اليمن واستحالة الخروج من الحرب

اليمن واستحالة الخروج من الحرب

اليمن واستحالة الخروج من الحرب

By : Arabic Editors

هيلين لاكنر

ازداد الوضع سوءا في اليمن خلال الأشهر الأولى من عام 2020، والذي كان في الأصل كارثيا. وبقيت البلاد بعيدة عن أنظار العالم الذي لا يكاد يهتم إلا ببعض مظاهر وباء كوفيد-19، مثل سوء إدارة الأزمة من قبل الحكومات، وعدد الوفيات والآثار الاقتصادية الثانوية.

شملت التطورات في اليمن شدة تدهور الأوضاع السابقة إن كان الوضع الإنساني أو تراجع تدخل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وانهيار اتفاق الرياض واتفاقية الحديدة. يضاف إلى هذه القائمة الرهيبة الهجوم الحوثي في الشمال الشرقي من البلاد والفيضانات المدمرة وسرعة انتشار جائحة كوفيد-19 ومؤخرا إعلان “الحكم الذاتي” من طرف المجلس الانتقالي الجنوبي. وبالنظر إلى التجارب السابقة لن يكون من الحكمة الإيهام بأن الأمور قد لا تزداد تدهورا في الوقت الذي كان من المتوقع أن تحتفل فيه البلاد بالذكرى الثلاثين لتوحيدها.

كيف الخروج من مستنقع الحرب؟

بدت العربية السعودية مصممة خلال نهاية عام 2019 على الانسحاب من المستنقع اليمني بعد ما يقارب الخمس سنوات من التدخل العسكري الذي بات غير مجد أكثر فأكثر. وهكذا تراجعت الضربات الجوية بصفة ملحوظة، في حين كان الهدف من اتفاق الرياض بين انفصاليي المجلس الانتقالي الجنوبي وحكومة الرئيس هادي المعترف بها دوليا هو استعادة التعاون داخل التحالف المناهض للحوثيين. وكان هناك أمل في أن يؤدي تقليص العمليات العسكرية إلى اتفاق مع الحوثيين. كما تُجرى مفاوضات منذ شهور وقد انطلقت بعد الهجمات الصاروخية في سبتمبر/أيلول 2019 ضد منشآت هامة لإنتاج ومعالجة النفط في المملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من تبني الحوثيين لهذه الهجمات إلا أن الدلائل كانت تتجه أكثر فأكثر نحو إيران. وقد أدى هذا الحدث الذي كان صادما بالنسبة للمملكة العربية السعودية إلى محاولة جدية لإنهاء تورطها في حرب اليمن.

تمت إعادة النظر في هذا المخطط في بداية سنة 2020 بسبب هجوم عسكري حوثي في شمال شرق البلاد. وقد قام الحوثيون أولا بالاستيلاء على مديرية نهم، وهي جبهة تقع 60 كيلومترا شرق صنعاء كانت تعرف استقرارا على مدى أربع سنوات. ثم استولوا على أكبر جزء من محافظة الجوف، قاطعين هكذا بشكل شبه كلي الوصول إلى الطريق الرئيسي الرابط بين اليمن والعربية السعودية ومهددين حقول النفط والغاز في مأرب. وتم الالتفاف حول المدينة وسكانها الذين تضاعف عددهم. وصارت المدينة تمثل شبه جزيرة معزولة وسط أراضي حوثية. ورد السعوديون على ذلك بتكثيف الضربات الجوية في الوقت الذي يستمر فيه القتال على الأرض.

وكأن هذه المشاكل لم تكن كافية، شهد “إنجاز” سابق تقهقرا خلال الشهرين الماضيين. ولم تعرف عهدة المبعوث الخاص للأمم المتحدة والتي استمرت إلى حد الآن أكثر من عامين نجاحا.
رغم ذلك، أبدى السعوديون في 9 أبريل/نيسان عزمهم على طي هذا الفصل من خلال إعلانهم عن وقف إطلاق النار من جانب واحد لمدة أسبوعين، وكان من المنتظر أن يستمر هذا القرار طيلة شهر رمضان لأسباب دينية. ورد الحوثيون على ذلك باقتراح مشروع اتفاق سلم طموح بينهم وبين العربية السعودية. وهو مشروع يهمش في صيغته الحالية حكومة هادي، ويعني ضمنيا الاعتراف بأن الصراع يدور بين طرفين: حركة الحوثيين والعربية السعودية. ويرجئ المشروع النقاشات حول المستقبل السياسي لليمن إلى محادثات لاحقة في البلاد.

