جائحة كورونا : في الحاجة لتقارب خلاق و مبدع لمواجهة استراتيجية الصدمة

جائحة كورونا : في الحاجة لتقارب خلاق و مبدع لمواجهة استراتيجية الصدمة

جائحة كورونا : في الحاجة لتقارب خلاق و مبدع لمواجهة استراتيجية الصدمة

By : Jawad

                    "إننا نواجه اليوم مشاكل حديثة لا تتوفر الحداثة على حلول لها. "
أرتور إسكوبار[1]


        " شكون في الدنيا عل الحق يدافع... ياك لكثير ما فيهم نفع

 مطعونين في الظهر وما ضحينا  بالعمر...ياك أخرها هو لقبر

[...........] .يكفانا اللي حنا فيه

يكفى الجوع وما قاسينا....كل شي ديالنا وحنا مواليه. "

أغنية "المعنى" ـ مجموعة ناس الغيوان 

تُعرِّفُ ناومي كلاين في كتابها "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث" الصادر سنة 2007 استراتيجية الصدمة باستغلال الحاكمين وضع الصدمة والضياع والخوف الذي يسيطر على الغالبية من المواطنين خلال أوقات الأزمات الحادة من أجل تمرير قوانين وقرارات يصعب تمريرها في الأوقات العادية. وتسرد ناومي في كتابها مجموعة من أمثلة لبلدان تعرضت لاستراتيجية العلاج بالصدمة انطلاقا من تشيلي بينوشيه في السبعينيات ومرورا بروسيا في التسعينات ثم العراق بعد اجتياحه بداية هذا القرن، بالإضافة إلى مدينة نيو أورلينز الامريكية. ويعد ميلتون فريدمان المنظر الرئيسي لهذه الاستراتيجية حيث كان يرأس قسم العلوم الاقتصادية بحامعة شيكاغو التي تخرّج منها العديد من المحافظين الجدد والنيوليبرالين أمثال “دونالد رامسفيلد” وزير الدفاع الأمريكي الأسبق. وتتمثل عقيدتهم الاقتصادية في ضرورة إعطاء حرية مطلقة للسوق (اليد الخفية) وانسحاب الدولة من كل عمليات الإنتاج والخدمات، بما فيها الخدمات الاجتماعية التي وجب تسليمها للرأسمالين.

تؤكد الإجراءات والقرارات التي اتخذها الحاكمون في المغرب منذ انتشار فيروس كوفيد19 تبني النخبة الحاكمة لاستراتيجية الصدمة هاته عبر استغلال جائحة كورونا لتطبيق مزيد من السياسات الليبرالية والتقشفية، من جهة، وتشديد الخناق على ما تبقى من الحريات، وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، من جهة اخرى. آخر هذه القوانين التي يتم الاستعداد لتمريرها بسرعة قياسية هو قانون 22.20، الذي يستهدف بشكل خاص المواقع الإلكترونية وأدوات التواصل الاجتماعي ويوسع من دائرة المقدس لتشمل الشركات والماركات التجارية، حيث تنص المادة 14 من المسودة المسربة، في ظل تكتم تام من الحكومة حول نص المشروع، على السجن من ستة أشهر إلى سنة، وغرامة من 5000 درهم إلى 50000 درهم، لكل من يقوم على شبكات التواصل الاجتماعي بالدعوة إلى مقاطعة منتوجات أو بضائع أو القيام بالتحريض على ذلك. في حين تنص المادة 15 من نفس المسودة على عقوبات مماثلة لكل من يحرض الناس على سحب الأموال من مؤسسات الائتمان.

 يأتي هذا القانون كرد على حملة المقاطعة الناجحة التي قادها رواد مواقع التواصل الاجتماعي منذ سنتين والتي استهدفت منتوجات يملكها أشخاص نافذون في الدولة كشركة أفريقيا للمحروقات، التي يملكها أخنوش، وزير الفلاحة والصيد البحري، والشركة التي تنتج ماء "سيدي علي" والمملوكة لعائلة مريم بنصالح، الرئيسة السابقة لاتحاد مقاولات المغرب[2].

