لا أحب الكتابة عن رواياتي في مقالات خاصة لكني أجد نفسي مضطراً لكتابة بعض الأسطر بخصوص «ميرنامه» وجذورها الإبداعية والفكرية. وما يجعلني أكتب هذه المقالة هو الجدل القائم منذ سنوات في الأوساط الثقافية الكردية حول التناص في رواية «ميرنامه» ومشابهتها لروايات عالمية. وكذلك الندوة الأدبية التي انعقدت في مدينة السليمانية من إقليم كردستان- مكتبة غزلنوس حول «ميرنامه» قبل عامين، تلك الندوة التي أدارها الأستاذ نجاة نوري وحضر فيها لفيف من القراء والمهتمين ناقشوا مترجم الرواية الأستاذ صباح إسماعيل حول كثير من القضايا الإبداعية المهمة.
من هذه القضايا التي كانت محور نقاشات كثيرة، قضية تشابه روايتي مع رواية «اسم الوردة» لأمبرتو إيكو، وكذلك مع رواية «اسمي الأحمر» لأورهان باموك. حتى أن الأستاذة بشرى كه س نه زاني المدرسة في جامعة السليمانية رأت في ملاحظات قيمة أرسلتها لي بخصوص الرواية أن هناك خطوطاً تربط «ميرنامه» برواية «سمرقند» لأمين معلوف.
بطبيعة الحال ليس هذا الأمر مفاجئاً لي، فقد سبقت الإشارة إلى هذه الأمور من قبل جمهور القراء والنقاد في كردستان الشمالية خلال الندوات التي حضرتها أو المقالات التي كتبها النقاد أو الملاحظات التي وردتني بخصوص الرواية من قبل جمهرة من القراء. هناك أيضاً تمت الإشارة إلى عناصر مشتركة بين روايتي وروايات باموك وإيكو ومعلوف.
أحب أن أقول إن أي كاتب يدعي بأنه في منأى من التأثر بالكتاب الآخرين، يجانب الصواب ويقفز فوق الحقائق، إذ لا يمكن أن نعيش تحت شمس الإبداع دون أن نستمتع بحرارتها وضوئها. أما من يحب العيش في الكهوف فلن يتأثر بالشمس وربما ينكر أن هناك شمساً تسطع في الخارج. وهنا أود أن أوضح بعضاً من النقاط:
فكرة رواية «ميرنامه» قديمة، تعود إلى عام 1988 حين بدأت بالتعرف على أحمد خاني وعبقريته التي سكبها كلها في كتابه الرائع «مم وزين». قمت بترجمة «مم وزين» إلى العربية وشرحت أبياتها بيتاً بيتاً بالعربية (صدر الكتاب باسم «الدر الثمين في شرح مم وزين» عن دار سبيريز في دهوك وصدر في طبعات متتالية في أمكنة أخرى) كذلك قمت بشرح «مم وزين» بالكرمانجية الشمالية وقمت بصياغة أبيات «مم وزين» من جديد بالكرمانجية المعاصرة لتكون أقرب إلى ذوق القراء وفهمهم. وخلال رحلتي الطويلة مع الخاني لمعت في رأسي فكرة كتابة رواية عنه، فهو شخصية إشكالية وعنده أفكار عظيمة تؤهله ليصبح محوراً لرواية تليق باسمه. كتبت مخططاً أولياً صغيراً في نهاية التسعينيات لكن أموراً كثيرة واهتمامات روائية عديدة شغلتني عن كتابة «ميرنامه» حسب المخطط الذي رسمته.
لقد اعتمدت في مخططي الصغير ذاك على كتاب رائع من تأليف جبران خليل جبران وهو المسمى «يسوع ابن الإنسان». فكرة هذا الكتاب تقوم على شهادات شخصيات عديدة عاصرت السيد المسيح وكل شخصية تروي بطريقتها الخاصة قصة السيد المسيح، حواريون، فريسيون، جنود، نساء وفلاحون إلخ.. بعضهم يقيم تجربته تقييماً إيجابياً وبعضهم ينتقده ويعتبره مجرد مشاغب مغامر. هذا هو السر الذي كشفته حين واجهني النقاد لأول مرة في دياربكر بأن هناك اقتباساً في الأسلوب من أورهان باموك وكتابه «اسمي الأحمر».