في غضون ذلك استمر القتال البري والغارات الجوية. عند نهاية الأسبوع الخامس “من وقف إطلاق النار”، أي في منتصف شهر مايو/أيار، وصل التعداد إلى 145 غارة مع 577 ضربة جوية. وباختصار، حقق الحوثيون تقدما عسكريا معتبرا وأنهوا أربع سنوات من الجمود في الجبهة الشمالية وتركوا اقتراحات السلم السعودية بلا جواب. للحوثيين مبادرتهم، وهذا يطرح تساؤلا حول أهدافهم النهائية ورغبتهم الحقيقية “في ترك السعوديين يخرجون من النزاع”. ولم يتم مؤخرا نشر أي معلومة حول تقدم المحادثات بين السعوديين والحوثيين.

مشاكل جديدة في الجنوب

كانت التوقعات بداية 2020 في الجنوب قاتمة بالنسبة لاتفاق الرياض الموقَّع في نوفمبر/تشرين الثاني بهدف المصالحة بين المجلس الانتقالي الجنوبي وحكومة هادي، بعد أن قام الطرف الأول بطرد الثاني من عدن بالقوة في أغسطس/آب الماضي. وقد تزامن ذلك مع الانسحاب الرسمي لدولة الإمارات العربية المتحدة من اليمن بكل معداتها، على الرغم من أن الإماراتيين تركوا وراءهم عدة ميليشيات متحالفة مع المجلس الانتقالي الجنوبي، قاموا بتدريبها وتجهيزها والدفع لها.

دعمت الإمارات رسميا اتفاق الرياض وقد حضر ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد مراسيم التوقيع، غير أن موقفهم الحالي غير واضح. فقد قدم الاماراتيون دعما جويا للمجلس الانتقالي الجنوبي في بعض الاشتباكات في البلاد منذ الصائفة الماضية. كما تم الإعلان من أبو ظبي عن “الحكم الذاتي” للمجلس الانتقالي الجنوبي يوم 25 أبريل/ نيسان من طرف عيدروس الزبيدي، الذي أعلن نفسه قائدا له. وما زاد الأمر غموضا كون الجواب الرسمي الإماراتي الوحيد عن هذا الإعلان حتى هذا اليوم هو مجرد تغريدة لوزير الدولة أنور قرقاش على تويتر الذي لم يدن صراحة المجلس الانتقالي الجنوبي، لكنه ذكر أن اتفاق الرياض يجب أن ينفذ وأنه لا ينبغي لأي طرف اتخاذ إجراءات أحادية الجانب.

وفقا لنص اتفاق الرياض، تعود للتحالف مهمة الإشراف على تنفيذه والتكفل بالوضع في الجنوب. ولكن بعد انسحاب دولة الإمارات وجد السعوديون أنفسهم لوحدهم في الميدان ولم يتمكنوا من تطبيق بنود إعادة الانتشار العسكري الذي يهدف إلى تقليص الوجود العسكري للمجلس الانتقالي الجنوبي في عدن، ولا تمكنوا من إرسال قوات حكومية إلى هناك. احتد التوتر بين الطرفين خلال كل العملية، وفي الأخير اندلعت الحرب بين المجلس الانتقالي الجنوبي والقوات الحكومية في أبين يوم 11 مايو/أيار. ولا تزال الهدنة التي أعلنت بمناسبة العيد قائمة مادام قائد المجلس الانتقالي عيدروس الزبيدي مشاركا في المفاوضات في الرياض بدعوة من السلطات السعودية المعنية بهذا العائق الجديد في خطة انسحابها من اليمن.

كما سبق أن قلت في مقام آخر، كان للمجلس الانتقالي أسباب عديدة أخرى للإقدام على هذه الخطوة: الغضب الشعبي المتنامي بعدن ضد نقص الكهرباء والماء، وتدهور الوضعية المالية التي تمنعه من الدفع لميليشياته ناهيك عن غالبية موظفي الدولة، إضافة إلى انتشار البطالة وتفاقم الأزمة الإنسانية بسبب نقص التمويل وظهور وباء كوفيد-19، وخاصة حدوث فيضانات مدمرة بعدن في 21 أبريل/نيسان. فعدن التي كانت محكمة القبض تشهد حاليا احتجاجات تكاد تكون يومية ضد كل من المجلس الانتقالي الجنوبي وحكومة هادي. ويمكننا التساؤل حول ما إذا كان قرار المجلس الانتقالي الجنوبي حكيما لأنه أدى إلى تفاقم الوضع أكثر من تحسينه.

لقد كشف إعلان الحكم الذاتي عن الحدود الجغرافية لسيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي: كل المحافظات الشرقية وأيضا جزيرة سقطرى انفصلت عنه، ولم يحض إلا بدعم المحافظات الأكثر قربا من عدن والتي تشكل معاقله الرئيسية. اندلعت في بضعة أيام مواجهات في سقطرى، ما زالت لم تحسم بعد، وهي إحدى المناطق التي شهدت اشتباكات بين قوات المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة خلال السنوات الثلاثة الأخيرة. وعلى الصعيد الدولي، كانت هناك إدانة شاملة لإعلان الحكم الذاتي من طرف الدول العربية ومجلس أمن الأمم المتحدة والمبعوث الخاص للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وأهم دول العالم، وشدد جميعهم على التأثير السلبي لكذا إعلان على مشاكل البلاد العديدة.