كما يعد هذا القانون تعبيرا عن التوجه الأمني والقمعي الذي تعتمده الدولة استعدادا لمواجهة الاحتجاجات التي ستتزايد بفعل الازمة الاجتماعية المرتقبة. فجائحة كورونا وحالة الركود الاقتصادي العالمي الناتجة عنها ستعمقان، وبشكل غير مسبوق، أزمة المغرب الاقتصادية والاجتماعية. هذه الأزمة التي هي في الأساس نتيجة لخيارات اقتصادية ليبرالية فرضها الحاكمون بتوافق مع مستعمرينا القدامى والجدد من خلال برنامج التقويم الهيكلي والإصلاحات المالية. 

تناقش هذه المقالة إجراءات الحكام في المغرب من خلال تحليل ثلاثة محاور وهي: تعميق السياسات الليبرالية والتقشفية وتعميق الطابع القمعي والبوليسي للدولة ثم في التقارب الخلاق في مواجهة التقارب الكارثي.

تناقش هذه المقالة إجراءات الحكام في المغرب من خلال تحليل ثلاثة محاور وهي: تعميق السياسات الليبرالية والتقشفية وتعميق الطابع القمعي والبوليسي للدولة ثم في التقارب الخلاق في مواجهة التقارب الكارثي.
أولا: تعميق السياسات الليبرالية والتقشفية

بمجرد انتشار فيروس كوفيد 19 وتحوله إلى وباء عالمي سارعت الحكومة إلى تمرير مرسوم بقانون يرخص لوزير المالية بتجاوز سقف الاقتراض من الخارج، المحدد بموجب قانون المالية لسنة 2020 بـ 31 مليار درهم، كما يخول للوزارة القيام بتدابير تقشفية لامتصاص المضاعفات السلبية لجائحة فيروس كورونا (كوفيد-١٩)، حسب تعبير مشروع مرسوم القانون رقم 2.20.320.

هكذا قرر الحاكمون استغلال حالة الصدمة التي فرضتها جائحة كورونا من أجل تمرير قوانين تمهد منذ الآن لتحميل تداعياتها الاقتصادية لمن هم/هن في الأسفل، سواء بصفة مباشرة، عبر تدابير تقشفية كوقف الترقيات والتوظيفات في القطاع العمومي، أو بصفة غير مباشرة عبر آلية الديون، التي سيتعين على الأغلبية من الشعب وعلى الأجيال القادمة إرجاعها مضاعفة في السنوات القادمة. كما أن هذه القروض ستزيد من رهن راهن المغاربة الآن ومستقبل الأجيال القادمة بمصالح مؤسسات مالية عالمية بسبب الشروط التي تصاحب قروضها التي تنص على تطبيق مزيد من السياسات الاقتصادية الليبرالية. 

للتذكير فقط، فإن هذه الخيارات الاقتصادية الليبرالية التي انتهجها الحاكمون في المغرب منذ سنوات الاستقلال الأولى هي السبب الرئيسي في تدهور شروط عيش الأغلبية وتدمير الخدمات العمومية الأساسية، وعلى رأسها قطاعي الصحة والتعليم، وهي الحالة التي كشفتها الازمة الوبائية الحالية. لقد عملت الدولة من خلال هذه الخيارات على:

● خوصصة المؤسسات العمومية لفائدة الشركات الخاصة العالمية والمحلية كشركة لاسمير الوحيدة المتخصصة في تكرير البترول في المغرب، واتصالات المغرب، أكبر شركة للهاتف الثابت والأنترنيت والجوال المغرب، وشركة سوناصيد المتخصصة في صناعة الحديد والصلب، و شركة شركة معادن إميضر SMI، المتخصصة في استخراج الفضة والعادن النفسية...الخ.

● تحرير قطاعات حيوية واستراتيجية كإنتاج الطاقة وتوزيع الماء والكهرباء لتصبح تحث سيطرة الخواص.

● تقليص ميزانية الخدمات العمومية الأساسية على رأسها الصحة والتعليم، وفتحها للاستثمار أمام الخواص.

