سؤال «ماذا عن الأدب العربيّ؟» لن يُستنفَد، ولن نجد إجابةً شافيةً له أيًا يكن سياق ذاك السؤال. هناك إجابتان سهلتان مريحتان: 1) نظرية المؤامرة: لم يظفر أدبنا بمكانة عظيمة لأنّه مُستهدَف؛ 2) الخلل الجوهريّ في العقل العربيّ: عقلنا قاصر عن التطوُّر إلى مستوى يؤهّله إلى منافسة الآداب الأخرى. الإجابتان قاصرتان وساذجتان وسخيفتان، ولستُ معنيًا في هذه المقالة بالرد عليهما أو مساجلة أصحابهما. لست معنيًا بشكل مباشر على الأقل، ولكن أتمنّى أن يُبقي القارئ في ذهنه مسألة الأدب العربيّ وتطوّره أو عجزه عن التطوّر وهو يقرأ هذه المقالة، ومقالةً قادمةً عن الشاعر الروسيّ ألكسندر پوشكن. بمعنى آخر، سأتحدّث سريعًا عن أدبين من أعظم الآداب العالميّة: الأدب الأميركيّ والأدب الروسيّ، وأحاول إلقاء ضوء على كيفيّة نشوئهما وتطوّرهما، بحيث تكون المقالتان محاولتين غير مباشرتين في مناقشة الأدب العربيّ. لماذا هذان الأدبان؟ لأنّهما ليسا أدبين مغرقين في العراقة كالأدب الصينيّ أو الهنديّ، فعمرهما بلغ مئتي عام فقط، إذ ولدا فعليًا عام 1820، قُبيل ولادة الأدب العربيّ الحديث. افترقت المسارات والمآلات وتطوّرا بينما لم يتطوّر الأدب العربيّ بالتوازي. لماذا لم يتطور الأدب العربيّ أو لماذا تطوّر الأدبان الأميركيّ والروسيّ؟ أبدأ بالأميركيّين اليوم، وأُتبعها بمقالة قادمة عن الروس.
لا بدّ من التّمييز الدقيق، بادئ الأمر، بين «الأدب الأميركيّ» و«الأدب في أميركا». فالحركة الأدبيّة في أميركا حاضرةٌ منذ القرن السابع عشر، ولكنّ صفة «الأميركيّ» لم تتكرّس مع هذا الأدب إلا مع بداية القرن التاسع عشر على يد واشنگتن إيرڨنگ (1783-1859)، من بين كتّاب آخرين طبعًا، بالتوازي مع الثورة الأميركيّة، حيث تحرّرت أميركا من سُلطة بريطانيا وبدأت رحلتها كيانًا سياسيًّا جديدًا مستقلًا. والاستقلال يفترض التملّص من آثار الماضي كلّها، تملّصًا واعيًا على الأقل. بدأت رحلة الأدب في تكريس «هويّة أميركيّة» بالرغم من (وبالأحرى بسبب) تشبّع الأميركيّين بالثّقافة واللغة الإنگليزيّة. وهنا تكمن أهميّة إيرڤنگ، «أبو الأدب الأميركيّ» وفقًا لمعظم الباحثين، حيث تمكَّن من «خلق» أدب جديد انبنى عليه الأدب الأميركيّ بأسره لاحقًا. كان إيرڤنگ أوّل مَنْ حفر للكاتب مكانةً ضمن المشهد الثقافيّ الذي كان بيد أهل الصحافة والفلسفة والسياسة. كان أول من تفرّغ للأدب بعد حياةٍ من التقلّب بين الصحافة والمحاماة.