الحديدة وإخفاق بعثة الأمم المتحدة

وكأن هذه المشاكل لم تكن كافية، شهد “إنجاز” سابق تقهقرا خلال الشهرين الماضيين. ولم تعرف عهدة المبعوث الخاص للأمم المتحدة والتي استمرت إلى حد الآن أكثر من عامين نجاحا. لقد تم تقديم اتفاق ستوكهولم في ديسمبر/كانون الأول 2018 بصفة واسعة على أنه تقدم هام وخطوة أولى نحو اتفاقية سلام أوسع وأشمل. غير أن الجانب الوحيد الذي تم تنفيذه من خلال بعثة الأمم المتحدة لدعم اتفاق الحديدة تعطل خلال كل سنة 2019. ولم يسجل سوى تقدم محدود، أهمه التقليص الملحوظ في الاشتباكات في الحديدة وضواحيها وتفادي هجوم التحالف الذي كان قد يكون كارثيا على المدينة ومينائها لو حدث.

بالكاد بدأت اللجنة المشتركة الخاصة بإعادة الانتشار في العمل حتى قتل قناص حوثي في مارس/آذار مراقبا عن الحكومة. وقد أدى ذلك إلى انسحاب الحكومة من اللجنة وبالتالي توقفها الفعلي. وبالنظر إلى حالة الطوارئ الصحية الحالية المتعلقة بوباء كوفيد-19، من المستبعد أن تؤدي محاولات إحيائه إلى عودة سريعة ومقبولة. إلى يومنا هذا، من الحقيقة القول بأن هذه العملية قد توقفت، حتى وإن حاولت الأمم المتحدة دون شك إعادة بعثها عندما تسمح الظروف بذلك، بينما تستمر في أماكن أخرى من المحافظة حرب منخفضة الحدة.

كابوس إنساني لا ينتهي

برزت المشاكل بين الحوثيين والتدخل الإنساني للأمم المتحدة في 2019 عندما باتت مدى سيطرة الحوثيين على القطاع الإنساني جلية، سواء بخصوص اختيار المستفيدين أو بالأموال المحولة لفائدة الموظفين والمؤسسات الحوثية. وقد منع ذلك الأمم المتحدة من إصدار تقديرها السنوي لاحتياجات سنة 2020 أو وضع خطة للتدخل الإنساني. أعلنت الأمم المتحدة أنها ستحتاج إلى 3,4 مليار دولار لهذه السنة دون تقديم تفاصيل ودون أن تنظم مؤتمر المانحين المعتاد. وبلغ إجمالي التمويل المستلم إلى غاية 25 مايو/أيار 680 مليون دولار، جاء أكثر من نصفه من ألمانيا والمملكة المتحدة والعربية السعودية والاتحاد الأوروبي. خلال الاجتماع الشهري لمجلس الأمن بالأمم المتحدة بخصوص اليمن في أبريل/نيسان 2020، لم يذكر نائب الأمين العام للشؤون الإنسانية لا التقدير المفصل للحاجيات ولا المخطط. واكتفى بالإعلان عن غلق العديد من المشاريع الإنسانية والصحية في الأسابيع القادمة بسبب غياب التمويل. كما أعلن أن الأمم المتحدة في حاجة إلى أكثر من 900 مليون دولار للعمل حتى شهر يوليو/تموز، خاصة في مجال توزيع الطعام ضمن برنامج التغذية العالمي. وتم تأجيل مؤتمر “نداء للتبرع” الذي كان مزمعا عقده في أبريل/نيسان بالسعودية إلى 2 يونيو/حزيران، أي إلى منتصف العام تقريبا.

وبالنظر إلى الضغوط الناجمة عن أزمة كوفيد-19، لا يمكن من دون شك انتظار وعود كبيرة. وبالتالي أصبح من الواضح أن اليمن هي إحدى البلدان التي يمكن أن تقتل فيها المجاعة ملايين الأشخاص. ويعد ذلك أحد الآثار الجانبية لوباء كوفيد-19 الذي يتسبب في انهيار إنتاج وتصدير الغذاء العالميين، وانخفاض التمويل الإنساني العالمي وتعطيل الاتصالات. لا يمكن لهذه العوامل إلا أن تؤدي إلى تفاقم الكارثة في بلد لا يوجد فيه سوى 2800 مرفق طبي عملي نسبيا، وبجهاز صحي غير ملائم أصلا حتى قبل الحرب. ففي حين تؤكد الأمم المتحدة بأن الاستعدادات جارية للتعامل مع الطارئ الصحي الجديد، فهي تذكر أيضا أنه عليها التعامل مع وباء الكوليرا. ويجب التذكير هنا بأن الكوليرا طالت قرابة مليون شخص سنة 2019، وتجاوز عدد الحالات خلال الأشهر الأربعة الأولى لهذه السنة 110 ألف حالة. كما لا تزال أمراض مثل حمى الضنك والملاريا وغيرها موجودة بدرجة وبائية.