● فتح حدود المغرب أمام غزو المنتجات الأجنبية خاصة مع توقيع المعاهدات النيوكولونيالية للتجارة الحرة مع مجموعة من الدول، كاتفاقيات التبادل الحر مع الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الامريكية وتركيا، والتي خلفت آثارا اقتصادية مدمرة على الصناعات المغربية.  

● تبنّي فلاحة مُوجهة نحو التصدير على حساب الفلاحات المعاشية التي تُوفر القوت الأساسي للمغاربة، مما أدى الى تفقير الفلاحين الصغار واستنزاف الموارد المائية المحدودة أصلا وتعميق تبعية البلد الغذائية[3] (يستورد المغرب اليوم حوالي نصف ما يحتاج من القمح في الوقت الذي كان يتوفر على اكتفاء ذاتي في الستينيات).

ثانيا: تعميق الطابع القمعي و البوليسي للدولة

صاحب قرار الحجر الذي اتخذته السلطات المغربية تجاوزات عديدة للسلطات بالتعدي الجسدي واللفظي والتهكم على المواطنين، خاصة في الأحياء الشعبية. كل هذه المشاهد يتم تصويرها وترويجها في الصحافة بهدف إعادة التطبيع مع القمع تحت ذريعة التطبيق الحازم للحجر الصحي.

وأظهرت العديد من الفيديوهات الموثقة بالصوت والصورة تعنيف مواطنات ومواطنين من طرف رجال السلطة بدعوى عدم احترامهم لحالة الطوارئ، كقائد منطقة عين حرودة، القريبة من الرباط، الذي لم يتردد في صفع وركل المواطنين أمام عدسات الصحفيين[4]. كما أن السلطات شنت حملة ضد الباعة المتجولين عبر تكسير العربات التي يستخدمونها لعرض مبيعاتهم[5]. وتذكر المشاهد المتكررة لأعوان السلطة وهم يقومون بتدمير ممتلكات ومصادر عيش المفقرين في الأحياء الشعبية والسطو عليها بحادثة الشهيد محسن فكري التي كانت الشرارة وراء اندلاع حراك الريف. ففي يوم الجمعة 28 أكتوبر 2016، وقعت حادثة مأساوية مميتة في مدينة الحسيمة في شمال شرق المغرب عندما استولى مسؤول حكومي على بضاعة محسن فكري، بائع أسماك، وألقي بها في شاحنة قمامة بدعوى أن صيد هذا النوع من السمك ممنوع في تلك الفترة من السنة. عندما صعد محسن إلى الشاحنة لاستعادة أسماكه، تم تشغيل العصارة لتدهسه فظيع محسن فكري وترديه قتيلا في الحال.

كما أن هذه الممارسات ومحاولات التطبيع معها، بالإضافة الى القوانين التسلطية التي تسعى الحكومة إلى تمريرها، تؤكد نية الحاكمين استغلال هذه الجائحة من أجل مواصلة وتعميق سياستهم القمعية التي بدأوها منذ سنوات، عبر محاكمات سياسية ظالمة بحق نشطاء الريف وجرادة وكذلك المتابعات التي يتعرض لها كل من فضح الحاكمين وظلمهم، ودافع عن المقهورين والمظلومين أو قال كلمة حق.

بخلاف ما يتم الترويج له بأن الليبرالية الاقتصادية غالبا ما يصاحبها انفتاح ديمقراطي وتطور في مجال الحريات الجماعية والفردية، شكل الاستبداد السياسي في المغرب وتمركز القرار أكبر حليف ومُسهل لفرض الخيارات الاقتصادية الليبرالية،[6] وفتح الباب امام الشركات العالمية للسيطرة على القطاعات الحيوية ذات المردودية العالية كتوزيع الماء والكهرباء وإنتاج الطاقة.

