باغتتني زخّة مطر مدرار، في يوم خريفي، فدخلت إلى متحف للعلوم الطبيعية، كي أقضي فيه بضع لحظات. لكنني اضطررت للبقاء هناك ساعة، ساعتين، وربما ثلاثاً. تفصلني الآن شهور عن تلك الزيارة الطارئة، غير أني عاجز عن نسيان تلك المحاجر الفارغة التي تحدّق في المرء بعنادٍ لا تقوى عليه العيون، وتلك الضوضاء المنبعثة من الجماجم، والقهقهة الآلية التي ترقى إلى كل ما اكتشفه علم الحيوان.
والحقُّ أنّ هذا المكان يسرد للمرء أصدقَ الأنباء عن الماضي. فالممكن يبدو فيه خارقاً أو مختلّاً. وفيه نشعر أن اللحم قد توارى منذ لحظة خلقِه، بل إنه لم يوجد أبداً، وأن من المستبعَد أن يكون قد ارتبط بهذه العظام الباذخة المغترّة بنفسها. كان يبدو كخدعة، كحيلة، كثوب تنكّري لا يستر شيئاً. أهذا إذن كل ما في الأمر؟ وإذا كان بهذه الضآلة، فكيف نجح في أن يوحي إليّ بالاشمئزاز أو الرعب؟ لقد كنت دائماً أميل للإعجاب بأولئك الذين هجسوا بلاجدوى اللحمِ، وخلقوا من هذا الهاجس حالة عظيمة: بودلير، سويفت، البوذا... فهو مع شدة وضوحه شذوذٌ، كلما تأملناه مليّاً أشحنا عنه مذعورين، ومن فرط ثقلِه نتّجه للتمعدُن، نتحجّر. إننا بحاجة، لكي نطيق رؤيته أو رؤية فكرتنا عنه، إلى ما يفوق الشجاعة: إلى الكلبيّة. لقد أساء أحد آباء الكنيسة فهم طبيعته حين أطلق عليه اسم: الليليّ، بل وأسبغ عليه مزيداً من الشرف، ذلك أن اللحم ليس غريباً ولا مظلماً، إنه عرضة للهلاك حتى الفحش والجنون، وهو ليس مجرَّدَ مَقَرٍّ للأمراض، بل هو المرض بذاته، عدمٌ عضال، وهْمٌ منحطٌّ إلى مستوى الآفة. إن الرؤيا التي كوّنتُها عنه هي رؤيا حفّارِ قبور أصابه مسٌّ من الغيب. ولا ريب أنني أخطأت حين واظبت على التفكير فيه، فليس بمقدورنا الجمعُ بين أن نحيا وأن نتوقف عنده مليّاً: آنذاك سينهار صنمٌ ضخم. أحسُّ أنه محظور عليَّ إدراكه؛ وأنه يستفيد من هذا، فيجبرني على أن أشيد له تمثالاً متنافر الأوصال، ومن فرط ما استحوذَ عليّ وتَسَلَّطَ صارت روحي أحشاءً. ولو قورن بصلابة الهيكل العظمي ورصانته، لبدا مؤقَّتاً وطائشاً بصورة مثيرة للسخرية. إنه يزخرف ويستر كياني المخدَّر الفاني. لهذا شعرت بالسرور في هذا المتحف الذي يدعونا كل شيء فيه إلى الغبطة بعالَمٍ منقّى من اللحم، وإلى الابتهاج بما بعد الحياة.