كتب إيرڤنگ في كلّ شيء تقريبًا، حيث تنوّعت مؤلَّفاته بين التاريخ والسّيرة والقصة والمقال وأدب الرحلات (نجد إشارات وترجمات عربيّة ضئيلة لأعمال إيرڨنك المرتبطة بالسياق العربيّ-الإسلاميّ: قصصه عن غرناطة والحمراء، وكتابه عن النبيّ محمّد). ولعلّ أهم ما تبقّى من إرثه الكبير هو سخريته التي تسلّلت إلى أعمال معظم الكتّاب الأميركيّين بدرجاتٍ متعدّدة، وشخوصه التي حقّقت حضورًا طغى على حضور خالقها، ابتداءً من ددرتش نيكربوكر أعظم مؤرّخي نيويورك في القرن التاسع عشر، الذي بات اسمه مرتبطًا بجماعة الأدباء الأميركيّين في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بحيث باتوا يُسمَّون: «كتّاب نيكربوكر»، وتماهيًا مع أيّ أميركيّ ذي أصول هولنديّة. كان نيكربوكر أول اسم أدبيّ لإيرڤنگ من بين أسماء عديدة، وكان أشهرها على الإطلاق بحيث عجز إيرڤنگ عن انتزاعه من كتاباته اللاحقة، فبات يُحيل قصص على «وقائع» تاريخيّة نقلها المؤرّخ نيكربوكر ذاته. ولم يتمكّن حتى جفري كْريْيُن (الاسم الأدبيّ الآخر) من زحزحة نيكربوكر عن موقعه، فكانت التسوية هي بقاء نيكربوكر سيّدًا للكتابة التاريخيّة، فيما أصبح كرييُن سيّد الأعمال الأدبيّة، على الأخص في كرّاسة سكتشات السيّد جفري كريين (1819-1820) التي ضمّت أشهر أعمال إيرڤنگ القصصيّة.
لا تقتصر براعة إيرڤنگ على الكتابة، بل لعلّها تتجلّى أكثر في ابتكار أسمائه المستعارة. ليس اختياره لاسمٍ يبدأ بحرفي GC (Geoffrey Crayon) اختيارًا عبثيًا، بل هو تماهٍ مع مؤسِّسِ آخر للأدب، أعني جفري تشوسر (Geoffrey Chaucer). ولذا شقَّ إيرڨنگ طريق تشوسر ذاتها: الاستناد إلى الأساطير والفولكلور لكتابة الحاضر. استلهام للأساطير ولكن بعد قولبتها ضمن أدوات جديدة تنأى حتّى عن الشّعر السرديّ لدى تشوسر: مزج جميل بين جوهرَيْ الرسم والكتابة، في جنس أدبيّ هجين من دون قصديّة واعية بالضرورة، إذ لم يكن إيرڤنگ، لا شخصًا ولا براعةً، قادرًا على سكّ مصطلح جديد أو إسباغ تصنيف واضح لأعماله التي كانت تتراوح فعليًا بين المقال والقصة، لذا عدّها مجرّد «سكتش» يصوّر جزءًا من الحياة الأميركيّة على نحوٍ تخييليّ، من دون أن يكون «واقعةً» تاريخيّة بالضرورة، كما كانت أعماله السابقة باسم نيكربوكر. أما التصنيفات السرديّة الأوضح فستظهر مع كتّاب لاحقين: إدگر آلن پو، وناثانيل هوثورن، وهرمن ملڨل (في السرد)، والت وتمن وإملي ديكنسن (في الشعر)، رالف والدو إمرسن وهنري ديڨد ثورو (في المقالات). لم تكن عظمة إيرڨنگ في الكتابة في ذاتها، بقدر ما كانت في «رسم» (أو بالأحرى «خلق») شخوص أدبيّة ستحلّ محلّ مؤلّفيها بحيث تصبح أسلافًا للأميركيّين. ما من ماضٍ مغرقٍ في القدم لسكّان المستعمرات، ولذا لا بدّ من «اختلاق» ماضٍ سرديّ. ولعلّ أعظم شخصيّتين تركهما لنا إيرڤنگ كانا رِپ ڤان وِنكل وإيخابود كرين. هذان بطلا أشهر وأفضل قصّتين من قصص إيرڤنگ: «رپ ڨان ونكل» و«أسطورة سليپي هولو».
