لو أن جدتي فرحة التي لم تحبها أمي مطلقا، وماتت ولم تسامحها على أصناف العذاب الذي ذاقته على يدها كما كانت تصر كلما تفرّع الكلام واتجه صوب الجدة بعمامتها الكبيرة كما كنت أراها جالسة في أقصى حجرتها فأدخل وأسلم عليها، فكانت أمي تغضب حال عودتي إلى البيت. كانت تقول لقد جلبت رائحة العجوز معك. كانت أمي تكره العطور، كلها بلا استثناء، لاسيما عطر الجدّة النفاذ الذي يقتحم الرأس قبل الأنف. لو أن جدتي واصلت تشبها بالحياة، بعد موت أبي، لو لم تكتف بخمسة عشر عاما فقط بعد رحيل أبي. لو قررت أن تشهد مطلع الألفية الثالثة، كما شهدت مطلع القرن العشرين. لو أنها قررت أن تشهد سقوط الرئيس الذي اعتقلت حكومته ابنها الصغير وألقته في نقرة السلمان. لو أنها عاشت سنوات قليلة، بعد مشهد الرئيس المخلوع، لو فعلتها لكانت الآن تعد نفسها لكتابة روايتها عن حياة مديدة لم يعشها أحد غيرها، في الأقل أولادها وأحفادها. كانت ستقول لشبحها: كان عمري عشر سنوات عندما دشنت القرن الجديد. وكأنها تخبره بالسر كله، تضعه أمامه وتصمت، وعليه أن يتعلم ويتقن فن الاستماع إن كان يريد حقاً أن يكتب جملة مفيدة بعدها، أو نقلا عنها.
لو أن جدتي خلعت عمامتها السوداء وقررت أن تحكي ما حصل لها، قصتها مع أمي مثلا، المخابئ التي استخدمتها في إخفاء نقودها عن الأيدي العابثة، قصة الرائحة التي تستقبلك على رمية حجر. مرة سألت أمي عن تلك الرائحة. قالت هذه شيطانة تفعل كل شيء.
أظن أن لدى جدتي قصة جديرة بالسرد، وإلا لماذا كانت تجلس وحدها في الظلام وتغرق بالتفكير. في مرات كثيرة كنت أضبطها تتكلم مع شبح يسمعها في الظلام. أمي كذلك كانت تكلم نفسها. لكن أمي كانت تحب النور، تجلس في غرفتها ذات الشباك الكبير وتحكي. غالبا ما كانت تكلم السترة المعلقة في الدولاب. السترة الجوزية التي ورثتها لاحقا بعد وفاة أبي. لا أتذكر أن جدتي وأمي التقيتا في بيتنا أو بيت الجدة. كانا قطبين مختلفين. أشعر الآن بتعاطف خاص تجاه أبي، كيف عاش بينهما؟ إنهما مختلفتان في كل شيء. جدتي مثلا كانت لا تكلم سوى شبح قابع في رأسها، فلم يكن هناك رجل بعينه، جدي مثلا، أو شقيقه وزوجها بعد حين. مثل هذا المشهد لا تحترمه أمي. كان لديها طقوسها المتفردة بالحكي. في غرفتها، وبعد صمت مريب، يبدأ الكلام، كلام أمي مع سترة الزوج الراحل. ثم رويدا تبدأ المواويل، أشعار لا يعرفها حتى الشيطان. حتى الآن لا أعرف هل كانت ترتجل المواويل، أم كانت تستعيدها وتطورها؟ ثم يبدأ النواح. لا أتذكر أن جدتي كانت تختم حكيها بالمواويل، هذا سخف لا تعترف به الجدة، ولا تسمح لحكاياتها أن تلطخها المواويل بأرذالها. هل كان كرهها لأمي سببا لهذا الأمر؟ لا أعرف. وهي كذلك كانت تحكي بتصميم ورغبة متأصلة في نفسها، فلم أسمعها تبكي أبدا. كانت تحكي وكأنها تنتقم من عدو تدعسه أمامها. أمي كانت تحكي قصتها، بينما جدتي كانت تحكي قصصا تخصها وتختمها بقصص مجاورة.
لو عاشت جدتي حتى الآن ربما كانت روت قصصا يعجز غيرها عن تخيلها. كانت ستحكي مثلا قصة غريمتها أمي.