لا أنكر أنني لم أقرأ رواية باموك ولم أتأثر بأجوائها، لكن الحقيقة أنني تأثرت أولاً وأخيراً بجبران خليل جبران.
النقطة الثانية هي تأثري برواية «اسم الوردة». وهذه ليست تهمة بقدر ما هي شهادة تقدير. لكن الحقيقة أنني لم أطلع إلى الآن على هذه الرواية (وهو ما أثار استغراب الأستاذة بشرى كه س نه زاني، وعلى كل حال فقد بدأت قراءتها الآن). وحين حدث صخب حول تأثري بها ذهبت لمشاهدة الفيلم أولاً.. لم ألاحظ تشابهاً في الأفكار. لكن قيل لي إن هناك قصة السم أو تسميم الكتاب. اطلعت على الموضوع من خلال المقالات التي تناولت رواية «اسم الوردة» بالنقد والتحليل. ما كتبته مختلف تماماً، وقصة تسميم الكتاب ليست من إبداع امبرتكو إيكو أصلاً فهي موجودة في «ألف ليلة وليلة» (الليلة الخامسة قصة الملك يونان والحكيم رويان). وقد قرأت مؤخراً أن إيكو تأثر بها وجعلها تيمة هامة في روايته.
هنا تحضرني رواية «الخيميائي» لباولو كويلهو أيضاً فهو قد اقتبس فكرة روايته من قصة وردت في «ألف ليلة وليلة» فقام بصياغتها صياغة متقنة واشتغل عليها ليحولها في النهاية إلى رواية شهيرة.
بغض النظر عن كون الأفكار التي ترد في نتاجاتنا موجودة سابقاً أم لا، فإن المهم في نظري هو كيف نعالج المواضيع، كيف نعالج الأفكار التي اقتبسناها وتأثرنا بها؟ إن الأفكار كالعجين، كالخشب، كأي مادة يمكننا صنع كل شيء منها، يتعلق الأمر بالصانع وخياله ومهارته لا بالمادة التي يشتغل عليها.
تحضرني أيضاً رواية عظيمة اسمها «صحراء التتار» للكاتب الإيطالي دينو بوتزاتي وهي الرواية التي تتمحور حول عبثية الانتظار، فلقد تأثر بها صمويل بيكيت في مسرحيته الشهيرة «في انتظار غودو». وهنا لا يتعلق الأمر بالاقتباس بقدر ما يتعلق الأمر بصياغة الفكر في قالب ربما أجمل وأقرب إلى الفهم وأسرع في الانتشار وهنا تكمن العبقرية التي تحلى بها بيكيت وجعلت مسرحيته أشهر بكثير من رواية بوتزاتي.
لقد اشتكى بوتزاتي نفسه من كثرة ترديد النقاد أنه متأثر بفرانز كافكا وكتب ذات مرة: (منذ بدأت أكتب كان كافكا بالنسبة لي صليبي. لا يوجد في أي قصة أو رواية لي ما لا يعثر المرء فيه على تقاطعات وتشابهات مع هذا الكاتب البوهيمي). وقال حين زار مدينة براغ، مسقط رأس كافكا: يقولون إنني أقلد كافكا. وأنا أقول لهم: إنها الحياة.
لا أريد هنا أن أدافع هنا عن «ميرنامه»، بل أريد فقط الإشارة إلى أن اقتباس فكرة أو تأثر كاتب في رواية له بكاتب آخر أو فكرة أخرى لا يلغي قيمة العمل. إنما المهم هو كيف اشتغل المقتبس من المقتبس عنه وهل نجح في إضافة شيء جديد أم أنه كان مجرد صدى باهت لصوت عظيم.