أول قضيّة تثيرها هاتان القصتان هي قضيّة التأثّر والأصالة. أين تنتهي حدود التأثّر، وكيف نعرّف الأصالة؟ هل هناك ما يُسمّى أصالةً في العمل الأدبيّ أساسًا؟ بالطبع، ما من عمل تخييليّ كتبه إيرڤنگ من وحي الخيال كليًا، بل استند إلى قراءاته في الأساطير الألمانيّة والهولنديّة وغيرها، ولهذا أقصى بعض النقّاد أعماله اعتمادًا على هذه الحجّة: أعماله ليست قصصًا «أصيلة». ولكن لا بدّ أن نسأل بالمقابل: هل أعمال إيرڤنگ محض اقتباس أو تحوير للأساطير الأصليّة، دع عنك مسألة مدى أصالة تلك الأساطير في المقام الأول (نجد الأمر ذاته لدى الكتّاب الأميركيّين من السكّان الأصليّين حين أعادوا تدوين أساطيرهم بقالب جديد، وربّما لا ينأى عن هذه القاعدة إلا الكتّاب الأميركيّون السود الذين لم يكترثوا للماضي بقدر حرصهم على تدوين الحاضر في تأريخ وقائع العبوديّة). فليست حكاية رپ ڤان ونكل مثلًا إلا تنويعًا آخر ضمن تنويعات كثيرة لا حصر لها من آداب العالم، من الأدبين الصينيّ واليابانيّ إلى قصة أهل الكهف. إذ إنّنا أمام قصة رجل نام فترة من الزمن وأفاق ليجد نفسه في زمنٍ آخر ولكن في المكان نفسه.
ليس المغزى الأخلاقيّ أو حتّى الأسطورة النقطة المهمّة الوحيدة في أدب إيرڤنگ. فاللافت لديه تصريحه معظم الأحيان بـ «أصل» هذه الحكاية أو تلك، وإنْ كان في أحيان أخرى يُحيلها على «واقعة» شهدها المؤرّخ نيكربوكر أو دوّنها. وإن استثنينا أساس القصة المُقتبَس، سنجد تعاملًا جديدًا بالمجمل مع بنية الحكاية، وإضافة تفاصيل تمنح الحكاية جذرًا أميركيًا، بحيث يكون إيرڤنگ بهذا المعنى أول مؤلّف في الجمهوريّة الجديدة. ولكن، بمعزل عن الأصل الألمانيّ لحكاية رپ ڤان ونكل (بحسب تصريح إيرڤنگ نفسه)، غاب عن مؤرّخي إيرڤنگ ونقّاده شخصيّة أدبيّة كبرى كان رپ بمثابة تجسّد أميركيّ لها. نحن هنا أمام كيخوته أميركيّ. ثمة تفاصيل عديدة تشترك بهما الشخصيّتان، بحيث يبدو أحيانًا بأنّنا نتحدّث عن كيخوته نفسه لو حذفنا اسم رپ حين نقرأ: «كان (...) يؤدّي عمل الجميع ما عدا عمله هو، وكان يجد أداء واجبات الأسرة وإدارة مزرعته أمورًا مستحيلة». إنّنا هنا في عالم «التبطّل الخلّاق»، عالم الشخصيّة اللامنتمية التي تُقيم في واقع ولكنّها تعيش فعليًا في واقع مُتخيَّل آخر. فداخل الأسرة، لا نجد تميّزًا لتلك الشخصيّة، فهو خال ونبيل، صاحب مزرعة في حالة كيخوته، وأب صاحب مزرعة في حالة رپ. يعيش الاثنان تحت وطأة «تسلّط نسائيّ» يدفعهما إلى الخيال أحيانًا، وإلى الهروب دومًا. رپ ليس شخصيّة سلبيّة تمامًا كما تراه السيّدة ڤان ونكل، إذ هو محبوب في القرية كلّها. هو صديق الأطفال والحيوانات. هناك يتكرّس تميّزه، خارج أسوار المنزل. أما داخل المنزل فهو خانع، وليس كلبه وولف (نتذكّر هنا حصان كيخوته، روثينانته) إلا صورةً أخرى منه: «إذ عدّتهما السيّدة ڤان ونكل شريكَيْن في التبطّل، بل وكانت تنظر إلى وولف بقسوة لكونه سبب ضلال سيّده». هذا الجو القابض حيث تُمسَح شخصيّته وتفرّده تمامًا كان السبب في رحيله اليوميّ الموقَّت إلى الصيد، حيث يقضي معظم وقته في التأمّل أكثر من الصيد، وإلى الحانة حيث يجتمع الرجال وتنطلق الحكايات. هناك، يعيش رپ واقعه الفعليّ حيث الحكايات التي تبدو جديدة كل يوم رغم تكرارها. ولكنّ امتداد حدود تسلّط السيّدة ڤان ونكل إلى الحانة، حيث باتت تهجم لتوبّخ رپ، دفعَ بطلنا إلى الرحيل في رحلة صيده الأخيرة، ومغامرته الكبرى.
