في إحدى محاولات الدبلوماسية البريطانية اليائسة لفتح الصين على التجارة العالمية في أواخر القرن الثامن عشر للميلاد، جمعت المملكةُ وفداً من الدبلوماسيين والعلماء أوكلت إليهم مهمةَ حملِ هدايا تضم أحدثَ المعدات لتعرضها على الإمبراطور تشيان لونغ. كان الهدف المنشود انتزاع امتيازات للتجار البريطانيين على نفس شاكلة تواجدِهم في بلاد البنغال آنذاك في أمل ترجيح كفة المبادلات التجارية التي استنزفت خزائن الفضة في بريطانيا من أجل استراد الشاي الصيني. تزعّم الوفد جورج ماكارتني، دبلوماسيٌّ ذو خبرة في إدارة المستعمرات البريطانية في بلاد الهند وتمّت المقابلة بإمبراطور الصين أواخر سنة 1793، استعرض فيها الوفد طرودَ الهدايا ومطالبَه لعددٍ من التنازلات التجارية والامتيازات لصالح المملكة البريطانية. لم تَلقَ تلك المطالب ترحيبَ حاكم الصين ورُفضت بأسلوب فظّ يتداول منه المؤرخون عبارة الإمبراطور الشهيرة: "بلادنا تزخر بكل الخيرات وفي غنىً عن المنتجات المبتكرة والغريبة!"
عاد الوفد الخائب أدراجه واستمرَّ حظرُ السِّلعِ الغربيةِ في الأسواق الصينية إلى حروب الأفيون في أواسط القرن التاسع عشر التي فرضت الانفتاح على المبادلات التجارية عُنوةً وفي ظروف جدِّ بائسةٍ للصينيين. استمر عبث القوى الخارجية بمصير البلد منذ ذلك الحين قرابةَ قرنٍ من الزمن واستغرق استرجاعُ السيادةِ الاقتصادية شيئا مماثلا كلف الشعبَ الصيني كوارثَ إنسانيةٍ ثقيلة في محاولات بعث النمو من جديد. يَعزو بعضُ المؤرخين إلى موقف انزواءِ البلدِ في عهد تشيان لونغ تفويتَه فرصةَ الاتصال والتكيف مع معطيات القوة الغربية على نحوٍ مخالف من شأنه بعث الإصلاحات الضرورية لتدارك فارق التقدم. في اشارة مُحتملةٍ إلى الموقف النقيض الذي انتهجه اليابانيون في القرن التاسع عشر مثلاً.
عودة الصين إلى الواجهة الاقتصادية في بدايات القرن الحالي شيء مُثير للإعجاب. يُكرِّس اكتمالَ حلقةٍ تاريخيةٍ انتقلت فيها امبراطوريةُ الوسط من احتكاكٍ غيرِ مبالٍ بقوىً غربيةٍ متناحرة على التجارة الدولية وبسطِ الهيمنة إلى تبنِّي منطقِ المنافسة وبسط النفوذ على حساب قِوى الأمس التي أصبحت تُصارع هاجسَ أفولِ نجمها هي الأخرى اليوم.
انطلاق الصين في مَدِّ طُرقِ التجارةِ الخاصةِ بها عبر القارّات محاولةٌ لتأمين أسواقٍ مستقرة لمنتجاتها وتعزيزِ إمكانياتِ إمدادِ اقتصادها بالمواد الأولية. قد يَليه طموحُ الاستغناءِ عن الدولار الأمريكي في حسم هذه المبادلات. كلها مبادرات لفك التطويق المتنامي الذي تفرضه الولايات المتحدة الأمريكية للحد من التوسع الصيني. تُذكِّرنا هذه المبادرات بمحاولات الأوروبيين في القرون الوسطى إيجادَ طُرقٍ تجاريةٍ بديلة لطريق الحرير، تُجنِّبهم البحرَ الأبيض المتوسط تحت سيطرة سلاطين المسلمين آنذاك، والتي انتهت بهم خطأً على القارة الأمريكية. إذا كانت أسرارُ معابرِ المِلاحةِ العالمية والدروب الأرضية معروفةً للجميع في عصرنا الحديث، فإن التحكم في الموانئ والمحطات، وتشييد القنوات وسِككِ الحديد قد يُتيح إمكانيةَ اِحداثِ مسالكٍ جديدة أو إعادةَ رسمِ معالمِ المبادلات التجارية لصالح أصحابها.
