحاب رؤوس الأموال يعني دعم مجال أعمال الجيش، أي بمعنى آخر تعزيز السلطة.
تم الحكم على مناضلين من الحراك الجزائري وهما كريم طابو وعبد الوهاب فرساوي بتهمة “المس بالوحدة الوطنية” وهي عبارة قابلة للتأويل. أما الحكومة المغربية، فقد أعلنت عن “حالة طوارئ صحية” لم تكن أهدافها صحية فحسب بل أدت إلى تعزيز الحضور الأمني والعسكري في المجتمع على حساب وجود السياسيين الذي يشاهدون هذا الحضور الأمني ولا يملكون سوى تزكية هذه القرارات التي اتخذتها حاشية الملك. فقد باتت إدارة الأزمة الصحية أساسا بيد الجيش، السور المانع أمام كل محاولة لزعزعة الاستقرار الاجتماعي أو الاقتصادي.
أي وحدة وطنية؟
الوضع في تونس خاص، إذ وجدت الحكومة الجديدة نفسها أمام الجائحة غداة حصولها على ثقة البرلمان. وقد أعطى الفيروس فرصة للمؤسسات الثلاث -أي الرئاسة والحكومة والبرلمان- للتبارز بينها وامتحان قدرتها على التأثير على سيرورة الأحداث. وقد اتخذت هنا أيضا تدابير استثنائية واستعان الرئيس قيس سعيد بالفصل 80 من الدستور الذي يمنحه صلاحيات موسعة لتفادي إعاقة “السيرورة الطبيعية للدولة” (إعلان حظر تجول، نشر الجيش، التمديد في حالة الطوارئ).
حددت الحكومة ظروف الحجر الصحي من خلال مراسيم وطلبت من البرلمان تفويضا للحكم بها، وهو ما صادق عليه البرلمان بعد رفض أول من قبل رئيسه راشد الغنوشي. أي أن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة إلياس الفخفاخ باتا يتمتعان بنفوذ استثنائي يجمعان فيه بين السلطة التشريعية والتنفيذية. وسنرى بمرور الوقت إن ساهمت الجائحة في تقريب التيارات السياسية المختلفة من بعضها البعض أو بالعكس، إن أبرزت تناقضات قد تكون لها عواقب وخيمة على الديمقراطية في تونس.
[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]