في المدخل، ينتصب الإنسان؛ فيما جميع الحيوانات الأخرى مقوَّسة، مرهقة، خائرة، حتى الزرافة رغم عنقها الطويل، حتى الإيغواندا التي تضحكني رغْبَتُها في الانتصاب. أما الحيوانات الأقرب إلينا، هذه السعلاة، وهذه الغوريللا، وهذا الشمبانزي، فكان واضحاً للعيان أن ما عانته من مشقّةٍ لكي تنتصب قد ضاع سدى. لم تحقق جهودها الغاية المرجوّة، فظلت هناك، بائسة، متوقفة في منتصف الطريق، مغتاظة من سعيها وراء العمودية. أي باختصار: محدودبة. لا ريب أننا كنا سنصير مثلها، لو لم نحظَ بفرصة المضيِّ خطوةً حاسمة إلى الأمام. مذّاك، ونحن نشتهي محوَ كلِّ أثرٍ من نَسَبِنا الوضيع؛ ومن هنا نشأ هذا المظهر المتحدي الذي يميز الإنسان. فمقارَنةً به، بوضعة جسمه، وبالنوع الذي أضفاه على نفسه، تبدو حتى الديناصورات خجولة. ولمّا كانت مساوئه الحقيقية في بدايتها، فلا يزال لديه الوقت كي يعيد النظر. فما من شيء إلا وينبئنا أنه، إذا آب إلى طوره البدائي، فسينضمّ إلى هذا الشمبانزي وهذه الغوريللا وهذه السعلاة، وسيشبهها مجدداً، وسيضنيه يوماً بعد يوم تَمَلْمُلُه من وضعيته العمودية. بل ربما سيصير، وقد أذلّه التعَب، أشدَّ تقوُّساً من أصحابه القدامى. وإذ يبلغ عتبة الشيخوخة، سيستسلم، لأن الواضح أنه لن يقوى على فعل ما هو أفضل من هذا.
لا الهيكل العظمي، بل اللحم، وأودّ أن أقول الجيفة، هو ما يقلقنا ويرعبنا؛ - بل ويطمئننا أيضاً. كان الرهبان البوذيون يتطوعون للعمل في مدافن العظام: هل ثمة مكان آخر نئد فيه الرغبة وننعتق منها؟ ولأن المرعب طريق للتحرر، فقد حظيت بقايانا، في كل عصور الورع والتقوى، بمنزلة عظيمة. في القرون الوسطى، حين أُرغمنا على السلام، وآمنّا بنشاط: كانت الجثة منسجمة مع الذوق السائد؛ كان الإيمان يتصلّب بها، ويجمح، كان يعشق كمدة الجيفة ونتانتَها، ويَعلم الفائدة التي يمكن أن تُجنى من التعفن والفظاعة. أما في أيامنا هذه، فقد فترت حدّة الدِّين، ولم يعد مرتبطاً إلا بحماساتٍ مهذَّبة، وبالتطور والتقدم. ومن مصدر آخر غير الدين استقينا المعادلَ الحديث لرقصة الأموات.
قرأت في نص بوذي ( ينبغي لمن يأمل في النيرفانا ألّا يعشق أيَّ شيء). يكفي أن نمعن النظر في أطياف اللحم، في قدره المحتوم، كي ندرك ضرورة الانفصال. ما من ناسك إلا وتنازعتْه الحيرة بين شيخوخة اللحم المرعبة، وثبات الهيكل العظمي اللامجدي. وعلى سبيل التمرين، يفضَّل أن ننفصل من فترة لأخرى عن وجهنا، عن جلدنا، أن نخلع هذا الرداء الخادع، ثم نزيح ولو للحظة هذا الركام الدهني الذي يمنعنا من اكتشاف الأساسي فينا. فإذا نحن حين ينتهي التمرين، أكثر حرية وانعزالاً، وشبه محصًّنين.
لكي نقهر العلائق وما ينجم عنها من مثالب، ينبغي أن نتأمل كائناً ما وهو في أقصى عريه، وأن نسبر بالنظر أحشاءه ورُفاتَه، أن نتمرغ في هول مفرزاته، في فيزيولوجيته التي توشك أن تصير جثة. ولا ينبغي لهذه الرؤية أن تكون مَرَضيّة بل منهجية، هاجساً موجِّهاً، ذا تأثير شافٍ لا سيما أثناء المحن. يحثّنا الهيكل العظمي على الرصانة؛ والجثة على الزهد. وفي درس الهَباء الذي يمنّان به علينا، تصير السعادة ممتزجة بتدمير كل روابطنا. ها قد حفظنا الدرسَ ولم نغفل عن أي تفصيل فيه، لكننا لا نزال حلفاء الظواهر!
رحم الله زماناً كان المعتزلون فيه قادرين على سبر هاوياتهم من دون أن يبدوا موسوَسين أو مشوَّشين. لم يكن اضطرابهم يتأثر بعامل سلبي كما هو حالنا. كانوا يضحّون بعشر سنين، أو عشرين سنة، أو بعمر كامل، فداءَ حدسٍ، فداءَ ومضة من المُطلَق. لم تكتسب كلمة (العمق) معنى إلا في العصور التي اعتُبر فيها الراهبُ النموذجَ الإنساني الأنبل. ….