حالما تبدأ رحلة رپ الأخيرة، تظهر براعة إيرڤنگ وافتراقه عن الأسطورة الأصليّة. رحلة رپ هي أداة إيرڤنگ في خلق أسطورة شعبيّة أميركيّة من خلال الوصف البارع للأشياء والشخوص داخليًا وخارجيًا؛ إنّها رحلة من الحاضر إلى الماضي، ثم انتقال بلحظة واحدة إلى المستقبل. ولذا تبدو هذه الرحلة بمثابة مجاز للرحلة الأميركيّة بذاتها. ماضٍ قصير عابر، وحاضر هشّ متقلقل، ومستقبل غامض. فمساعدة رپ للهولنديّ المسنّ كانت نقطة انطلاق رپ إلى الماضي الذي لم نعرفه من خلال سرد حياة رپ التي بدأت فجأة من منتصفها وهو أب وزوج وقرويّ. الماضي ملوّن مبهج راقص، ولكنّ أيّة محاولة لـ «ارتشافه» ستنتهي بالنّفي؛ النّفي إلى المستقبل. وتتجسّد مأساة رپ المنفيّ دومًا في أنّه ضحيّة هذا الزمن، ضحيّة لا تملك أدنى سيطرة على قدرها. مصيرها بيد قوة خارجيّة دومًا. الزوجة في الحاضر، والأسلاف في الماضي، وحتّى حين يبدأ التحرّر في المستقبل، فإنّ هذا التحرّر سيكون رهنًا بإرادة أخرى غير إرادة الضحيّة. إرادة الجيل الذي شهد الثورة الأميركيّة: إرادة الواقع لا الخيال؛ إرادة الفعل.
لا يحسّ رپ بوطأة الزمن حتى بعد أن يستيقظ من نومه/غفلته. ويبدأ إحساسه بالزمن حينما يتفقّد العنصرين اللذين رافقاه في زمنه الماضي: بندقيّة الصيد والكلب. تحوّلت البندقيّة اللامعة إلى «جفت عتيق بجانبه، بماسورة صدئة وترباس خرب ومخزن متآكل»، أما الكلب فقد اختفى. تلاشت هنا آثار الماضي والحاضر كلّها، ولم يتبقّ لرپ إلا التآكل والغياب. لذا «نفض رأسه، ووضع الجفت الصدئ على كتفه، وبقلبٍ يضجّ بالاضطراب والقلق، أدارَ خطواته باتّجاه البيت». وهنا ازدادت وطأة الزمن مع وصوله إلى القرية. نبحت عليه الكلاب وسخر منه الأطفال. وهذا التغيّر في موقف الكلاب والأطفال، وقد كانوا أصدقاءه الوحيدين في ما مضى، يبدو مثل مرآة لخبايا الزمن وتقلّباته. القرية هي ذاتها، ولكنّها تغيّرت. تلاشى الهدوء والبطء، وحلّ زمن السرعة والصخب. الزوجة ماتت، والبنت تزوّجت وأنجبت رپ الحفيد. أما رپ الابن فكان آخر خيط يتعلّق به رپ الأب. حافظَ الابن على مسيرة أبيه في التبطّل والخيال والتأمّل، ولكنّ الفارق (الذي لن نشهده في هذه القصة) هو أنّ سقطة الابن ستكون أقسى لأنّه في زمن ليس زمن تأمّل وخيال وأحلام أبدًا. إنّه زمن «فندق الاتّحاد» بزبائنه العابرين الذي حلّ محلّ الحانة المألوفة التي كانت ملتقى الحكايات. و«بدلًا من الشجرة الضخمة التي كانت تظلّل الحانة الهولنديّة الصغيرة الوادعة، انتصب عمودٌ طويل أجرد على قمّته ما يشبه عباءةً حمراء ومنها يرفرف علمٌ تتجمّع عليه مجموعة نجوم وخطوط – كان كلّ هذا غريبًا وعصيًا على الفهم». تعمَّق الاغتراب وبدأ رپ يشكّ في هويّته بذاتها. كانت ذروة الاغتراب حين بدأ يسمع كلامًا بدا مثل «رطانة بابليّة». هذه الرطانة البابليّة هي التي كانت – بحسب أسطورة برج بابل – بداية الفوضى وسوء الفهم وتبلبل اللغات والناس. كانت بداية زمن جديد ليس أفضل بالضرورة.