ثالثا: الاستدانة ثم الاستدانة ولا شيء غير الاستدانة

دأب الحاكمون في المغرب وأدمنوا على الالتجاء إلى الاقتراض منذ الاستقلال بالاستناد على علاقاتهم مع المستعمرين كما ان جزء من الديون استخدمت في سداد ديون الاستعمار الفرنسي وفرض نموذج تنموي يجمع الكل اليوم على فشله. تجدر الإشارة إلى أن إجمالي الديون العمومية (الداخلية والخارجية والمضمونة) للسنة الماضية قارب الألف مليار درهم (923 مليار -يونيو 2019) أي ما يفوق 90 في المائة من الناتج الداخلي العام في حين أن خدمة الدين (أصل الدين + الفوائد) تمتص كل سنة ما يزيد عن ثلث الميزانية وفاقت 140 مليار درهم أي ما يعادل 10 مرات ميزانية الصحة. [7]

يصور الحاكمون الديون كحل سحري لا مفر منه للخروج من الأزمات في حين أن الديون شكلت جزءا وسببا في أزمة المغرب البنيوية وأداة سياسية لديموم تبعيته الاقتصادية والمالية. ولا يمكن تصور أي بديل تنموي جدي دون القطع مع دوامة المديونية.

هكذا، وتحت ذريعة مواجهة تأثيرات الركود الاقتصادي العالمي الناتج عن جائحة كورونا، سارع الحاكمون إلى الإعلان في بيان لبنك المغرب بداية شهر ابريل عن قرارهم باستخدام اتفاق خط الوقاية والسيولة الموقع مع صندوق النقد الدولي من أجل سحب 3 مليار دولار. يأتي هذا بعد الإعلان في وقت سابق عن اقتراض المغرب لمبلغ 275 مليون دولار من البنك العالمي لنفس الغرض. 

عوض حل الاقتراض السهل والجبان، كان بمقدور الحكومة أن تقرر بشكل أحادي وسيادي وقف تسديد الديون لهذه السنة الاستثنائية. بنفس المنطق الذي دفع الحكومة الى الاقتطاع من أجور الموظفين بدعوى التضامن في ظل الأزمة ومن دون استشارتهم، كان من الأولى للحكومة أن تفرض على الدائنين المحليين الذين يستحوذون على ثلثي ديون الخزينة وقف تسديد الديون وهو ما كان سيمكن الخزينة من حوالي 30 مليار درهم. كما كان بإمكان الحكومة الالتحاق بالمبادرة التي أطلقتها مجموعة دول الجنوب في إفريقيا وأمريكا الجنوبية لمطالبة المؤسسات المالية والبنوك بتعليق تسديد الديون في ظل الازمة الوبائية الحالية. كما كان بإمكانها فرض ضريبة استثنائية على الأثرياء من أجل مواجهة هذه الازمة، وبدلا من ذلك نجدها تقترض ديونا سيكون الأغنياء أول المستفيدين منها وسيلقى على المفقرين وأبنائهم سدادها مضاعفة. 

1.    البديل التنموي المخزني

تبني الحاكمين لاستراتيجية الصدمة في التعامل مع أزمة كورونا و إصرارهم على الاقتراض ونهج نفس السياسات الاقتصادية الليبرالية والتقشفية التي أثبت التاريخ فشلها على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية يطرح العديد من الأسئلة حول جدية مبادرتهم الأخيرة التي تدعي البحث عن نموذج تنموي جديد.

فأمام هول الأزمة الاجتماعية البنيوية التي يعرفها المغرب منذ مدة وتحذير العديد من التقارير الدولية من تزايد الفوارق الاجتماعية، [8] أعلن الحاكمون، منذ خريف سنة 2017، عن اكتشافهم لخلل في النموذج التنموي الذي فرضوه على الشعب، واستغربوا لعدم استفادة الأغلبية من هكذا نموذج، كما عبروا عن ضرورة إيجاد بديل له. وكالعادة تم تعيين لجنة أوكلت اليها مهمة صياغة مقترحات لنموذج تنموي جديد. لجنة يترأسها وزير الداخلية السابق شكيب بنموسى إلى جانب شخصيات أخرى معظمها يتحمل مسؤولية تطبيق النموذج التنموي الذي يجمعون اليوم على فشله. فهل يعقل حل مشكلة بنفس المنطق والأشخاص والأدوات التي كانت سببا فيها؟

تجدر الإشارة إلى أن نفس المطلب، أي بديل اقتصادي وتنموي، حمله كل من حراكيْ جرادة والريف ليتم التصدي لهما بالقمع وأحكام سجنية وصلت ل 20 سنة. وهو ما يرجح أن تكون هذه المبادرة محاولة جديدة للسطو على هذا المطلب الشعبي وتحويره وإفراغه من محتواه، بالضبط كما فعل الحاكمون مع مطالب الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة.