كل مسعى حثيث منظَّم، بما في ذلك النيرفانا، إذا لم نكن أحراراً في أن نحيد عنه، فهو عقبة كبقيّة العقبات. حين نحوّل المعرفة إلى معبود، تتردى إلى جهل. هذا ما علّمتنا إياه الحكمة الفيدية (من vida أحد كُتب الهندوس الأربعة): (الظلمات الكثيفة تغشى الذين اطمأنّوا إلى الجهل، أما الذين رضوا بالمعرفة فتغشاهم ظلماتٌ أدهى). إن ما ينبغي على البصيرة أن تَؤوْل إليه هو أن تفكّر بلا معرفة، بل ألّا تفكر أبداً وتظل ساكنة تتجرع الصمت. ما من لذة يمكن أن تضاهي اللذة الناشئة عن معرفتنا أننا لا نفكر. سيعترض البعض: أليست معرفةُ أننا لا نفكر، تفكيراً أيضاً؟ لا شكَّ في هذا، ولكننا نتغلب على شقاء الفكر لحظةَ نستعيض عن القفز من فكرة إلى أخرى، بالثبات عمداً في باطن فكرة وحيدة ترفض كل ما عداها بل وتلغي نفسها، بعد أن تبيّن لها أنها تضمر العدم. في الميكانيكية السوية للذهن لا يثمر هذا الجهل إلا إذا استطعنا تجديده كما نشاء: فلا بد له أن يشفينا من الإذعان للمعرفة، ومن التعلق بأي مذهب. إن الخلاص الذي يغرينا ويلبّدنا، ليس خلاصاً. فلنعملْ على التخلي عن كل شيء، بادئين بالرغبة، مولِّدةِ الأهوال. حين نرتجف خوفاً من كل شيء، فإن الملاذ الوحيد هو أن نفكر أن الخوف حقيقي لأنه شعور، بل هو الشعور بامتياز، وأن العالم الذي سبَّبه يتضاءل إلى ركام عابر من العناصر الوهمية؛ وأن نستنتج أن الخوف- باختصار- بمقدار ما يتنامى حين نثق في الأنا والعالم، فهو لا محالة سيتضاءل حين نكتشف غشَّ كليهما. ليس صحيحاً إلا انتصارنا على الأشياء، ليس صحيحاً إلا معاينة هذا الوهم التي تشرئبُّ نحوه بصيرتنا كل يوم، وكل ساعة. الخلاص هو أن نغتبط بهذه الوهميّ ونعيد البحث عنه كل لحظة.
كل كائن- مرئيّاً من الخارج- هو حدث طارئ، وهمٌ (إلا في حالة الحب، ولكن الحب يتوضع خارج المعرفة والحقيقة). ولعله سيكون لِزاماً علينا أن ننظر لأنفسنا من الخارج، عن كثب مثلما ننظر للآخرين، وأن نسعى لئلّا يكون بيننا وبين أنفسنا شيء مشترَك. إذا تصرفتُ ضدّ الأنا كغريب، فسأرى موتي بلا مبالاة شاملة، كما لو أن حياتي وموتي لن يخصّاني. حين ينتميان إلي وأحمل عبئهما، يكلفاني تجاربَ تَفوْقُ قدراتي. أما حين أفترض أنهما غير موجودين باطنياً، وأن عليَّ ألّا أبالي بهما،- فيا للراحة! لماذا إذن، وقد علمتُ أن كل شيء هو في المحصلة مجرد وهم، أواظب على التحمس لهذه السفاسف؟ أتحمّس، هذا مفهوم، ولكني لا أُشغَف، وهذا يعني أنني لا أعتبر أيَّ شاغل حقيقياً. لكني لا أتوصل إلى الالتزام بهذه اللامبالاة، إلا حين أقايض أنايَ القديمة بأنا جديدة، أنا الرؤيةِ الرشيدة، والتي تنتصر هنا وسط الأشباح، حيث كل شيء يؤكدني، وحيث يبدو لي ماضيَّ بعيداً ومبهماً. كنت سابقاً أُعْرِضُ عن هذه الأدلة، وها أنا أتبيّنها بصفاءٍ تام. أما الفائدة التي أجنيها من هذا فهي أنني لم أعد خاضعاً لِلَحمي، ولا لأيِّ لحمٍ. وهل ثمة مكان أفضل (من هذا المتحف) لاجترار الحقائق الثماني عشر عن الفراغ التي تَعرضها نصوص المهايانيين، الشديدي الحرص على فهرسة أنماط العجز المتنوعة! فها هنا يجد المرء نفسه في حالةِ وهميةٍ مبرحة.