وكما كان رپ صديقًا للكلاب والأطفال في الماضي، مالَ الآن بعفويّةٍ إلى الجيل الجديد ليروي لهم حكايته. وفعل الحكاية هنا سيكون تأثيرًا وتأثّرًا في آن. محاولة أخيرة لنقل رسالة الحلم إلى جيل زمن السرعة، ومغامرة أخيرة يحاول فيها كسر شيفرة الزمن الجديد الذي لا يختلف عن الماضي ظاهريًا. فالأمر لا يعدو تحوّله من أحد رعايا الملك جورج الثالث إلى أحد مواطني الولايات المتّحدة. وينهي إيرڤنگ أسطورته بجملة بسيطة تلخّص الأمر كلّه: «لم يكن رپ، في واقع الأمر، سياسيًا؛ وتغيّرات الدول والإمبراطوريّات لا تهمّه كثيرًا». وهذا صحيح تمامًا. ولكنّ الجملة ذاتها تبدو بمثابة سؤال مفتوح على المجهول. ما من اختلاف بالنّسبة إلى رپ الحالم، ابن الجيل السابق، ولكن ماذا عن الجيل الجديد؟ ماذا عن البلد الجديد؟
من كيخوته حالم إلى كيخوته منكسر. من حكاية «بطل» إلى حكاية الحلبة التي هُزم فيها «بطل» آخر. إن كان إيرڤنگ قد جعل الزّمن جوهر حكاية «رپ ڤان ونكل»، فإنّ جوهر قصة «أسطورة سليپي هولو» سيكون المكان. ربما لم تكن للأسماء دلالاتها في القصة الأولى، ولكنّنا هنا سنترجم معاني الأسماء الواردة في القصة الثانية: «إيخابود» له معنى توراتيّ هو «زالَ مجدُ الرَّب»، حيث نجد إيخابود بن فينحاس الذي ولد إثر أخذ تابوت الرب (راجع سِفر صموئيل الأول: 4). إيخابود هو الغريب العابر في سليپي هولو، حيث اسم الوادي هذا يعني «الوادي الناعس». يبدو سليپي هولو هنا بمثابة تجسّد آخر لقرية رپ ولكن في بقعة أخرى من بقاع أميركا بعد الثورة، حيث ثمة «تأثير ناعس حالم يحفّ الأرض، ويخيّم على الجو بذاته». أما الزمان فهو في «حقبة بعيدة من التاريخ الأميركيّ». هنا بالذات تكمن فرادة الأدب الأميركيّ الذي لا تاريخ له. لسنا هنا أمام أدب مغرق في الزمن، بل أمام ماضٍ هو الحاضر بذاته. حاضر قلق ليس إلا تمهيدًا لما سيأتي، لمستقبل صاخب، مستقبل الآلة وتعاظم غربة الفرد. هذه «الحقبة البعيدة» ليست سوى ثلاثين عامًا فقط. ولا معنى للحديث عن الأدب الأميركيّ عمومًا من دون التركيز على نسبيّة الماضي.
سأُدرج الآن أحد أشهر المقاطع من أدب إيرڤنگ، ويكاد يكون هو الأساس الذي تُبنى عليه قصة «أسطورة سليپي هولو» بأكملها. (مع ملاحظة أنّ كلّ ما يرد بين معقوفين هو ترجمة أخرى للعبارة التي ترد قبلها، لأنّ تعدّد المترادفات هنا جزء لا يتجزأ من فهم النص):
أتحدّث عن هذه البقعة الوادعة بكلّ ثناء ممكن، ففي مثل هذه الوديان الهولنديّة الهادئة الصغيرة، المتناثرة هنا وهناك في ولاية نيويورك العظيمة، يظلّ السكّان والعادات والتّقاليد على حالها، فيما سيل الهجرة والتطوّر العظيم، الذي يخلق مثل هذه التغيّرات المتتالية في بقاع أخرى من هذا البلد الذي لا يهدأ [القلق/المتململ/المضطرب]، يتدفّق قربهم من دون أن ينتبه إليه أحد [في غفلة منهم].