هلع مبرّر

تم الكشف عن أول حالة من كوفيد-19 في 9 أبريل/نيسان في مديرية الشحر بحضرموت، وقد شفي المريض. ومنذ ذلك الحين سجلت الإحصائيات الدولية 233 حالة إلى غاية 25 مايو/أيار، وهو رقم لا يعكس الواقع بكل تأكيد. ويتوقع الجميع تفاقم الوضع وعددا مرتفعا جدا من الوفيات بالنظر إلى ضعف البنية الجسدية للسكان بعد سنوات من سوء التغذية وخدمات طبية غير ملائمة، ناهيك عن نقص المرافق للعلاج المتخصص.

من الواضح أن تخصيص 40 مليون دولار من طرف الأمم المتحدة للأنشطة المرتبطة بالتلقيح غير كاف. وقد تم تسجيل مجهود من القطاع الخاص، بمبادرة من مؤسسة هائل سعيد أنعم الخيرية تجمع شركات دولية، لشراء وتوزيع معدات الحماية الأساسية في جميع أنحاء اليمن. في مواجهة بروز أزمة كوفيد-19، انقسم اليمنيون بين عدم التصديق والذعر. ولا تبشر ردود فعل مختلف السلطات في جميع أرجاء البلاد بخير بالنسبة للأشهر القادمة، إذ تميزت بتبادل التهم والعنصرية وكراهية الأجانب والرقابة والتضليل الإعلامي الشامل والقرارات المتذبذبة.

خلال الأسبوعين الأخيرين، انفجر عدد الحالات وعدد ضحايا الوباء، بينما كانت إجابات “السلطات” متنوعة لكنها تشترك في كونها غير مناسبة، بل وتسبب في مزيد من الهلع. وقد توفي المئات في عدن من أمراض غريبة تشبه أعراضها أعراض فيروس كورونا، بينما ترفض المستشفيات استقبال المرضى بل حتى أن بعضها أغلق. ووفق منظمة أطباء بلا حدود، يدفن يوميا في عدن حوالي 80 شخصا. أما في صنعاء، فلم تعط السلطات أي رقم حول عدد الوفيات أو الحالات، كما تمنع تسرب المعلومات. لكن ذلك لم يمنع تقريرا من التحدث عن أكثر من 2500 حالة وعلى الأقل 320 ضحية خلال الأشهر الثلاثة الأولى لشهر مايو/أيار. وقد أمرت السلطات بإغلاق كل الأماكن خلال أربعة أيام بمنسابة عيد الفطر، لكن دون أن تفعل شيئا لفرض ذلك.

وكأن كل هذه الكوارث غير كافية، فقد شهدت البلاد فيضانات مدمرة في نهاية أبريل/نيسان ومست دون تمييز أهم مدن البلاد، منها صنعاء وعدن ومأرب. وقد أدت إلى قطع خدمات الماء والكهرباء عن ملايين الأشخاص، ومست بصفة مباشرة أكثر من 150 ألف شخص. لم يكن عدد القتلى مرتفعا ولكن الكثير من الناس فقدوا ممتلكاتهم وذخيرتهم الغذائية المحدودة التي كانوا قد جمعوها لشهر رمضان الذي كان صعبا بشكل خاص هذه السنة.

يحتفل اليمن في 22 مايو/أيار بالسنة الثلاثين للتوحيد السلمي بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والذي تشكلت عنه الجمهورية اليمنية، ويفترض أن تكون هذه الذكرى مناسبة للفرح. وكون أن معظم اليمنيين ولدوا بعد عام 1990، فليس لديهم ذكريات عن الفترة السابقة أو عن أحلام التوحيد. كان الناس آنذاك ينتظرون بفارغ الصبر في كل البلاد إرساء حرية التنقل ودولة ديمقراطية متعددة الأحزاب وازدهارا يجمع بين الخدمات الاجتماعية للنظام الاشتراكي وبين قطاع اقتصادي خاص مزدهر، وكذلك قانون أحوال شخصية يمنح المرأة حقوقا متساوية، واستهلاك القات أيام العطل والأمن والاستقرار وأشياء كثيرة أخرى. لكن أملهم خاب وبمرارة.

وفي هذه الفترة المظلمة، يجب تذكير جيل الشباب بالأمل والتفاؤل الذي كان سائدا في تلك السنوات واستخلاص الدروس من مرحلة كانت واعدة جدا.

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