يشقُّ علينا تصديق الرابطة الوثيقة بين الخوف واللحم؛ إنه يلتصق به، حتى لَيتعذّر فصله عنه وتمييزه. أما هذه (الهياكل) فلا تشعر به، ويا لها من هياكل سعيدة! الخوف هو العلاقة الأخوية الوحيدة التي تربطنا بالحيوانات، ومع أنها لا تعرفه إلا بشكله الطبيعي، السويِّ إن شئت، فهي تجهل الخوف الآخر، المنبثق بلا مبررات، والذي نستطيع إنقاصه متَّبعين غرائزنا، سواءٌ بسيرورة ميتافيزيقية أو بتحول كيميائي معتوه. خوف يُغِيْر علينا ويكتسحنا كل يوم، في ساعة مباغتة. وسيَلزمنا للتغلب عليه مَدَدٌ من كل الآلهة الغابرين. إنه يَبرز من قاع إخفاقنا اليومي، لحظةَ نوشك على التلاشي إن لم يَحُلْ عدمٌ ما دون ذلك؛ وهذا العدم هو سرُّ عموديّتِنا. إن دوام الاستقامة، الانتصاب، يتطلب كرامةً، وتهذيباً تَرَسَّخَ فينا بمشقة وهو ينقذنا في اللحظة الأخيرة، في هذه الرجفة التي نتشبّث أثناءها بما أمكن أن يشذّ عن مجرى اللحم، المهدَّد، المخترَق بجملة العناصر التي تُحدّده. اللحم يخون المادة، وعقوبته هي هذا الضعف الذي يحدس به ويكابده. بشكل عام، يبدو النشيط قياساً إلى الخامل مذنِباً؛ الحياة هي حالة إجرام، حالة أخطر من أن يعيها أحدٌ بشكل حقيقي. ثمة خطأ يتمادى على الفرد، يُثقل عليه على غفلة منه، وهذا هو الثمن الذي ينبغي أن يسدده لقاء ارتقائه إلى (الفردانية) إلى الكينونة المنفصلة، لقاء الإثم الذي اقترفه بحق الخَلق غير المنقسم، ولكي يكون هذا الخطأ لاشعورياً، تنعدم فيه الحقيقة، ويتبدى في الإرهاق من الخليقة.
في جولتي بين تلك الهياكل، حاولت أن أتصور شحنة الخوف التي كانت ملزَمة بحملها، وحين توقفت أمام القرود الثلاثة، اضطررت لأن أعزو توقفها القسري عن التطور إلى شحنة خوف مماثلة، أثقلتْ عليها وطبعتْها بسيماء الخنوع والفزَع. وحتى هذه الزواحف، أليست رازحة تحت عبءٍ مشابه أرغمَها على الانبطاح بخزيٍ وأجبرها على البدء بإعداد السمّ فور انهيارها لكي تنتقم من عارها؟ إن كل ما يحيا، حيواناً كان أم حشرة مقرفة، ينتفض، لا عمل له غير الانتفاض، كل ما يحيا، بالمعنى البسيط للحياة، يستحق الشفقة. أفكر في كل الذين عرفتُهم، في كل من كفّوا، منذ زمن بعيد، عن التمدد داخل توابيتهم، وتحرروا إلى الأبد من اللحم- ومن الخوف. فينزاح عن كاهلي عبء موتهم.