إذن، في تلك البقعة الهادئة الواقعة خارج سيرورة التحوّل الأميركيّ، عاش إيخابود كرين (اليانكي) معلّمًا لأولاد القرية. الأولاد هنا هم ذاتهم الأطفال أصدقاء رپ مع أنّ إيخابود يقسو عليهم أحيانًا، ولكنّ كلّ ما عداهم لا يبادل هذا اليانكي الودّ. ليس الأمر عداءً بالضرورة، ولكن يمكن للقارئ أن يستشفّ البرود والتجاهل اللذين يؤطّران القيود اللامرئيّة التي وضعها سكّان القرية البالغون (وهم هنا بمثابة تجسّد لزوجة رپ) على هذا الغريب. ثمة حاجز خفيّ ينتصب بين الطرفين، حاجز يتلوّن بتلوّن الأحداث بحيث يصبح رهبةً أحيانًا، وتشكّكًا أحيانًا، وسخرية دائمًا. وليس للغريب في مثل هذه المواقف إلا المرأة كي تجذّره في الأرض، لذا كان الدخول المباغت لشخصيّة كاترينا في الأحداث. ولكنّ هذه الفتاة هي ابنة هذا الوادي بطبيعة الحال، لذا لم تكن تعطي نفسها كليًا لإيخابود، بل تبقى دومًا على الحافة. ولكي يكتمل الثالوث الأبديّ في الحكاية الخرافيّة (إيرڤنگ اقتبس هذه الأسطورة من حكاية شعبيّة كعادته) لا بدّ من شخصيّة ذكوريّة تشكّل النقيض التام لشخصيّة إيخابود كي يتحقّق توازن الحكاية. ولذا، كان الدخول المباغت أيضًا لشخصيّة بونز. ومفردة «المباغت» هنا تعني بالضرورة إخفاق إيرڤنگ هذه المرة في عمليّة الابتكار، إذ لم تكن الشخصيّات أكثر من كليشيهات معتادة: الفتاة المغناج الماكرة، فتوّة الحيّ الأمّيّ (على الأرجح) صاحب الجسد القويّ وعصابة من التابعين، والبطل الساذج الطيّب «الفاضل» كما يؤكّد إيرڤنگ.
إيخابود كرين (كيخوته الأميركيّ) مهووس بقصص الخوارق والأشباح بحيث باتت تلك القصص هو الواقع الخفيّ بمعنى ما، أما الواقع المعيش بمنطقه وماديّته وبشريّته فليس إلا مظهرًا خارجيًا زائفًا. لا يجد إيخابود أنّ تعايشه مع واقعه «المُتخيَّل» يتناقض مع واقعه المعيش كمعلّم ومتعلّم بل يحاول التوفيق بينهما عبر إدخال ذلك المُتخيَّل في المعيش، حين يروي تلك الحكايات «الخرافيّة» لسكّان القرية. وليس الأمر هنا حالة تملّص أو تهرّب من الواقع بقدر ما هي محاول لإضفاء منطق آخر للمنطق السائد. وكلّ حكاية جديدة تعني واقعًا جديدًا يلتهم الواقع الذي قبله. كلّ أسطورة جديدة تُنهي الأسطورة التي قبلها. والبقاء دومًا للحكاية الأقوى، للخيال الأقوى. ولهذا كانت حكاية المرتزق الألمانيّ، الفارس مقطوع الرأس، هي أسطورة سليپي هولو التي نسفت الحكايات والأساطير الأخرى كلّها. لم يكتف إيرڤنگ هنا باستيراد الأسطورة، بل أوجدَ لها جذرًا أميركيًا. فهذا الفارس هو ضحيّة وبطل الثورة الأميركيّة. الثورة هنا هي ذاتها التي كانت الحد الفاصل بين ماضي رپ ومستقبله. وهي هنا الأسطورة التي ستغيّر حياة إيخابود كرين إلى الأبد. إنّها الأسطورة التي التهمت كلّ ما عداها، من واقع ومُتخيَّل، بشر وأمكنة، ماض وحاضر. ولو استحضرنا دون كيخوته من جديد، فإنّ مشهد المطاردة بين الفارس وإيخابود يشبه مشهد المبارزة الثانية بين كيخوته والقس، حيث يمثّل كيخوته الحلم