تقليص فارقِ التطورِ الصيني بالدُّولِ المصَنَّعةِ خلال بدايات الألفية لم يعد محل جدال. معدلاتُ النموّ العالية منذ نهاية السبعينات تزامنت مع بداية انجلاء العزلة الاقتصادية للبلد الذي استفاد بدوره من حيوية النشاط الاقتصادي للمنطقة التي تضم اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية. أيّد هذا النموَّ أيضاً تفاني الحزبِ الشيوعي في تهيئة أحسن الظروف لاستغلال وفرة اليد العاملة في خدمة رأس المال الدولي والانطلاقُ من مستويات تنميةٍ جدِّ متدنيّةٍ لتدارك التخلف المتراكم منذ عقود. كلها عوامل تُفسر استقرار معدلات النمو على نفس الوتيرة إلى غاية السنوات الأخيرة.
موقفُ الدول المصنَّعة من غزو السلع الصينية المتسارع للأسواق الدولية كان متساهلاً كون شركاتِها العملاقةِ طرفاً في تحويل المصانع إلى الصين والتي ساهمت من دون قصد في بناء البنية التحتية لاقتصاد التصدير. كما كان متجاهلاً نظراً لتخصُّصِ صادراتِ البلدِ في منتوجاتٍ ضعيفة القيمة المضافة، تَضخُّها ورشاتٌ ملوِّثةٌ في السوق العالمية، والتي تتنازل الدولُ الغنيةُ عن احتضانها طالما تتحكمُ في رؤوس أموال الشركاتِ المستثمرةِ. إلا أن طموح الصينيين لم يلبث أن انتقل شيئا فشيئا إلى الارتقاء بسلسلة الانتاج في سُلّم القيمة المضافة. خاصة في ظل تراجع مؤشرات النمو في الآونة الأخيرة. هو ما يشير إليه اعتزامهم، في مخطط صريح ("منتوج في الصين 2025")، اقتحامَ المنافسة في اقتصاد المعرفة مع هدف الانفراد بالريادة في أفقٍ لا يتجاوز عام 2025. توجهٌ استراتيجي استبعده الكثير من خبراء الاقتصاد مطلع القرن لما يتطلبه من رؤوس أموال ضخمة قلّما تتوفر لدى الدول النامية، ناهيك عن افتقادها عادةً للبيئة الاقتصادية المحفِّزة وللحد الأدنى للإنتاج والتراكم المعرفي.
يُغذِّي هذا التوجه قلقا متفاقما لدى الأمريكيين، الذين تفوقوا منذ حوالي ربعِ قرنٍ في تكنولوجيات المعرفة بدون منازع. وذلك بالرغم من أن فارق الإمكانيات بين البلدين لا تزال تحصيه مؤشرات عديدة يبدو أنّ النُّخبَ الأمريكية لا تُراهن على دوامها في حال استمرار النمو والتوسع الصيني على نفس المنوال. وتيرة التصعيد في الحرب التجارية الأخيرة قُبيل أزمة الوباء أحد تجليات هذا الشعور الذي أصبح محل إجماع الطبقة السياسية بعد ما أجَّجَت الأزمة الحديثَ عن مستويات التصحر الصناعي الأمريكي.
هدف الصين في إحراز التقدم والهيمنة على تكنولوجيات القرن الواحد العشرين قد لا يتم في الأفق المُعلَن. كما قد ينتهي كمحاولاتِ التكتل الأوروبي مطلعَ القرن والتي كُلِّلت بالفشل في السنوات الأخيرة رغم وفرة بيئة اقتصادية ومعرفية محفِّزة. تطلُّعات الصين لتعزيز دورِها في الاقتصاد الدولي وإحباط محاولات الاحتواء الأمريكي قد تصطدم أيضا بتراجع عقيدة التبادلِ الحر لدى شركائها وبردة فعل القوى التجارية الدولية من مشروع طريق الحرير الجديد. كلها تطوراتٌ كانت ساريةً يُفترض أن تَحسِمَ نتائجَها الأزمةُ الصحية العالمية في أوقات وجيزة.