إن القلَق هو وعيُ الخوفِ، خوفٌ من الدرجة الثانية، تفكير مليٌّ فيه. وهو ينشأ من استحالة التواصل مع الجمع، واندماجِنا فيه وضياعِنا فيه؛ إنه يُوْقف التيّارَ المارَّ من العالم إلينا، ومنا إلى العالم، وهو لا ينشّط منعكساتنا إلا ليدمرها حين تحلِّق، ولا يتوقف عن تبديد الأوهام من الذهن؛ والحال أن كل فكرة هائجة يلزمها شيء من النشوة وضياع الرُّشد والاستعداد للشرود، وبالتالي للتجدد. أما القلَق فإلهامٌ معاكِس، ما إن تَصدر عنا بادرة اندفاعٍ أو شرود، حتى يأمرنا بالعودة إلى سواء السبيل. هذه الرقابة تميت الفكر، تشلّه فجأة، تأسره في حلقة لعينة، تَحْكم عليه بالعجز عن تجاوز ذاته إلا بمعونة وخِلسةً. والحقُّ أيضاً أن مخاوفنا تدفعنا للبحث عن التحرر، لكنها تمنعنا من بلوغه. ومع أن القلِق يرتاع من المقْبل حتى ليجعله شاغلَه الوحيد، فهو سجين الماضي، بل هو الإنسان الوحيد الذي يمتلك (بشكل حقيقي) ماضياً. آلامُه، التي هو عبدٌ لها، لا تدفعه إلى الأمام إلا لكي تتمكن من جرّه إلى الخلف. حتى لَيأسى على الخوف الفظّ، المبهم، المنبعث من كل مكان، والذي هو أصلُ ومبدأُ كلِّ ما عاشه. ورغم شراسة هذا الخوف، فهو محتمَل، لأن كل البشر خاضعون له، يزعزعهم ويفتك بهم، ولكنه لا يفنيهم. وليس هذا هو الحال مع الخوف المرهف )الحديث) التالي لظهور(الأنا)، حيث ثمة الخطَر المنتشر، الكليّ الوجود، الذي لا يتجسد أبداً، خوفٌ منطوٍ على ذاته، يفترس ذاته لأنه لا يجد قوتاً آخر.
صحيح أنني لم أعد لزيارة المتحف، لكنه شغل فكري كل الأيام تقريباً. ولم يكن هذا الانشغال عديم الفائدة. وهل ثمة مهدّئ أقوى تأثيراً من اجترار هذا الاختزال النهائي للكائنات؟ فجأة تَفتر حرارة المخيّلة ونرى مآلَنا: إنه درسٌ، لا، بل نوبةُ تواضعٍ. استخدام مثمر للهيكل العظمي... ينبغي علينا أن نستفيد منه في اللحظات الحاسمة، حتى لو لم يكن في متناول اليد.
لست بحاجة إلى هولبين ولا إلى بالدوغ غرون؛ أما رقصة الأموات فقد أفرطت في استعمالها. حتى صار في مقدوري، بدافع الضرورة أو استجابة لرغبة ملحّة، أن أجرّد أي شخص من إهابه الشهواني. فلِم الغيرة أو الخوف من هذه العظام التي تحمل اسماً ما، من هذه الجمجمة التي لا تحبّني؟ ولماذا أُحبُّ شخصاً ما أو أحب نفسي؟ لماذا أحتمل كل هذا العناء، ما دمت أعلم ما هي الصورة التي ينبغي أن أتذكرها كي ألطِّف هذه الشقاءات؟ يستمد الوعي حياته من الأخطار المحيقة باللحم أثناء مواجهة الدمار والحب والبغضاء. وأقصى ما يقدر عليه في الواقع هو أن يخفّف من هذه الحالات، وفي لحظات نادرة أن يروّضها. وسيتم هذا ببساطة متناهية: سيكفيه أن يتمثل الموت لكي يشعر بالسعادة، وسيجني فائدة عظيمة من رقصة الأموات، لأنها تلبي رغباتنا الدفينة.
أشكُّ في أنه يتوجب عليّ التردد إلى مثل هذه الأمكنة، مادام واضحاً أنها تفضح عجزي عن الانخداع. هنا، حيث الإنسان لا شيء، ندرك الفشل الذريع لعقائد الخلاص، وعجزها عن تفسير الماضي وحلّ ألغاز المستقبل. ليس للخلاص معنى إلا بالنسبة لكل فرد منا، على حدة، أما للجمع فهو عديم القيمة، بسبب عجزه عن فهم العلاقة الموجودة بين فكرة الخواء والشعورِ بالحرية. يستحيل على المرء أن يفهم كيف يمكن إنقاذ الإنسانية وهي محاصرة؛ مغمورة بالأخطاء، ومصرّة على الخلط أبداً بين الشبَه والجوهر لأنها منذورة لحقيقةٍ وضيعة. وإذا ارتضت، معاكِسةً كلَّ برهانٍ، أن تتّبع مساراً صاعداً، فهي لن تقوى، إذا شئنا استخدام مصطلح صعودها، على تحقيق درجة البصيرة التي بلغها أبْلَدُ السانياسين الهندوس. بل يستحيل علينا في الحياة اليومية معرفةُ ما إذا كان هذا العالم واقعاً أم وهماً، وكل ما يمكننا فعله، كل ما نفعله حقاً، هو الانتقال الدائم من فرضية إلى أخرى، مغمورين بالسعادة لأننا تجنَّبنا خياراً لن يحل أبداً أيّاً من معضلاتنا الراهنة.