والخيال والواقع البديل، فيما يمثّل القس المنطق والسُّلطة والواقع المعيش. اللافت هنا هو أنّ كيخوته وإيخابود هما الفارسان الحقيقيّان بمعنى الإيمان التام بمبدأ الفروسيّة الحالمة، أما القس والفارس مقطوع الرأس فهما الفارسان الأكفأ رغم كونهما وليدَيْ كذبة في حالة القس، وأسطورة (خرافة) في حالة المرتزق الألمانيّ. ومن جهة أخرى (وبشيءٍ من فرط التأويل ربما) تبدو المطاردة بين بطل الثورة وقيم ما قبل الثورة. حيث يمكن لنا رؤية الفارس مقطوع الرأس هنا بمثابة جسد فقط، مادة، بمقابل الخيال الذي يستلزم وجود رأس. الصراع هنا (إن كان المجاز ممكنًا) بين قيم الجسد وقيم الروح. باتت الثورة هنا هي الزمن الجديد الذي سيضبط إيقاع الحياة على أساسه. إيقاع التصنيع، والآلة، والصخب، والمال؛ الواقع المناقض لقيم ما قبل الثورة المتجسّدة في الحلم وسيلةً لبناء واقع مغاير.
ستنتهي المطاردة نهاية متوقَّعة. هزيمة إيخابود كرين واختفاؤه، وولادة سيناريوهات متناقضة عن مصيره، وإن كان إيرڤنگ يرجّح هربه إلى ولاية أخرى حيث يكمل تعليمه ويدرس القانون ثم يدخل معترك السياسة وصولًا إلى تعيينه قاضيًا. أي، باختصار، ترويضه ضمن شروط المنظومة الجديدة التي تستلزم قتل الخيال بالضرورة حيث «أُلقي بكتب السحر والخربشة الشعريّة إلى النار فورًا على يد ڤانس ڤان رپر؛ والذي صمّم منذ تلك اللحظة على ألا يرسل أطفاله إلى المدرسة مجددًا؛ قائلًا إنّه لم يجد فائدة تُرجى من هذه القراءة والكتابة». نجد هنا استعادةً لمشهد حرق كتب الفروسيّة في دون كيخوته على يد سُلطة الأمر الواقع: القس. فالشعر والسحر والمغامرات تعني بالضرورة الخيال الذي يخرّب العقول، على الأخص تلك العقول التي تُحضَّر للمهمّة القادمة، مهمّة بناء أميركا ما بعد الثورة، بناء الفائدة-المنفعة. وبما أنّ الفنّ كله لا نفع منه، فلن يكون له معنى في الزمن الجديد. وهنا، يضيف إيرڤنگ ملحقًا للقصة يعرض فيها وجهتَيْ النظر المتضادّتَيْن: المنفعة واللامنفعة؛ المغزى والخيال. ونجده ميّالًا ضمنيًا (على عكس موقفه في القصة) إلى اللامنفعة، إلى الخيال، إلى سحر الحكاية الذي سيتسلّل إلى جيل جديد آخر رغم حرق الكتب. وبالرغم من الاختلافات الهائلة في المدارس العديدة التي اندرجت تحتها أعمال الأدب الأميركيّ، من إيرڨنگ إلى أقصى درجات التشظّي ومابعد الحداثة اليوم، إلا أنّ بوسعنا رسم خط واضح تشترك فيها هذه الأعمال كلّها: تحطيم متواصل للأجناس الأدبيّة، صراعٌ لا يهدأ بين قيم الماضي وقيم الحاضر، هوس شديد بالتأريخ للمكان، نفورٌ هائلٌ من «الواقعيّة» بمعناها المتداول، ومحاولةٌ عبثيّة لإيجاد هويّة واضحة تحاول تحقيق الهدف العبثيّ في «حلم أميركيّ»، ولكن لعلّ هذا التخبّط والتنوّع هو ما يمنح الأدب الأميركيّ أهميّته: هو الحلم الأميركيّ الفعليّ الوحيد حتّى حين بات الأدب معنيًا بالكوابيس الأميركيّة المتلاحقة، إذ لعلّ تشريح تلك الكوابيس هو الدرب الأمثل إلى محاولة فهم ذلك الحلم المستحيل.