 إن تبني الحاكمين للمفاهيم والشعارات، التي ينتجها المقهورون من أجل التعبير عن تطلعاتهم، بعد تحريف مدلولها الشعبي وتكييفها مع مصالحهم يسمح لهم بتمييعها والحد من مفعولها التعبوي. كما أن تظاهر الحاكمين بتبني شعارات تقدمية كالمساواة والعدل والديمقراطية وحقوق الانسان يعطيهم مشروعية رمزية هم في أمس الحاجة إليها، حيث يظهرون بمظهر الممثل لمصالح وتطلعات كل فئات المجتمع[9]

2. رأسمالية الكوارث

في الوقت الذي تبنى فيه الحاكمون استراتيجية الصدمة عبر استغلال جائحة كورونا من أجل تمرير قوانين تسلطية والتطبيع مع أساليب القمع والحكرة، سارع جزء من القطاع الخاص إلى تبني رأسمالية الكوارث وذلك باستغلال الأزمة الوبائية وإقبال المواطنين على منتوجاتهم وخدماتهم من أجل التلاعب في الأثمنة وجودة الخدمات وكذلك التلاعب من أجل الاستفادة من صندوق تدبير جائحة كورونا. وتتعدد هنا الأمثلة من فرض البنوك فوائد مضاعفة على المواطنين مقابل تأجيل سداد القروض ومطالبة مؤسسات التعليم الحرة بالاستفادة من الصندوق وابتزازها أولياء التلاميذ من أجل الأداء، دون الحديث عن شركات الاتصالات والأسواق التجارية الكبرى بالإضافة الى المضاربة في المواد الغذائية الأساسية والخضر التي عرفت أثمنتها ارتفاعا ملحوظا منذ بداية الأزمة الوبائية.

ثالثا: في التقارب الخلاق في مواجهة التقارب الكارثي

أكدت نعومي كلاين في أحد آخر استجواباتها على موقع (ذي أنتيرسبت) بعنوان: كيف نهزم رأسمالية كورونا؟[10] أن ميلتون فريدمان، منظر استراتيجية العلاج بالصدمة وأحد اقتصاديي السوق الحرة الأكثر تطرفا، كان مخطئا بشأن الكثير، لكنه كان محقا حين صرح أنه في أوقات الأزمات تصبح الأفكار التي كانت تبدو مستحيلة فجأة ممكنة. لكن ما هي هذه الأفكار ولمصلحة من تصبح ممكنة؟

في الوقت الذي يحاول الحاكمون استغلال الازمة من أجل تعميق سياساتهم وإحكام قبضتهم باستغلال جائحة كورونا وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة، قد تشكل هذه الازمة فرصة تاريخية للدفاع عن بدائل جذرية تمكن من مواجهة أزمة الحضارة الرأسمالية التي أصبحت اليوم تهدد كل أشكال الحياة على كوكب الأرض.

أمام كارثية الوضع اليوم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والايكولوجي واحتداد مختلف أشكال الظلم، يبقى الحل الواقعي هو تغيير جذري وشامل منبثق ومبني مع من هم في الأسفل. تغيير جذري يهدف إلى إعادة تنظيم المجتمع والعلاقات داخله، بما فيها علاقات الإنتاج لتكون في خدمة تلبية الحاجيات الأساسية للأغلبية وكذلك احترام استدامة الموارد والدورات الطبيعية.

إن أي مشروع لتغيير جذري جدي لا يمكنه أن يتجاهل أشكال القهر والظلم التالية:

● الظلم السياسي: الاستبداد السياسي والتسلط وغياب الديمقراطية.

● الظلم الاقتصادي الرأسمالي: الليبرالية الاقتصادية والخصخصة والتوجه نحو التصدير بالإضافة الى التبعية الاقتصادية وأشكال الاستعمار الجديد وما ينتج عنه من تزايد وتعميق للتفاوتات الاجتماعية وتفقير الفقراء وإغناء الأغنياء.