إن النباهة مستقلة عن القدرات الذهنية: يمكن أن يكون المرء عبقرياً وأحمق، هذا مفهوم من الناحية الروحية. من ناحية أخرى، ليس لنا التفوق المعرفي الذي ندّعيه. إذ يمكن لرجل أمّيٍّ أن يحوز(عين المعرفة)، ويجد نفسه في مقام أعلى من مقام أيّ عالِم. لَأنْ تدرك أنّ ما أنت عليه ليس أنت، وأنّ ما تحوزه ليس لك، وأن تكفَّ عن الضلوع في العدم، بل ألّا تكون لك حياةٌ خاصة،- تلك هي الرؤية الصائبة، وهذا هو الغوص حتى الجذر العدمي لكل شيء. بقدر ما تنفتح للخواء وتتأثر به، تنجو من قدَريّةِ أن تَكوْن ذاتاً، وأن تكون إنساناً، وأن تكون حيّاً. إذا كان كل شيء خواءً، فإن هذه القَدَريّة الثلاثية خواءٌ أيضاً. ها قد خبا سِحر التراجيديّ، فجأةً. تُرى هل البطل الصريع أقلّ شأناً من البطل المنتصر؟ ما من فخامة لأية نهاية جميلة، وسواء أكان هذا العالم حقيقيًاً أم لم يكن؛ فإنها لبلاهةٌ صرف أن نفتتن بأية خاتمة مهما كانت. إن رضاك بأن تكون حامل ( قدَر) يضلّه أو يغويه (الاستثنائي)، يدل على أنك ما زلت منغلقاً عن كل حقيقة سامية، وأنك بعيد عن حيازة (العين) المتسائلة. إن تحديد موقع شخصٍ ما، يعني تبيان درجة نباهته، والنجاحاتِ التي حققها في إدراك الضلالات الكامنة في الآخرين وفي ذاته. ما من صلة معقولة تربطنا بمن يغترُّ بما هو عليه. كلما اتسعت المسافة التي تفصلنا عن أفعالنا، تضاءلت مواضيع الحوار وقلَّ عدد أقراننا. لا تسبب هذه العزلة مرارةً، لأنها لا تنشأ من مواهبنا بل من تنازلاتنا. بل ينبغي أن أضيف أيضاً أنها لا تقينا أبداً من خطر الزهو الروحي، الذي يدوم جميلاً وخيّراً ما دام المرء عاكفاً على التضحيات التي ارتضاها والأوهام التي رفضَها. وأنّى له أن يقهر ذاته، فيما يصر الانفصال على الإمساك بزمام الوعي؟ هكذا فإن ما يجعله ممكناً يهدده في اللحظة ذاتها. في نظام القيم الباطنية: كل سموِّ لا يغدو مبهماً، ينقلب خسراناً. ليتنا نقوى على التملص من العالم على غفلة منا! ستلزمنا المقدرة على نسيان أن الانفصال استحقاق، وإلا سَمَّمنا بدل أن يحررنا. إن الوسيلة الفعالة للنضال ضد الكبرياء هي أن نُرجع إلى الله نجاحاتِنا في شتى الميادين، أن نعتقد بأن لا شيء ينبعث منا، وأن كل شيء منحة، متّبعين في ذلك نهج إيغناس دو لويالا. إن التضرع ضروري في الحالات الخاطفة حيث لا غنى عن تدخّل العناية الإلهية، ولكنه ليس كذلك في حال الانفصال، لأن الانفصال فِعْلُ هدمٍ، طويلٌ وشاقّ، تقع (الأنا) ضحيّته: كيف لا نستمد منه الزهو؟ لقد ارتقى مستوانا الروحي، ولكننا لم نتغير نوعيّاً، فما زلنا سجناء حدودنا: وعاقبةُ هذا، وهي عاقبة مخزية، أن نعجز عن استئصال الخيلاء الروحي. لقد لاحظ القديس توما أنه: (ما من مخلوق يقوى على بلوغ أسمى درجات الطبيعة إلا إذا كفَّ عن الوجود). بيد أن ما يشغل بال الإنسان هو رغبته في أن يتفوق على طبيعته. ولئن لم يفلح في هذا، فإن الجهود المضنية التي بذلها ستفسده وتشوِّهه. ولهذا لا يضع المرء غايته موضع تساؤل إلا وهو مفعم بالقلق والشغف. ولا ريب أن من الأجدى له أن يشفق على هذه الغاية لا على نفسه (وهذا ما فهمه باسكال جيداً). وبمرور الوقت ينهكه هذا الشغف فلا يبقى لفكره شاغلٌ غيرُ سبل النجاة منه. لا مصيبةُ أن تكوْن ذاتاً، ولا مصيبةُ أن تكون حيّاً، يمكن مقارنتهما بمصيبةِ أن تَكوْن إنساناً، ومنذ أن لاحقتني هذه المصيبة دأبتُ، لكي أنجو منها، على التجوال ذهنيّاً بين هذه العظام البالية، التي كثيراً ما أنجدتني مؤخراً؛ إذ أتمعن فيها، وأتشبّث بها: ولأن يقيني بالخواء راسخ، فهي تعينني على أن أحدس باليوم الذي سأزيح فيه عن كاهلي هاجس الإنساني، وكل الأغلال الفظيعة الأخرى. ينبغي الانعتاق من هذا الهاجس بأي ثمن، إذا أراد المرء أن يكون حراً؛ لكن لكي نتحرر حقاً لا بد من المضيّ خطوة أبعد: أن ننعتق من الحرية ذاتها، أن نحطّ من شأنها إلى مستوى حكم مسبَق أو ذريعة حتى لا تستعبدنا... حينها فقط سنشرع في تعلّم كيفية الحراك بدون رغبة. واستعداداً لهذا أتأمل في المرعب: إن الطواف حول اللحم واهتراءاته، هو إتقان لمهارة الفصل بين الرغبة والفعل،- وهي عملية مؤذية للأذهان المضطربة، وضرورية لمحبّي التأمل. إن الرغبة تستجلب الخضوع والاستسلام للعالم، وحالَما نعفّ عن الرغبة نضمّ مزايا المادة إلى مزايا الربّ: فلا نعتمد على أحد. والحقُّ أن الرغبة غير قابلة للاستئصال، لكن ما من سلام يعادل الذي تشعر به بمجرد التخيل أنك قد استغنيت عنها! سلام غريب تخالطه متعة منحرفة: هذا الشعور المريب ألا يتبدى لنا كأنه انتقام من الطبيعة ضد من تجرّأ على التوق إلى حالة ليس لها إلا نصيب قليل من الطبيعية؟ إنه نجاح نادر، خارج النيرفانا ضمن الحياة- تطرّفٌ لا يمكن بلوغه عملياً- لأن كبح الرغبة خرافة؛ فنحن لا نلغيها بل نعطلها، وهذه العطالة، ذات القوة الخارقة، تترافق بشعور بالسيادة وبيقين جديد مجهول. ترى ألن يفسَّر رواجُ الرهبنة، في القرون الماضية، بهذا الانشراح الناجم عن انحسار الشهوات؟ تلزمنا قوة لمحاربة الرغبة، وهذه القوة تتضاعف حين تنكفئ الرغبة، فحين نوقف الرغبة، سيتوقف الخوف أيضاً. ولكي يحظى القلَق بهدنة مماثلة، ينبغي علينا المضيّ أبعد، إلى أن نخلخل المدى، وننتشي بغبطة مجردة، ونفعَم بحماسة يقترن الوجود فيها بالعدم.
[المقال من كتاب Cioran- Oeuvres- Quarto Gallimard- Paris 1995: Le mauvais démiurge- paléontologie -p. 1192- 1202]
[ترجمه عن الفرنسية أحمد حافظ]