● الظلم البطريركي والمعاناة المضاعفة التي تلحق النساء وتحقير وتجاهل مهام إعادة الإنتاج التي تتحملنها النساء من أجل إعادة إنتاج المجتمع وإمكانية بقاء العنصر البشري [11].

● الظلم الثقافي وعمليات الهيمنة الثقافية وطمس وتحقير هويتنا وكل أشكال المعرفة الأصيلة والمحلية وتعميق الهيمنة الثقافية الاستعمارية خاصة الفرنسية.

● الظلم المناخي والبيئي وعمليات السلب والاستحواذ التي تقوم بها الطبقات السائدة على ثروات المُفقَرين والمُهمشين من أرض وماء وريح وشمس ومعادن ...

كما لا يمكننا أن نتجاهل التقارب الكارثي والمركب بين هذه الأشكال القهرية وتغذيتها لبعضها البعض واستنادها على نموذج التنمية السائد الذي يعمل على تعميقها.

أمام هذا التقارب الكارثي لابد أن يُبْدَع تقارب خلاق ينبني على توحيد مختلف النضالات وأشكال المقاومة التي يبتدعها المواطنات والمواطنون في مختلف المجالات ومختلف المناطق (الحقوق الشُّغلية، والنساء، والسكن، والدفاع عن الأرض والثروات، والحريات الجماعية والفردية ...) يجب أن يُبْنى هذا التقارب على مبادئ التواضع والحوار في مقابل التكبر والإقصاء. يسعى هذا التقارب الى بلورة بدائل بعيدة المدى لمواجهة استراتيجية الصدمة ورأسمالية الكوارث التي تتبناها النخب الحاكمة.  بدائل يجب أن تأخذ بعين الاعتبار واقعنا الملموس، وتنطلق من الإيجابي في ثقافتنا وتراثنا وتتصالح مع هويتنا. بدائلنا يجب أن تقطع مع المنظورات السائدة للحداثة المبنية على ضرورة اللحاق بركب الدول المتقدمة على الشاكلة الغربية. يجب، كما أكد على ذلك فرانز فانون،[12] أن تتعدى أحلامنا وأهدافنا نموذج عيش الأوربيين والأمريكيين نظرا لفشل هذه النماذج اجتماعيا وهو ما أكدته مرة أخرى كارثة كورونا وحجم الدمار الذي خلفته خاصة في صفوف من هم في الأسفل.[13] بالإضافة الى النتائج الكارثية للنموذج الرأسمالي على المستوى الايكولوجي، خاصة ظاهرة الاحتباس الحراري[14] وتراجع مروع في التنوع البيولوجي.

في مقابل كل أشكال السيطرة الممركزة والبيروقراطية وجب أن نضع في صلب بدائلنا تمتع السكان المحليين بسيادة كاملة على ثرواتهم المادية من أرض وماء وشمس ومعادن، يسيروها بشكل ديمقراطي فيما بينهم/هن وبشكل تضامني وتكاملي مع باقي السكان، ونفس الشيء بالنسبة لثرواتهم غير المادية، من ثقافة وفن وأشكال متوارثة من المعرفة وطرق العيش المشترك في تفاعل مع الطبيعة.

البيضاء ـ ماي 2020

م.جواد (مناضل أطاك المغرب)

هوامش

[1] أرتورو إسكوبار (مواليد 1952) عالم أنثروبولوجيا كولومبي٬ من رواد مدرسة نقد التنمية التي تعتبر خطاب التنمية والحداثة الغربي استمرارا للاستعمار والهيمنة على شعوب دول الجنوب.

[2] للمزيد حول حملة المقاطعة هاته يمكن الرجوع لمقال لي في أبريل سنة 2018 بعنوان: أمام ظلم الحاكمين وطغيانهم يصبح عصيانهم ومقاطعة منتوجاتهم واجبا وطنيا 

[3]  للمزيد من المعلومات انظر الدراسة الميدانية الذي انجزتها جمعية أطاك المغرب سنتي 2018ـ2019 تحت عنوان: ”دفاعاً عن السّيادة الغذائيّة بالمغرب: دراسةٌ ميدانيّة حول السياسات الفلاحيّة ونهب الموارد

[4] يمكن مشاهدة الفيديو الذي يوثق لهذه الأحداث على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?time_continue=204&v=MxWiWSfV5XE&feature=emb_logo

[5] يوثق الرابط التالي لمثال عن هذه الحملات بمنطقة الحي المحمدي الشعبية وكذلك احتجاج المواطنين على هذه المماراسات: https://www.youtube.com/watch?v=pyesOSXiDHA

[6]  من أجل المزيد حول العلاقة المركبة بين الاستبداد السياسي والليبرالية الاقتصادية وكيف يستفيد ويغذي كلاهما الآخر يمكن الرجوع لمقالي بعنوان: الشعب المغربي تحت نير الطواحين الثلاث: الاستبداد السياسي، والليبرالية الاقتصادية/الاستعمار الجديد، والتغيرات المناخية.

[7]  انظر مثلا مقالة بجريدة لافي ايكونوميك الصادرة بتاريخ 25 نونبر بعنوان: الدين العمومي يقارب ألف مليار درهم٬ يمكن الوصول إلى هذا المقال عبر الرابط التالي: https://www.lavieeco.com/economie/la-dette-publique-pas-loin-de-1-000-milliards-de-dh/

[8] اعتبر تقرير منظمة أوكسفام لسنة 2019 المغرب من أكثر الدول اتساعا من ناحية الفوارق الاجتماعية ومن بين الدول المفتقرة للعدالة الإجتماعية على المستوى الدولي. ففي الوقت الذي يعاني فيه أكثر من 1.6 مليون شخص من الفقر والتهميش وانعدام الضرورات الأساسية، بلغ مجموع ثروة أغنى ثلاثة من أصحاب المليارات بالمغرب سنة 2018  حوالي 4.5 مليار دولار، بينما يعيش 4.2 مليون شخص في الفقر. يمكن الحصول على نسخة من هذا التقرير عبر الرابط التالي: https://oi-files-d8-prod.s3.eu-west-2.amazonaws.com/s3fs-public/file_attachments/rapport_oxfam_2019_un_maroc_egalitaire_une_taxation_juste.pdf

[9] أو بتعبير غرامشي: تبني هذه المثل من طرف الطبقة المسيطرة يؤمن لها رضى الطبقات الأخرى وقبولها بقيادتها لها.

[10] يمكن مشاهدة النسخة الكاملة من الاستجواب على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=uV-TZlu6MdE&t=397s

[11] للمزيد من المعطيات حول مفهوم إعادة الانتاج الاجتماعي أنصح بمنشور: نسوانية لأجل الـ 99% بقلم تشينسيا أروتسا Cinzia Arruzza *تيتي باتاشاريا Tithi Bhattacharya** نانسي فرايزر Nancy Fraser

[12] "يجب أن يكون مشروعنا محاولة لحل المشكلات التي لم تتمكن أوروبا من إيجاد الإجابات عليها".  فرانتز فانون، "المعذبون في الأرض" (1961)

[13]  شكل سكان الاحياء الفقيرة خاصة السود غالبية ضحايا فيروس كورونا في الولايات المتحدة الامريكية وصلت هذه النسبة لأكثر من الثلثين في بعض المناطق كشيكاغو و ميشيغان  

[14] اكدت كل التقارير العلمية على ان الإنسانية تتوفر على اقل من 10 سنوات من اجل تفادي نقطة اللا عودة المتمثلة في نسبة احترار عالمي يتجاوز1.5 درجة مئوية و نتاجها الكارثية و التي يصعب التنبؤ بها حاليا. انظر مثلا التقرير الأخير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ ‎(IPCC)‏الصادر سنة 2019 بعنوان : الاحترار العالمي بمقدار 1.5 درجة مئوية. يمكن تحميله على الرابط التالي : https://www.ipcc.ch/site/assets/uploads/sites/2/2019/09/IPCC-Special-Report-1.5_SPM_ar.pdf

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